قراءة في فوضى الواقع الراهن

 

بقلم: يونس العموري

ويكون أن يأتينا النبأ العظيم بضرورة الانتظار، وانتظارنا قد يطول، وتتعالى أصوات الزيف في مجتمع البلاستيك لتصبح الحقيقة مجرد سراب في عوالم الكثبان الرملية المتحركة، وتتعالى أصوات الصدى المزيف لتعكس حقيقة الفوضى التي نحيا، وكأننا في احترافية فعل الانتظار قد اصبحنا المهووسين، ويكون لنا أن نمارس فعل الانتظار بحرفية الفعل ذاته، والكل ينادي ويبحث عن ماهية واقع مجتمع الزيف البلاستيكي والفوضى سيدة الموقف بلا منازع، والفوضى تضرب بلا هوادة، وحينما نقول الفوضى، فإننا نقصد بذلك عبثية الأداء والتوجه وضياع بوصلة الحقيقة، والفوضى لها انعكاسات وارتدادات على مختلف اوجه الحياة، وقد تكون هذه الفوضى مقدمة لموجة الكل يتخوف من تسميتها بمسماها الحقيقي، وهي حالة الصراع الدموي، هذا الصراع المرسومة سيناريوهاته منذ فترة …
هي الفوضى بأم عينها.. وهي عبثية الفعل، والاستهتار بكل القيم والأخلاق والتقاليد والأعراف الوطنية… هي موجة الغوغاء المُسيطرة على الشارع وان تغلفت بأطر الفعل الوطني، فبلا شك اننا نعيش اليوم حالة من الفوضى على مختلف المستويات والصعد:

فوضى النظام والأسس الوطنية:
نشهد فيها سقوط أنظمة الفعل الوطني العام واساسياته واركان فعله، وخطوطه الحمراء وتراجع لغة العقل والعقلنة والحرص الوطني اولا، ودوره والدعوات الميؤوس منها لإصلاحه، وبالتالي انهيار منظومة المفاهيم الوطنية التي ظلت الى حد كبير، حامية للمشروع الوطني الفلسطيني بكل مراحله وتجلياته، وهذا ما تتحمل نتيجته النخب السياسة الفلسطينية التي وظفت نفسها بالدرجة الأولى، خدمة لمشاريع الغير على الساحة المحلية حيث صار إرضاء لأسياد هذا الطرف أو ذاك، اولوية من اولويات كافة الأطراف بشكل عام، وهذا عائد للارتباط الجدلي المصلحي ما بينهم… وأعتقد أن افضل جو من الممكن أن تسود فيه مثل هذه المفاهيم المستجدة، تتمثل بخلق حالة الفوضى بالنظم والأسس والمفاهيم الوطنية وبالتالي افراغها من محتوياتها الفعلية… كأن يُصار الى تعميم ثقافة التكفير والتخوين، والاختلاف يصير جريمة من الجرائم الكبرى عند اصحاب النظريات الجديدة. وهذا على الأقل ما نشهده اليوم وما بتنا نلمس حقيقته، بل ان الاختلاف ووجهة النظر الأخرى قد اصبحا يقابلان بالرصاص والقتل… مرة أخرى أقول إن ثمة تحالفا غير معلن ما بين العقم السياسي ومراهقة الأداء الوطني عند الكثير من القادة ونخب تتصدر المشهد الوطني الرسمي ما زالت تعتبر الوطن جزءا من مشروعها الشخصي الذي تُستباح من خلاله كل الحرمات الوطنية…. ما بين لغة القتل والتخوين والتكفير واقامة النظام الديني الشمولي واحكامه، وما بين من يرى بهذا المشروع وقودا يستطيع من خلاله ان يعبر وان ينفذ الى مشروع التحالفات الإقليمية والدولية التي قد تمنحه مرتبة موظف او خادم، برتبة وزير او زعيم عند اقطاب معادلة الاستقطاب الثنائي على الساحة الإقليمية. وما بين ما يعتبر ان الاستئثار بالسلطة اهم من الوطن ومن مصالح الوطن ومن قوت الشعب كونه يعتبر ان السلطة قد تمنحه امارة يقيم عليها حكم الخلافة والإيمان وان كان ذلك على الحساب الوطني او بعكس الرغبة الوطنية العامة… وهذا ما تؤكده مسارات الأحداث بمجملها فلغة التكفير والتخوين هي المقدمة الطبيعية لمسار هؤلاء… والتشبث بالسلطة بصرف النظر عن الأثمان هو الدلاله لحجم وطبيعة المشروع القادم… وكل ذلك يجب ان يرتبط بإعادة صياغة المفاهيم والأسس المستحدثة من جديد، من رحم خلق حالة الفوضى بمنظومة المفاهيم الفلسطينية من خلال رحم فوضى لغة البنادق… فالمسألة لم تعد مجرد فلتان او انفلات امني… بل ان ما يجري هو ممنهج بشكل عملي مدروس للوصول الى تلك النتائج المُرادة.

