تَمَوُّج الصورة وانسياب الدلالة في ( تغريبة السوداني الأخير ) للشاعر د. محروس بريِّك
د. شعبان عبد الجيِّد | ناقد مصري
أولا – القصيدة
بحرُ الهمومِ على الجوانحِ مُطبِقُ
والصمتُ زادٌ.. والترقُّبُ زورقُ
لا صرخةٌ تنجي وقد عبَسَ المدى
والموتُ في كل الزوايا مُحدِق
ما ضرّنا غَرَقُ البلادِ وكلُّنا
من ألف عامٍ في المصائب يغرقُ
لا النيلُ يحنو وَهْو كان حياتَنا
كلا ولا الموجُ المزمجرُ يُشفِقُ
وحدي وقد رحل الذين أحبهم
والماءُ موتٌ.. والفؤاد ممزقُ
لا نوحَ نادى: اركب معي، وأنا الذي
قد كدتُ من نور الحقيقة أُحرَقُ
لو كنت من آل اليهود لقيل: ياااا..
اركبْ… ودمعُ المُغرَقين تَرَقرَقُ
ولأنزلوني فوق جُودِيِّ الرضا
ولَغاضَ خوفٌ.. واستطال المشرقُ
ولقيل: يا موسى نجوتَ فلا تَخَف
وأقام حولي فتيةٌ وتحلقوا
أنا لا ألومُ النيل في طغيانه
قد كان يَرفُلُ.. والخطوبُ تُمزِّقُ
قومي يفيض على سوايَ حنانهم
وأنا عليهم بالمحبة أُغدِقُ
إن ينعموا خلفي فلستُ بنادمٍ
لكنْ أرى موتًا ونارًا تُحرِقُ
وأرى أُسارَى في الحديد ونسوةً
وبدار ذُلٍّ أطرقوا وتخندقوا
اليوم فاض النيل حتى ضمّني
وغدًا يغيضُ.. فلا بقِيتُ ولا بَقُوا
ثانيا القراءة:
بحرُ الهمومِ على الجوانحِ مُطبِقُ
والصمتُ زادٌ .. والترقُّبُ زورقُ
لا يُمكن أن تفرَغَ من قراءة هذا البيت الأولِ من قصيدة (تغريبة السودانيِّ الأخير) للدكتور محروس بريِّك، دون أن تستدعيَ ذاكرتُك بيتَ شوقي الأشهرَ في رائعته الخالدة عن النيل :
من أيِّ عهدٍ فـــي القُرى تتدفَّقُ؟
وبأيِّ كفٍّ فـــــي المدائنِ تُغدِقُ؟
وسوف يخطرُ ببالك ـ ومعك الحق الفنيُّ ـ أن الشاعرَ قد استلهمها في قصيدته وقعاً وإيقاعاً ؛ فكلتاهما من بحر الكامل، وهو من أكثر بحور الشعر دوَراناً على ألسنة الشعراء، لسلاسته وسعته وقدرته على استيعاب ما يريد الشاعرُ قولَه في سهولةٍ ويُسر. وقد أسماه الخليلُ كاملاً لكمالِه في الحركات؛ حيث يشتملُ البيتُ المنسوجُ منه على ثلاثين حركة .
تتفق القصيدتان فيما بينهما في الحديث عن (النيل)، بَيدَ أنهما تفترقان بعد ذلك حتى لا تكادان تلتقيان : سياقاً وزمناً وغايةً وأسلوباً ؛ فلا البواعثُ ـ نفسيةً وتاريخية َـ واحدة ، ولا العصر الذي عاش فيه كل شاعرٍ يشبه عصر صاحبه ، ولا الغاية من إنشائهما لقصيدتيهما متفقة، ولا طريقتُهما في صوغ الكلام ورصفه مشتركة، ولستُ هنا في معرض الموازنة بينهما، فذلك أمرٌ لا تتيحه المساحةُ المتاحة في مثل هذه الصفحة ، ولا تُقرُّه العلاقة بين قصيدتين: أولاهما تقع في مائة وثلاثةٍ وخمسين بيتاً ، والثانية لا تتجاوز أربعة عشر بيتاً ؛ وإن كان بينهما من الشبه ما يغري بالإشارة إليهما معاً .
فلنتركْ قصيدة شوقي إذن، ولْنضعها حيث وضعها الشاعرُ نفسُه؛ لتستقرَّ في مكانها البعيد كخلفية تاريخية قديمة ، لصورة مأساوية معاصرة، تفاجئنا أولُ ملامحها في هذا العنوان الشجيِّ (تغريبة السودانيِّ الأخير)، الذي يعود بنا إلى شيءٍ من موروثنا الشعبي الحزين في (تغريبة بني هلال)، ورحيلهم الاضطراري عن بلادهم في جزيرة العرب ، وتغربهم إلى تونس، الغرب جغرافيًّا والغربة نفسيًّا.
وهو عنوان يضعنا في قلب المأساة لا على عتبتها، ويثير في النفس أسى مرًّا على ما سببه فيضانُ النيل الأخيرِ في السودان من مآسٍ مفجعة ، وما كشفه في الوقت نفسه من واقعٍ عربيٍّ مخجلٍ ومخزٍ ؛ لا تتحد فيه كلمة قادة ، ولا يجتمع فيه رأي أمة ، ولا تلتقي فيه مشاعر عشيرة ؛ ويجعلنا نعود إلى شوقي مرةً أخرى، ونتذكر في حسرةٍ بالغة ما قاله في وصف أمتنا ذات يوم :
كلَّما أنَّ بالعراقِ جريحٌ
لَمَسَ الشرقُ جنبَه في عُمانِه !
تلك أمةٌ قد خلت ؛ ولا سبيل الآن إلى استعادتها، ما دامت الحكومات باطشة، والصفوف منقسمة، والمطامع متصارعة . وهو ما جعل ذلك السوداني البائس يصرخ بتغريبته الدامعة؛ لعلها تجد آذانا تسمع أو قلوباً تعطف أو هِمماً تستجيب !
ومنذ البيت الأول وحتى البيت الأخير ، والصور تتموَّج متلاحقة، أو تتلاحق متموِّجة ، وكأنها هذا النيلُ القاسي الذي أزعج الحرث والنسل، وكاد يغرق البلاد والعباد، ثم تنساب المعاني متدفقةً، يتلو بعضُها بعضاً، لنرى أنفسَنا في خاتمة المطاف (أو الطوفان) أمام لوحةٍ كلِّية رائعة بقدر ما هي موجعة، وموحيةٍ بقدر ما هي مشجية، ومعبرة بقدر ما هي مؤثرة .
ولا أريد أن أقف عند الأبيات شارحاً أو مفسراً ، ولا حتى محللاً ؛ فالأبيات تكاد تشرح نفسها من شدة جلائها : مفردات سهلة قريبة ، ومعانٍ بسيطة غير معقدة، وصور واضحة لا إبهام فيها ولا غموض . ولكنني سوف أعرضها هنا عرضاً نثريًّا موجزاً ـ أرجو ألا يكون مُخلًّا ـ يستلهم مفرداتها ويستهدي بمعانيها .
القصيدة اعتمدت على الأسلوب الخبري في بنائها ؛ وكأن (السوداني الأخير) فيها يقدم عرضاً لما حدث ، ووصفاً لما جرى ، وتقريراً بما كان . وما أوجع الصورة ، وما أثقلها ، في قوله : (بحرُ الهمومِ على الجوانحِ مُطبِقُ) ، وهو من بديع مراعاة النظير كما يقولون ، فنهر النيل فاض حتى أغرق، وبحر الهموم أطبق على الصدور والنفوس حتى آدها وآذاها، ولا زاد إلا الصمت، ولا زورق إلا الانتظار، ولا نجاة إلا بمعجزة من السماء، أو أعجوبة من المقادير . فالصراخ لا يُنَجِّي غريقاً عبس المَدَى في وجهه ، وأحاط به الموجُ من كل مكان .
وما الذي يضرنا من غرق البلاد ونحن جميعاً غارقون في الكرب والمصائب منذ ألف سنة ؟ إن النيل الذي كان سرَّ حياتنا ، لم يعد يحنو علينا أو يرفق بنا ، ولا الموج الهائج يعطف علينا أو يرحمنا.
إن السوداني الأخير هنا وحده، لا صديق ولا رفيق؛ فقد ذهب أحبته إلى حيث لا يعرف مصيرهم، فالماء موتٌ يبتلع الأخلاء والأصفياء، والفؤاد من بَعدهم يتمزق حزناً عليهم . وليس في الإمكان أبداً أن يبعث نوحٌ ليناديه (أن اركب معنا)، وهذا هو الواقع الممض الذي يكاد يحرق القلب ويشعل النار في الضلوع .
