في تفنيد الأساطير.. معاوية (3)

الدكتور خضر محجز | مفكّر فلسطيني

 

كنا قد بينا في حلقات سابقة عدم صحة كتابة معاوية للوحي. والآن نفند أساطير مشتهرة أخرى، إن شاء الله.

في أسطورة دعاء الرسول له:

لقد فُتن الكثيرون من أهل الشام بمعاوية، حتى وضعوا في فضله أحاديث، لم ينزل بها الله من سلطان، ولم يقلها نبي الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ وليس لهم على صحتها برهان. قال الذهبي:

“وقد ساق ابن عساكر في الترجمة [أي ترجمة معاوية] أحاديث واهية وباطلة، طوّل بها جداً. وخلف معاوية خلق كثير، يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد ولدوا في الشام على حبه، وتربى أولادهم على ذلك. وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشأوا على النصب، نعوذ بالله من الهوى” (سير أعلام النبلاء3/127ــ128).

ولعلي هنا أنقل أهم الروايات التي يتشبث بها أحباب معاوية. ولا أنقل ما اتفقوا على وضعه، بل أنقل ما حاولوا تصحيحه، وليس بصحيح:

1ــ الحديث الأول رواه الترمذي، بالنص التالي:

“حدثنا محمد بن يحيى أخبرنا أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن عبد الرحمن بن أبي عميرة ــ وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لمعاوية: اللهم اجعله هادياً مهدياً، واهد به”. [ثم علق قائلاً]: “هذا حديث حسن غريب”(الترمذي/865).

2ــ الحديث الثاني أورده الترمذي كذلك، بعد الحديث السابق، قال:

“حدثنا محمد بن يحيى، أخبرنا عبد الله بن محمد الثقلي، أخبرنا عمرو بن واقد، عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس الخولاني قال: لما عزل عمر بن الخطاب عمير بن سعد عن حمص، ولى معاوية. فقال الناس: عزل عميراً وولى معاوية!. فقال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اللهم اهد به”. [ثم علق قائلاً]: “هذا حديث غريب. وعمرو بن واقد يُضَعّف”(الترمذي/865).

3ــ الحديث الثالث: رواه البخاري في تاريخه، قال:

“قال أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن عميرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: اللهم علم معاوية الحساب، وقهِ العذاب”(التاريخ الكبير7/372).

قلت:

هذه هي أهم الروايات، المروية في فضائل معاوية، وأقلها نكارة وضعفاً. وأنا مبين أحوالها ــ إن شاء الله ــ واحدة إثر الأخرى.

الكلام على الحديث الأول:

لقد صحح الألباني هذا الحديث. ولعمري لقد أخطأ، لأن في سند هذه الرواية رجلين:

الأول: سعيد بن عبد العزيز، الذي ضعفوه من جهة حفظه، حتى قال فيه الألباني نفسه: “هو التنوخي. وهو ثقة، لكنه كان اختلط”(الضعيفة 3/393).

والثاني: عبد الرحمن بن أبي عميرة، وليس من الصحابة. قال فيه ابن الأثير: “حديثه مضطرب، لا يثبت في الصحابة… لا تثبت أحاديثه، ولا تصح صحبته”(أسد الغابة3/474ــ475).

وقال فيه ابن عبد البر: “حديثه مضطرب، لا يثبت في الصحابة وهو شامي. روي عن ربيعة بن يزيد عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وذكر معاوية: “اللهم اجعله هادياً مهدياً، واهده، واهد به. ومنهم من يوقف حديثه هذا ولا يرفعه. ولا يصح مرفوعاً عندهم… لا تثبت أحاديثه ولا تصح صحبته”(الاستيعاب 2/834).

وقال ابن أبي حاتم في رواية عبد الرحمن هذا: “لم يسمعه من النبي”(العلل6/382).

الكلام على الحديث الثاني:

أما الحديث الثاني ففيه عمرو بن واقد، وقد مر بك قول الترمذي “إنه يضعف” وقد قال مرة أخرى فيه: “منكر الحديث”(الترمذي/528).

بل إن الألباني نفسه، نقل تضعيف جمهور الأئمة له، بعد أن قال عنه: “متروك”(الضعيفة2/341).

