قراءة في رواية “مدينة الله” لـ”حسن حميد”
بقلم: صباح بشير
تشكل رواية “مدينة الله” للأديب حسن حميد، تجربة فريدة في لغتها الروائية، فقد جمعت بين براعة التصوير والسرد الساحر، والأحاسيس المختلطة التي تداخلت أمام قوة البقاء، والألم الذي لا توشك أن تنتهي منه حتى تعود إليه مرات عديدة، وبأسلوب الرسائل الأدبية والبناء السردي المتجانس، اعتمد الراوي على وصف الأمكنة وخصائصها بشكل مطلق، فقد كان المكان هو البطل الرئيسي في الرواية، بكل ما حَفل من تاريخ وحاضر، مرتبطا بالحدث وبنص ينتمي الى أدب الرحلة، هذا النوع من الأدب الذي يملك تأثيرا استثنائيا بما يحتويه من إبداع ومعلومات، ومشاهدة حية نثرها الكاتب حين أطلق العنان لخياله فأبدع ملحمة أدبية متميزة بعمقها ومحتواها.
بطريقة خاصة في التعامل مع الفكرة، وبمستوى لغوي فني رفيع، شكلت فلسطين حضورها في هذه الرواية بكل ما تحمله من معطيات، فتجلت القيم الاجتماعية والتقاليد، الطقوس والعلاقات، هكذا طَوَّع حسن حميد الشُخُوص والأحداث، وحرص على الربط بين الأماكن، حميميتها وتراثها، فأَخذنا معه إلى عالم أصيل، شبيه بالحلم مليء بالتناقضات، فقد بَيَّنَ البيوت… النوافذ والأبواب، الشوارع والدروب، الأحياء والمخيمات، الأقواس والأسوار، الأحاديث الوجوه والمشاعر، ووصف روائح البخور الغار والنعناع، أريج الريحان الحبق والعنبر وكأنها تتصاعد في الهواء، تطلقها النوافذ الشوارع والبيوت، أو كأن الطيور هي التي تطير بها فتنشرها هنا وهناك، كلها جاءت في سطوره ممتزجة بالتراجيديا الإنسانيّة والمعاناة، بتقنية فنية مدهشة.
أضافت الرواية نموذجا مختلفا إلى أدب المضطهدين، فانطوى النص على توصيف جمالية المُضطهد، وأمسك بِغَور المأساة الفلسطينية، ووصف مجموعة من الخيول والبغال التي يعتليها بعض الجنود، يتجولون فينشرون الخوف والذعر في قلوب الناس، فينقلب الجمال الى عذاب وألم، متجسدا في واقعٍ صعب، مسلطا الضوء على معاناة المقدسيين، صمودهم وما يجمعهم من ألفة رغم اختلاف أديانهم، فأصوات المآذن تجتمع مع أجراس الكنائس في مدينة الله، لتشكل بذلك رمزا ومظهرا حضاريا بارزا لهذا التآخي والعيش المشترك، فكنيسة القيامة لا تبعد عن المسجد الأقصى سوى عشرات الأمتار فقط، من هنا كانت العلاقة التاريخية والترسيخ لمظاهر التسامح التي يعيشها المقدسيون، مسيحيون ومسلمون، فتضمهم المحبة ووحدة المصير والعلاقات الأخوية، فهم جميعا سواء، يبرهنون على عمق تلك العلاقة التاريخية، التي تجمعهم في أرضٍ ما خلقت إلا للمحبة والسلام.
تبدأ الحكاية بزيارة الأستاذ الجامعي الروسي “فلاديمير بودنكسي” إلى مدينة القدس، حيث أشار عليه أستاذه “جورجي إيفان” بأن يقضي إجازته في بلاد السيد المسيح، واقترح عليه أيضا أن يُدَوِن كلّ ما يراه وما يسمعه، وتنمو لدى “فلاديمير” حالة من العشق والهيام لمدينة القدس، فيمضي هائماً مولعا بحبه لها.
تزور السيدة “عميخاي” الراوي في مكتبه حيث يعمل في بيت الشرق، وتودِعُه بعضا من الرسائل التي قام بكتابتها بطل الرواية “فلاديمير” بهدف ارسالها الى “إيفان”، هذه السيدة التي كانت قد خبأت تلك الرسائل لسنوات واحتجزتها أثناء عملها في البريد المركزي، أخبرت الراوي بأنها مصابة بمرض السرطان، وتريد أن ترتاح وتُكفّر عن ذنبها قبل أن تموت، فطلبت منه إيصالها الى اصحابها قائلة: كنت أراقب هذه الرسائل في مركز البريد، وهي لزائر روسي كان قد كتبها لأستاذه الجامعي في جامعة سان بطرسبورغ، وسبب مراقبتي لها هو أخبارها وقصصها، أما سبب احتفاظي بها فهو أسلوبها الأدبي الرائع، فقد سحرتني هذه الرسائل على الرغم مما فيها من أكاذيب.
يحاول الراوي جاهدا إيصال تلك الرسائل إلى أصاحبها، لكنه يفشل في ذلك، يستشير أصدقاءه، فيقترحون عليه نشرها في كتاب، وهذا ما قام بفعله.
كان فلاديمير متزوجا من سيدة فلسطينية، مَكّنَتهُ من معرفة تاريخ فلسطين، رافقه الحوذي جو في زياراته، فارتبط بشدة بكل الأماكن التي زارها، تعرف خلال زيارته على “سيلفا” التي أحبها، إلا أنه كان الفريسة التالية، فزُجَ به في السجن، كان يستذكر أبو العبد صاحب المقهى، وعارف ياسين، ظل يكتب رسائله حتى سكن الحزن قلبه وذبُلت روحِه، فطلب في رسالته الأخيرة من أستاذه إيفان عدم مراسلته فكتب: سأنتظر كي أرى عارف الياسين، لأقول له بأني في المكان الذي عرفه طويلاً، أرجوك لا تكتب لي، فعناوين السجن ليست بعناوين!
يعتبر السّرد نصاً مرافقاً للواقع، وذلك لارتباطه بالذاكرة الزمكانية التي تَعُج بالتناقضات، وهذا ما يدفع الكاتب لكتابة نصوصه المرتبطة روحيا ونفسيا بالأمكنة التي ينتمي اليها، من هنا يمكنه الكتابة عن أي مكان قد تأثر به، حتى لو لم يعش فيه، وهذا ما تجلى في رواية الأديب الفلسطيني حسن حميد الذي عاش في سوريا، وبقيت فلسطين حاضرة في أعماله، حيث جرت الأحداث في مكان وزمن غير بيئته وزمنه، إلا أن هذا قد ترك أثره على النصّ، فقد أضفى عليه الخيال ثوبا واسعا فضفاضا، فالروائي هنا قد قرأ عن وطنه الأم، وشاهده عبر الصور وشاشات التلفاز فقط، لكنه لم يعش فيه ولم يطأ أرضه بقدميه، وهذا ما يدفع القارئ للتفكير ملياً بأن المبالغة كانت جزءا لا يتجزأ من هذه الرواية، التي تكونت مما قرأ حميد وشاهد، ومما استخرجه من الحكايات والذاكرة الجمعية، فلم يستطع الانعتاق من تأثير ذلك على حواسّه وذهنه.
قد تُشكِل هذه ميّزة في حقه، إذ يحق للكاتب ما لا يحق لغيره، فله أن يبْتَدَعَ ويبْتَكَرَ ما يشاء من حوادث وقصص، دون أن يصطدم ذلك بالثوابت التاريخية، وهذا ما التزم به الروائي حميد عبر ما خطه بتفاصيله المدهشة وحبكته المتماسكة، فهو لم يتمكن من زيارة الوطن، إلا أنه مدَّ الروح إليه صَبْوَة وشوقا، فأبدع حكاية نابضة بالجمال والحياة.