فوضى البيت الداخلي:
البيت الفلسطيني يتصدع ومنظمة التحرير الفلسطينية قد غدت مجرد صورة تجميلية، والمحاور تنمو وتتسع والحرب الأهلية تخيّم على الجو بل إن مقدماتها قد بدأت بالفعل بأكثر من ساحة وعلى اكثر من محور، وفلسطين جزء من هذا الحالة الاقتتالية الداخلية ما بين شعوب المنطقة التي تواجه صراعا وجوديا بين جبهة الاستيطان الاسرائيلي والاحتلال الأميركي والهيمنة الغربية على النفط والأمن الذاتي من جهة، وجبهة المقاومة والممانعة والاستقلال الحقيقي من جهة أخرى.

وهذا الصراع يشوبه كذلك خطر التداخل مع المحاولات الخارجية الساعية الى إذكاء نار الفتنة وبخاصة المذهبية منها.

لذا كان هناك سباق بين مشروع “الهلال الشيعي” وهو عنوان للتحريض المذهبي والطائفي والانقسام، ومشروع “هلال المقاومة” وهو خطة معاكسة تنطلق من خصوصية الواقع الوطني وتتضامن في ما بينها لمواجهة عدو مشترك والبيت الفلسطيني جزء من المعادلة الإقليمية بشكلها العام، حيث تم العمل على افراغه من محتواه الوطني والتشهير بقيمه من خلال اغراقه في حالة من الفوضى، وتضييع اسس وثوابت هذا البيت التي ظلت لعقود هي الحاكمة والضابطة لإيقاعه. حيث ان الفوضى العالمية والعربية من خلال ما يسمى (بالفوضى الخلاقة) تنعكس بقوة على الساحة الفلسطينية.

فوضى في الحكم والنظام والكيان:
مما يهدد النظام الفلسطيني برمته في وجوده ودوره ورسالته. هذه الفوضى غير مقتصرة فقط على المؤسسات والبنى الوطنية العامة والمؤسسات السياسية بل تطال أيضا المواطن في وعيه وسلوكه وأخلاقه.
وأمام فوضى المفاهيم هذه، نقف في حالة ضياع وقلق وحيرة تتجلى في سؤال يرافقنا دائماً: ما العم؟ وكيف لنا ان نعاود للإمساك بزمام المبادرة من جديد ومن أين نبدأ؟… من الإنسان أولا، من الأخلاق أساسا، من اعادة صياغة المفاهيم من جديد من احترام الآخر ورأي الآخر ومن سيادة منطق الوطن اولا وآخرا ومن الحرية دائما. تلك هي البداية الصحيحة والوحيدة.

وللرد على الفوضى يكون بالحوار الحقيقي والبناء من أجل نهضة جديدة تنطلق من المواطن ومصالحه وتطلعاته وإعادة الاعتبار للقيم والأخلاق والمبادئ والمناقب كي يتحرر الإنسان من التبعية للمحور التنظيمي المُسيطر عليه من قبل ثلة من اصحاب المصالح والإرتباط الحزبي أو التنظيمي، والتقوقع بالتكلسات التنظيمية والتحجر بما يأتي من خلال رؤية الزعيم هذا او ذاك.
لم يعد باستطاعة المواطن العادي أن يميّز بين خطاب وآخر بسبب تداخل الكلام وعدم وضوح المضمون والبلبلة في الالتزامات، حتى غدت السياسة والتعاطي والشأن العام في فلسطين ــ ومع مرتبة الشرف ــ أقرب الى الانتهازية والوصولية والسمسرة، وأسيرة النفوذ المالي والغرائز الزعاماتية والموروث العبثي وتسلط رجال البزنس والعقول الآتية من دهاليز الفهم الديني المتحجر المعتمد على لغة التكفير وامتلاك الحقيقة وحصرية التحليل والتحريم
. ان الذي نشهده في فلسطين اليوم هو موت للفعل الوطني والسياسي، فالفعل السياسي أصلا هو مبادئ ورؤية وأخلاق وتطابق السلوك مع الخطاب، كذلك هو خطة لتغيير الواقع وإدارة شؤون الناس بغية إيصالهم الى اهدافهم العامة والأمان والحرية والكرامة. ذلك هو تعريف الفعل السياسي في المجتمعات المتقدمة. التي اضحت بعيدة عن مشهدنا العام اليوم في فلسطين.
في ظل هذا الفراغ العارم الذي يغزونا، وفي ظل كل هذا الاحباط المسيطر علينا، وانسداد الافق، حيث تبدو الصورة اكثر قتامة وسوداوية، وضياع البوصلة والمرجعية، وانهيار المشروع الوطني وروافعه، وفي ظل كل هذا العبث بالمصير الوطني والشخصي والذي بات مهددا على مختلف المستويات، من الطبيعي ان تعم الفوضى ويكون الارتداد نحو القبلية والجهوية، وفقدان الثقة بكل شيء، اذن فلسطين على اعتاب مرحلة كارثية ستعبر من خلالها صراعها الدموي، هذا الصراع متعدد الاوجه والاشكال، ومقدماته ستكون هذه الفوضى التي نشهد موجتها الاولى بالظرف الراهن.
وفي هذا السياق تتسرب بين الحين والآخر قوائم التعيينات الأخيرة لأرباب وأبناء القادة والأمراء بالمواقع المتقدمة وهو ما يعكس حقيقة واقع المزرعة الأبوية لهذا الأمير او ذاك الامبرطور في وزارته أو جهازه وكأن الوطن عبارة عن مزارع واقطاعيات مقسمة وفقا لمقاسات مناطق النفوذ ما بين امراء الواقع الراهن.
والأدهى فوضى التصريحات بضرورة إجراء التغييرات وتدوير الزوايا ما بين قادة الأجهزة الأمنية وتغيير أو تعديل وزاري خصوصا تغيير في مسميات الوزارات السيادية ليأتيك النبأ العظيم ببقاء الوضع على ما هو عليه الى ماشاء الله.
إذن هي حالة الفوضى التي قد تكون مدروسة…
وأخيرا لا بد من الإشارة هنا الى الفوضى المجتمعية التي باتت تسيطر على الواقع الفلسطيني الراهن حيث انفلات القيم الاجتماعية وضياع سيطرة القانون وسلطتها والاقتتال العشائري والقتل لمجرد النزاع غير المبرر، وهو العنوان الأبرز الذي يؤشر لحالة الفوضى والفلتان وضياع هيبة القانون.
ويبقى ان نقول ان الفوضى بكل تجلياتها قد ضربت أيضا في النظام التعليمي حيث العبث بالعقول، وما نتائج التوجيهي الأخيرة الا انعكاس للفوضى وضياع الضوابط والأسس التي من المفروض ان تقوم عليها العملية التعليمية وضبط إيقاعها.
بالتالي فإن الفوضى هي عنوان المرحلة الراهنة …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى