ما يعجبني وما لا يعجبني – حول الفكر النقدي ومآثره –
د. سعيد زيداني | فلسطين
أستاذ الفلسفة في جامعة القدس وجامعة بير زيت (سابقًا)
لا تعجبني تلك الواقعية السياسية التي أوصلت إلى إتفاق أوسلو في بداية تسعينات القرن الماضي، والتي أوصلت كذلك إلى ولوج القائمة العربية الموحدة عتمة الائتلاف الحكومي في إسرائيل في بداية العقد الثالث من القرن ال٢١. ولا يعجبني، في المقابل، وإن كان بدرجة أقل، ما ينادي به ويروج له المثاليون السياسيون، على أنواعهم المختلفة، كحل نهائي للصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي. والمثاليون السياسيون ينقسمون بدورهم إلى ثلاثة أنواع، حسب طبيعة المثل الأعلى الذي يراود كلأ منهم، هي التالية: المثاليون دينيًا/ إسلاميًا والمثاليون قوميًا/ رومانسيًا والمثاليون ديموقراطيًا/ أخلاقيًا. فإذا كان مروجو وأنصارالواقعية السياسية غائصين في وحل الواقع حتى الركبتين، فإن معظم المثاليين السياسيين وأنصارهم، من هذا النوع أو ذاك، يفرون من ذلك الواقع، وينظرون إلى الأعلى لغرض “قطف الشرف من النجوم”! ما أنادي به، وما يعجبني وأفتقده كثيرًا هذه الأيام، هو ذلك الفكر النقدي الذي يجاور ويحاور الواقع ، يحلله ويحاول استكناه تناقضاته ونزعات تطوره أو تغيره، قبل أن ينحاز إلى، ويعزز بالنضال، تلك النزعة المفضلة لديه أو ذلك الاتجاه الذي يقربه من مثله الأعلى أو هدفه النهائي. بكلمات أخرى، الفكر النقدي لا يغوص في وحل الواقع من جهة، ولا يفر هاربًا من الواقع نحو الحلم الوردي أو المثل الأعلى من جهة ثانية، وليس وسطًا بين هذا وذاك من جهةٍ ثالثة. غني عن القول في هذا الصدد بأن الفكر النقدي، كما وصفته باقتضاب شديد، يتغذى على إرث ماركسي متجذر وعريق.
لا أريد هنا أن أقول وأردد ما قاله وردده الخبراء والعقلاء الكثيرون من قبل حول مثالب إعلان المباديء في واشنطن قبيل بداية خريف عام ١٩٩١، أو حول ما تلاه وتناسل عنه من إتفاقيات وتطبيقات وممارسات. ما أريد أن أقوله تحديدًا في هذا الشأن الجلل هو التالي: إعلان المباديء المذكور والاتفاقيات والتطبيقات والممارسات اللاحقة كانت كلها وليدة واقعية سياسية جرت إلى مخاطرة أو مراهنة سياسية غير محسوبة جيدًا. تلك الواقعية السياسية تقول لك ولي ولغيرنا التالي: حقق ما أمكن من الإنجازات واحصل على ما أمكن من المكاسب في ظل الظروف الراهنة، حتى لو اتسمت تلك الظروف بالرداءة، وكن مستعدًا لدفع ما يلزم من الثمن على مستوى المواقف والأهداف الرئيسة المعلنة! وبالفعل، لقد تم توقيع إعلان المباديء في ظل ظروف رديئة حقًا: جفاف موارد م.ت.ف. وانعزالها في تونس، انسداد أفق الانتفاضة الكبرى، انتفاضة الحجارة، بعد ما يقارب ثلاث سنوات على انطلاقها، إنقسام العالم العربي على خلفية حرب الخليج الثانية، وانفراط عقد الإتحاد السوفييتي. في ظل ظروف رديئة كهذه، ما كان بالإمكان تحصيل أكثر مما تم تحصيله، إذا كانت الواقعية السياسية هي الفكرة الفاعلة أو المسيطرة. وما تم تحصيله، كما نعرف، كان بائسًا ولا يتعدى حكمًا ذاتيًا محدودًا اقترن بتأجيل البت في القضايا الوطنية الرئيسة إلى زمن آخر.