ويكفيك أنه لم يصحح هذا الحديث إلا بسابقه (هامش الترمذي/865).

أما ابن كثير، فلم يكتف بتضعيف عمرو بن واقد هذا، بل انتقد إيراد ابن عساكر لأحاديث كثيرة، من هذا الصنف، في فضل معاوية، فقال: “وقد أورد ابن عساكر بعد هذا أحاديث موضوعة. والعجب منه ــ مع حفظه واطلاعه ــ كيف لا ينبه عليها وعلى نكارتها وضعف رجالها!”(البداية والنهاية8/121ــ122).

الكلام على الحديث الثالث:

وهذا الحديث إسناده هو نفس إسناد الحديث الأول، ونقول في إسناده ما قلناه فيه. لكن علامات وضع هذا الحديث ظاهرة بادية بجلاء: فها أنت ترى كيف تغير المتن، من “اللهم اجعله هاديا مهديا” إلى “علمه الحساب وقه العذاب”!.

فليت شعري!، ألا يدلك هذا التغيير على أن الرواة ــ أو بعضهم ــ قد تلاعب في النص؟.

ولعمري لو كان هذا الحديث صحيحاً ــ في نظر البخاري ــ لأخرجه في صحيحه. لكننا نعرف أنه لم يشترط في تاريخه نفس الشروط الصعبة التي اشترطها في صحيحه. وهذه علة أخرى واضحة في الحديث. وقد سبق أن استغرب ابن عساكر هذا الحديث، كما نقل ذلك عنه ابن كثير (البداية والنهاية8/122).

وكيف يستقيم لعاقل أن يصدق أن الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ قد دعا لمعاوية أن يعلمه الله ويقيه من العذاب ويجعله هادياً مهدياً، ثم لا نرى معاوية من بعد إلا زعيماً للفئة الباغية الخارجة على الإمام الحق بغير الحق؟ وهل يعني ذلك أن الله سبحانه لم يستجب دعاء نبيه، حاشاه من ذلك؟ أم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ظالماً بالفعل لمعاوية، حين دعا عليه بأن لا يشبع أبداً ــ كما زعم ابن كثير ــ تعالى الله وتعالى نبيه عما يقول الظالمون علواً كبيراً!.

ثم متى سمعنا أن شرهاً لا يشبع، وقاتلاً لا يكل، كان هادياً مهدياً؟ سبحانك ما أعظم ما تضل من الناس!.

والحق فيما نقله الحافظ الذهبي عن إسحق بن راهويه، بأنه: “لا يصح عن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ في فضل معاوية شيء”(سير أعلام النبلاء3/132).

والله أعلم.

ــــــــــــ

المصادر:

1ــ ابن أبي حاتم: الحافظ أبو محمد عبد الرحمن الرازي. العلل. تحقيق فريق من الباحثين. ط1. ج6. الرياض. 2006.

2ــ ابن الأثير: عز الدين أبو الحسن علي بن محمد الجزري. أسد الغابة في معرفة الصحابة. تحقيق وتعليق علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود. ج3. دار الكتب العلمية. بيروت. دون تاريخ.

3ــ ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي. الاستيعاب في معرفة الأصحاب. ط1. ج2. تحقيق علي محمد البجاوي. دار الجيل. بيروت. 1412هـ.

4ــ ابن كثير: الحافظ عماد الدين أبو الفدا إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي. البداية والنهاية. ج8. دار الفكر. بيروت. 1978.

5ــ البخاري: أبو عبد الله إسماعيل بن إبراهيم الجعفي. التاريخ الكبير. مجلد7. دار الكتب العلمية. بيروت.

6ــ الترمذي: الإمام الحافظ محمد بن عيسى بن سورة. سنن الترمذي. حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه ناصر الدين الألباني. ط1. مكتبة المعارف. الرياض. دون تاريخ.

7ــ الذهبي: الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان. سير أعلام النبلاء. ط11. ج3. أشرف على التحقيق شعيب الأرناؤوط. مؤسسة الرسالة. بيروت. 1996.

8ــ ناصر الدين الألباني. سلسلة الأحاديث الضعيفة. ط1. المجلدان2،3. مكتبة المعارف. الرياض. 1992.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى