مفهوم الثقافة في الدول النامية
حسن الحضري | عضو اتحاد كتاب مصر
مفهوم الثقافة واحد لا يختلف باختلاف الزمان أو المكان؛ لكن تختلف المجتمعات في وضع التعريف المناسب لواقعها السياسي؛ فالدولة القوية تدرك المفهوم الصحيح للثقافة، وتعلم أنها هي الأساس في بناء أية منظومة داخل الدولة، وهذا يدفعها إلى التعامل الصحيح مع المنظومة الثقافية تنظيرًا وتطبيقًا؛ من أجل بناء مؤسسات قوية تحافظ على قوة الدولة وتساهم في المزيد من تقدُّمها وازدهارها، أما الدول النامية فإنها تعمل جاهدة على غرس مفاهيم وأفكار باطلة، تشكِّل بها التَّوجُّه الثقافي لدى شعوبها؛ حتى يَسْهل انقيادهم إلى ما يحقق أهداف الأنظمة الحاكمة في تلك الدول، التي لا تجد حرجًا في أن تأتي بعازفةٍ أو راقصةٍ وزيرًا للثقافة أو رئيسًا لهيئة علمية تضم العديد من رموز الأدب والفكر باختلاف مجالاتهم وتعدُّدها، بعد أن تدسَّ في صفوفهم عددًا من المتطفلين والمدَّعين؛ حتى يكونوا سندًا لها في تحقيق أهدافها الهدَّامة.
ومن ذلك يتضح الفارق الكبير بين الدول المتقدمة وبين نظيرتها النامية؛ في تحديد أولويَّاها ووضع أيديولوجياتها التي تفرضها على مجتمعاتها؛ حيث نجد أن الدول النامية تسْبح في تيار وهمي لا وجود له إلا في أعماق أنظمتها الحاكمة الفاشلة، التي تسعى إلى تثبيت مركزها المزيف، من خلال استعانتها بأراذل الناس من الجاهلين والمخرِّبين، وتشكيل لائحة مجتمعية تضعهم في الصدارة، وتُقدِّمهم على العلماء والمفكرين وغيرهم من أهل الرأي والحكمة والمشورة.
وإذا كان بقاء الأنظمة الفاشلة في الدول النامية، يقترن في كل الأحوال بالجهل والفقر؛ فليس هذا معناه خلوُّ تلك الدول من العلم والثراء؛ بل ربما توافر هذان العاملان في تلك الدول أكثر من نظيرتها المتقدمة، لكن الفارق يكمن في طريقة الإدارة التي تنتهجها الأنظمة الحاكمة؛ فالدول المتقدمة ترعى العلم وتحفظ مكانة العلماء، وتستغل ثروتها في التقدُّم العلمي، والعمل على رفع مستوى معيشة شعوبها، إضافة إلى حفظ أمنها الداخلي والخارجي، بخلاف الدول النامية؛ التي تحارب العلم بالجهل، وتضع ثروتها في أيدي أنظمتها الفاشلة، التي لا تُشْرك معها سوى عملائها الذين تستخدمهم في تثبيت أركانها.
وقد استطاعت تلك الأنظمة الجاهلة، أن توهم شعوبها بمفهوم باطل للعملية الثقافية، فجعلتهم ينظرون إليها باعتبارها (الرقص والعزف والتمثيل ولا شيء غير ذلك)، حتى أصبحت كلمة (ثقافة) عارًا على المثقفين، كما استطاعت أن تحطَّ من قيمة العلم، حتى أصبح من لوازمه الفقر والضَّعة وخمول الذكر، وهي لا تجد شيئًا من العناء في محاربة العلم؛ فقد أوكلت هذا الأمر إلى أبنائها؛ حيث ضمنت للجاهلين والفاشلين احتلال المناصب القيادية والوظائف المرموقة، بل قصرت عليهم مؤسسات بأكملها، وجعلت لها الكلمة العليا على ما سواها من مؤسسات، ومنحت لها أسباب الحياة الكريمة، التي كان أحق بها أهل العلم والفكر والإبداع؛ الذين لا يمكن لأمَّة أن تعيش دونهم.
إن وزارات الثقافة في دولٍ كهذه؛ لا يمكن ائتمانها على الهيئات العلمية التابعة لها؛ لأن معظم رؤساء تلك الهيئات ليسوا سوى صورٍ مصغَّرة لوزرائهم الذين لا علاقة لمعظمهم بشيء من العلوم، ولا يعرفون شيئًا عن معاييرها وثوابتها، وهذا هو ما يجعلهم يهدرون المال العامَّ في طباعة موادَّ رديئة تعجُّ بالأخطاء العلمية والفكرية واللغوية ولا علاقة لها بأي علم أو أدب أو فن، ويصنِّفونها بصورة عشوائية ضمن أي علم من العلوم؛ مجاملة لأصحابها الذين هم إما موظفون في تلك الهيئات أو أقارب للقائمين عليها، وإما أنهم عملاء لأنظمتهم الحاكمة، يساهمون بجهلهم في صنع مناخ ملوث يثقِّفون به العامَّة؛ حتى يكونوا أداة طيَّعة في أيدي أنظمة فاشلة لا يمكن أن يُكتَب لها البقاء إلا في ظل هذه الأجواء.
فالأفضل في مثل تلك الدول النامية؛ أن يتم نقل تبعيَّة هذه الهيئات العلمية من وزارة الثقافة إلى وزارة أخرى مختصة بالبحث العلمي؛ حتى يمكن الاحتكام إلى قواعد العلم، في عمليات التنظير والتأصيل والتطبيق والنقد، التي أهملتها وزارة الثقافة جهلًا بها، حتى اكتظت جنبات الوزارة بخرافاتٍ سطرتها ذيولهم، تعبِّر عن أفكار دنيئة، يحاولون من خلالها التأصيل لثقافة عامَّةٍ لا يمكن أن تليق بأحد غير صانعيها؛ وسواء أكان هذا الواقع الثقافي المؤلم هو نتيجة الجهل أم العمد والقصد؛ فإن الأضرار ثابتة ولا يمكن التخلص منها إلا بالقضاء على أسبابها.