الشاعر الكبير عبد الرزاق الربيعي كما عرفته
أ.د. مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
يعد الشاعر العراقي عبد الرزاق الربيعي من شعراء العراق الذين أسسوا لقصيدة حديثة بكل المقاييس التي عرفت بتاريخ الشعر العربي لما يمتلكه هذا الشاعر من نضوج فكري, وشعري, وأسلوب مغاير بكتابة القصيدة التي أخذت إبعادا, وإشكالا مختلفة لكنها في المحصلة النهاية تذهب إلى نفسه الشعري الفريد المتحصن بروح الأسطورة السومرية,والمتجذر بالمعرفة التاريخية التي اتخذها منذ صباه ليرسم ملامح قصيدة عربية حديثة مختلفة عن قريناتها منذ بداياته الأولى التي تشكلت داخل العراق ، فكانت قصائده الأولى تبعث شرارات الأمل في الاحتجاج على السائد آنذاك [1],وعلى الرغم من كونه عرف على مستوى عربي, وعالمي ,ولكن اسمه ورد متأخرا إلينا, وللأسف الشديد بسبب الظروف التعسفية التي كان يتعرض لها الأدباء, والشعراء في النظام البائد من قطع وشائج الصلة بين الحركة الأدبية خارج العراق [2] ولد شاعرنا عبد الرزاق الربيعي في مدينة بغداد عام 1961, وهي ينبوعه الشعري الذي لم يجف بعد على الرغم من انه غادرها منذ التسعينيات, عرف الشاعر أول صور الحياة النهر ,والنخل ,وكذلك صور الموت, المستشفى, الجرحى , الجنائز, المقبرة وكان يتأرجح بين هذه الصور,وما زال عندما يكتب الشعر فان الصور التي راكمتها في تلك الأيام تتردد, وتتساقط في كلماته, وقد عاد إليها في العديد من القصائد كما في مجامعيه الشعرية المتنوعة والمتعددة.
اختار كلية الآداب لأنها كانت تلبي طموحه في تلك المدة إذ ظهرت ميوله الأدبية, والشعرية, وشارك في مهرجانات الكلية, وحصل على عدة جوائز في كلية الآداب ,وتخرج بتفوق بدراسته الجامعية , لكنه فضل ترك العراق والهجرة إلى سلطنة عمان منذ عام 1998 بسبب ميوله السياسية ضد السلطة الحاكمة آنذاك, خرج من العراق منفيا سياسيا, والآن, وبعد ربع قرن من التطواف في العالم ,والعيش والكتابة بين الدول العربية, وسواها ,خاصة الإقامة في عمان, صار اليوم منفيا بابليا, والمنفى البابلي بالنسبة له أعمق ,وأغنى أشكال المنفى كمفهوم فلسفي.
أنها غربة مع النفس,وتلك أقسى ,وأمضى من كل أشكال النفي,أنها غربة الداخل فهذا البابلي لايجوب الأقطار, والقارات والحدود كما ألفنا اليوم لكنه يجوب أزمنة وأية أزمنة ,أنها أزمنة الماضي ,وكذلك المستقبل بمعنى ما أن حاضره ملغي فهو يملك جسدا ولا يملك حاضرا هو المنفى الحقيقي.
يبدو لي حصول الشاعر عبد الرزاق الربيعي على عقد عمل في سلطنة عمان ليدرس هناك, هاجر العراق بداية التسعينيات, اطلع على الثقافة الأدبية في البلاد العربية كونت لدى الشاعر رؤية مغايرة في تشكيل القصيدة العربية الحديثة [3]عموما والعراقية خصوصا.
في الحقيقة بسبب الغربة ربما لأنه معروف في الدول الغربية , والعربية أكثر من العراق,والشيء الأول انه مسؤول أن يثبت نفسه مضى ربع قرن منذ أن غادر وطنا ,وكيانا شخصيا كان له, ولم يعد إليهما , فقد هاجر كلاهما الوطن وهو ومضيا باتجاهين متباعدين وبقيا يحدق بعضهما مع البعض الآخر, ربع قرن على هذه الحال حتى صار الحنين نوعا من الطفولة المؤبدة فالغياب مهما عمر يبقى جنينا وقد كتب ذلك يوما,لكن فكرة المنفى هي الأخرى قد عمرت, وتنوعت خلالها صوره,ومفاهيمه وما من شك إننا نواجه شاعرا ذا فطنة ودراية بالشعر, شاعر ناهض الغربة ولم يستسلم لوحدته فقد حرض الطبيعة كيما تكون أنيسا له ليس وحيدا فهو اعرف كيف تدار الرياح بعصا, تلك هي فلسفته الداحضة للغربة.
في الواقع أن أهم تأثير جاءت به الغربة على الكتابة عنده يتمثل في العلاقة مع اللغة في القصيدة, لقد أصبحت أكثر اقتصادا وتغيّر لديّه منطق الخطاب بكامله, كان يكتب بلغة هي نفسها عائمة في محيطه الشعري ولهذا كان لا بد من الخروج من هذا الوسط الذي يفرض على القصيدة طقساً خاصاً والانتقال إلى لغة أكثر برودة وصرامة في نفس الوقت, إن الانتقال إلى لغة أخرى سمح له بالنظر من جديد إلى اللغة العربية واكتشاف مواطن عبقريتها وضعفها في آن واحد أما الغربة, يضعها بين قويسات دائماً لأنه لا يعتقد بمضمونها السلبي الشائع إنها اختيار وجودي تكويني تأسيسي للشاعر, الشاعر هو المغترب بامتياز وهو غريب أينما كان حتى بين أهله وظهرانيه, الشعر هو غربة ولهذا فإن الحضن العائلي والوطني والقومي يشكّلُ نسغاً مضادّاً للشعر لا بد من كسره والخروج عليه.