هنا لا يجد السودانيُّ الأخير غير الأسف والحسرة على ضعف أمته وهوان شأنها ؛ فلو كان من اليهود، وهم الآن في أيام عزهم وبأسهم، لوجد من ينقذونه ويمدون له يد العون وأطواق النجاة ، فطمأنوا قلبه من بعد اضطراب، وأمنوا نفسه من بعد الخوف، ولوجد فيهم من يواسيه في محنته ويؤازره في شدته .
ومن العجب المُبكي أنه لا يلوم النيل الذي طغَى ماؤه حتى طَمَّ ، واشتد بلاؤه حتى عَمَّ ؛ فلَكَمْ كان هو مصدر الخير في أيام الشقاء ، ومرفأ الراحة في سِنيٍّ التعب والعناء. لكنه يأسى على قومه الذين يفيضون بالخير على غيره، وبالعطف على من سواه، وهو الذي يخصهم بمحبته ويؤثرهم بمودته.
وهنا ، وقبل النهاية، يطلق السوداني الأخير صيحة التحذير الكبرى، وينذر قومه مما يراه وراء الأفق، ويعلن في إنسانية لا حدَّ لها: إنني لستُ نادماً أن ينعم قومي من بعدي بما تركته لهم ، حتى لو كانوا قد خذلوني وتخلَّوا عني، ولكنني أرى من بعيدٍ ناراً مشتعلةً سوف تحرق الجميع، وموتاً مطلًّا يفتح شدقيه كشبح أسطوري مخيفٍ لن ينجو منه أحد.
وأكاد أبصر الرجال والنساء من أبناء أمتى في أسر أعدائهم وظلمات سجونهم، يسومونهم سوء العذاب ، ويجرعونهم كؤوس الذِّلة والهوان .
ثم يأتي الختام الدِّراميُّ الدَّامي ، ليجهر فيه السوداني الأخير بصيحته الغاضبة: إن النيل قد فاض اليوم حتى أماتني غرقاً ؛ لكنه سوف يجف غداً حتى يهلكهم جوعاً ؛ فلا أنا بقيت ، ولا هم خُلّدوا ؛ فلا نامت أعين الجبناء ، ولا هنأت حياة البخلاء ، ولا عاش من ترك أخاه يموت وفي يده سبب نجاته !
هل رأيت الصور كيف تموجت حتى صارت فيضاناً فنيًّا كفيضان النيل، وهل انتبهت إلى المعاني كيف انسابت مثل موجاته حتى أضحت فكرة واحدةً مستقرةً على شاطئ العقل ؟
لا بيت يخلو في القصيدة من خيال ، ولا من جمال ؛ وهاك بعضَ الأمثلة :(الصمت زاد ـ الترقب زورق ـ عبس المدَى ـ الموتُ في كل الزوايا محدقُ ـ كلنا من ألف عامٍ في المصائب يغرقُ ـ النيل يحنو ـ الموج المزمجر يشفق ـ الماء موت ….. )
ثم هل أدركت الإسقاط السياسي الذي يجرح ولا يسيل دماً؟ وهل التفت إلى التناص الذي يذَكِّر بالقديم دون أن يُعَكِّرَ الجديد؛ وكيف استوحى الشاعر قصة نوح وابنه، وقصة موسى مع قومه، هل تذكرت قول الشاعر القديم :
المرء يجمع والزمان يفرِّقُ
ويظلُّ يرقع والخطوبُ تمزق
ـ حين مرَّت عينُك على قول شاعرنا :
أنا لا ألومُ النيل في طغيانه
قد كان يَرفُلُ .. والخطوبُ تُمزِّقُ؟
ثم هل توقفت عند لغة التضاد والمفارقة التي تكاد روحها تحيط بالقصدية من أولها إلى آخرها؟؟ وهل راق لك هذا الختام البديع بما فيه من طباقٍ مدهشٍ وجناس أخَّاذ :
اليوم فاض النيل حتى ضمّني
وغدًا يغيضُ .. فلا بقِيتُ ولا بَقُوا؟
أراك يا صاحبي قد فعلت … وأرى أنني والله قد أطلت حتى أمللت .. وعذري أنك واسع الصدر كثير المكرمات، وأن القصيدة واسعة البحر فياضة بالدلالات … وتستحق أن نطيل الوقوف عندها .. ولعل لنا معها ومع صاحبها لقاءً قريباً جدًّا بإذن الله!