والذي يهمنا من ذلك الولوج إلى عنوانات الشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق الربيعي اللافتة للنظر مثل: (إلحاقا بالموت السابق, حدادا على ما تبقى,موجز الأخطاء, جنائز معلقة, شمال مدار السرطان, غدا تخرج الحروب للنزهة, خذ الحكمة من سيدوري, قميص مترع بالغيوم, صعودا إلى صبر أيوب, طيور سبايكر,في الثناء على ضحكتها ,خرائط مملكة العين, قليلا من كثير عزة ,ليل الأرمل ,نهارات بلا تجاعيد, الأعمال الشعرية الكاملة).
لنحللها سيميائيا ,في مجامعيه الشعرية الصادرة, فضلا عن أعماله الشعرية الكاملة, تميزت بالحزن العميق, والغربة ,والاغتراب, التي عاشها الشاعر العراقي عبد الرزاق الربيعي, وتجسدت في أشعاره, وتجاربه الشعرية التي تعبر عن الألم, والمرارة, والوحدة, والضياع, فضلا عن إصدارته المغايرة عن عادة كتاباته الشعرية بالافتراق عنها خارج الشعر, وخارج الإشكال ,والتقنيات التي إلف الكتابة بها في إصداراته الشعرية الوفيرة, سردا يكاد يكون مرئيا,مخترقا بأضواء الذاكرة عن عراق الكاتب بغداده تحديدا, إذ اللغة هنا بأبسط إشكالها, وليست عبارات الغلاف سوى توثيق افتراضي فني لهذه العنوانات, وكلمة فني هنا كناية عن مناسبة لوصف ما يجري في حياته المفعمة بالحزن, فهو يوم له ما قبله, وما بعده في حياة الزمن,بينما الأيام الشخصية للشاعر تجري عميقا في تاريخه الشخصي عبر نهر طويل, ومتصل من رحلة الطوفان إلى فكرة الخلود, يوم افتراضي تتداخل فيه ملامح بغداد عدة من العباسية إلى حرائق المغول, وتتفاعل خلف طبقات من الخراب, يجعل عبد الرزاق الربيعي من يومه المفترض زمنا متصلا مع ملحمة كلكامش, ورحلات السندباد ,وعوالم بغداد العباسية, وقشلة الأتراك, ومقابر الانكليز ,وصلب الحلاج, ونصب الحرية, ومن اللافت كذلك أرقام الضحايا في عراق يرتفع منسوبها في الجمعات,:هذه المشاهدات والتداعيات لا أعرف أن كانت تهدف للتطهر من الحنين أو هي بداية جديدة لعشق لكنها بكل بساطة شهادة عراقي غادر وطنه أكثر من ثلاثة عقود, ولم يعد لرؤية بلاده إلا بعد سقوط الطاغية, ولهذا تركت نفسه أمام مرايا اللغة, والذاكرة, والعين, كلها معا لتعكس داخل اللغة الصور التي تتدفق أمامه محاولا جهد الإمكان التخلص من كل ألعاب الأداء الفني, والبلاغة, والتقنيات المعروفة للكتابة, أرد لهذا النص أن يكون شهادة حية ما استطاع إلى هذه الشهادة حيادا ودقة دون إخفاء أو مواربة أو مجاملة, إن ما كتبه هو تسجيل بأقل ما يمكن من الصفة الأدبية واقل منها الشعرية لكي يقترب أكثر من هذا الواقع الذي اعتقد انه بمجرد تصويره يحتوي على إبعاد شعرية إنسانية وتاريخية على مستوى كبير من الأهمية, لان التاريخ يكتب الآن, وليس هناك مؤرخون مكلفون وحدهم بكتابة التاريخ, كلنا نكتب التاريخ ,والتاريخ الحديث هو محصلة كل الكتابات, لقد وجدت عراقي مهشما مثل جرة أسطورية ما زالت فوقها النقوش والألوان ولكنها تحت الإقدام ,وتحت العجلات, وتحت الركام أما أبناء هذا الوطن فكأنهم يعيشون خارج الأرض في كهف اسمه العراق [4], فكانت عيني الشاعر عبد الرزاق الربيعي عدسات لرؤية العراق الجريح, وهو يقطع من اقرب الناس إليه إلا وهم أبنائه الغيارى, فكانت صورة مأساوية نقلها ألينا الشاعر بريشته كفنان محترف , وعند تسليطنا الضوء على التاريخ الشعري للشاعر نجده يكتب لنا قصائد جميلة معبرة, وكأنه يؤرخ لمرحلة من المراحل الأساسية التي عاشها ,وسطرها معاناة حقيقية في مجامعيه الشعرية.
المراجع:
[1] جريدة الحوار المتمدن ,ع 2717 , في 24 /7/2009 :5 0
[2] ينظر مركز النور , سمرقند الجابري ,في 25 /11/2007 0
[3] ينظر جريدة الانتفاضة الشعبية في سورية ,في 30 سبتمبر 2012 :3 0