ومن المؤسف والمحزن حقًا أن يرتكب نفس الخطأ، أو أن ترتكب نفس الخطيئة، بعد ما يقارب ثلاثة عقود على إعلان المباديء المذكور من قبل القائمة العربية الموحدة ورئيسها في الداخل الفلسطيني. فباسم الواقعية السياسية المقترنة بالمخاطرة أو المراهنة غير المحسوبة جيدًا، ولجت القائمة العربية الموحدة عتمة ائتلاف حكومي يقوده الثنائي لبيد وبنيت، مشترطة معالجة القضايا المدنية لفلسطينيي الداخل، خاصة الحارقة منها، وإن تطلب ذلك وضع القضايا الوطنية العليا لفلسطينيي الداخل والفلسطينيين عمومًا على رف الانتظار أو في غرفة التبريد. وكما تفاخرت م.ت.ف. باعتراف حكومة إسرائيل بها ممثلًا شرعيًا للشعب الفلسطيني، تفاخرت القائمة العربية الموحدة، على لسان حال رئيسها منصور عباس، بقبولها شريكًا شرعيًا في الائتلاف الحكومي. وفي الحالتين، كما نعرف، فإن أعتراف إسرائيل بشرعيتك ممثلًا أو شريكًا لا يعني بالضرورة أنك أصبحت على التأثير والتغيير الجديين أقرب أو أقدر!
وبقدر ما يغوص أرباب الواقعية السياسية في وحل الواقع، يصر معظم المثاليين السياسيين، على أنواعهم الثلاثة، على رفض هذا الواقع، وعلى ضرورة تجاوزه أو تغييره باتجاه المثل العليا التي ينجذبون إليها ويلوحون بها. فالمثالي الإسلامي يريد فلسطين من النهر إلى البحرعربية/ إسلامية الحكم والهوية والهوى، والديمقراطي/ الأخلاقي يريدها دولة ديمقراطية ليبرالية تساوي في الحقوق، كل الحقوق، بين جميع مواطنيها، والقومي/ الرومانسي يريدها دولة ديمقراطية، على الأرجح فدرالية أو ثنائية القومية. غني عن القول في هذا الصدد، بأن كل نوع من أنواع المثاليين السياسيين الثلاثة يعتقد جازمًا بأن ما ينادي به ويناضل من أجله هو الهدف النهائي الأجدر والأمثل والأعدل. ولكن المشكل الرئيس في جميع هذه الأنواع الثلاثة من المثاليين السياسيين يتلخص بالتالي: كيف يمكن جسر أو ردم الهوة الفاغرة بين واقع فلسطينيي وعربي يتسم بالرداءة وبين الهدف النهائي الذي يجسد ذلك المثل الأعلى؟ وكم من الزمن يلزم لجسر أو ردم مثل هذه الهوة الفاغرة، إذا افترضنا إمكانية تحقيق ذلك أصلا؟ وهل أمور البلاد والعباد سائرة باتجاه ذلك؟ وهناك قطيع من الأسئلة الأخرى، أساسًا حول القابلية للتحقيق في أي مستقبل منظور. ولكن، ورغم التساؤلات الكثيرة والجدية حول القابلية للتحقيق في المستقبل المنظور، تبقى فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة من النهر شرقًا الى البحر غربًا مصدر وحي وإلهام للديمقراطيين الكثيرين، عربًا وغير عرب، ممن يغذيهم ويحركهم حس العدالة.
وخلافًا للواقعية السياسية ونقائصها، القديمة منها والمستجدة، وخلافًا للمثالية السياسية على علات كل من أنواعها الثلاثة المذكورة أعلاه، ما أتحيز إليه، وما أنادي به، وما أروج له، هو الفكر النقدي أو طريقة التفكير النقدية. ومن مآثر طريقة التفكير النقدية هذه أنها تجنبنا الغوص في وحل الواقع دون امتلاك القدرة على تجاوزه من جهة، وتجنبنا الانفصال عن ذلك الواقع والتحليق عاليًا وبعيدًا في عالم المثل العليا من جهة أخرى. فهي تطالبك، وقبل أي شيءٍ آخر، بالتجاور مع الواقع، محاورته واستنطاقه، والتعرف على القوى الفاعلة والمؤثرة والمتصارعة فيه، على تناقضاته الداخلية والمؤثرات الخارجية، وعلى نزعات واتجاهات تغيره وتطوره، وذلك قبل أن تطالبك بالشد بتلك النزعة دون تلك، وبذلك الاتجاه دون ذاك، وبما يتوافق مع أهدافك وحقوقك وأهداف وحقوق جماعة التغيير التي تنحاز إليها، تمثلها أو تقودها. وأي خطوة تأخذها على الطريق يجب أن تقربك من تلك الأهداف والحقوق، أو، على الأقل، يجب أن لا تسد أو تعيق طريق التقدم نحوها. بهذا المعنى، فإن طريقة التفكير النقدية أكثر علمية وموضوعية من الواقعية السياسية التي يتم الحكم على جدواها أو عقمها بعد التجربة أو بناء على تجارب مماثلة سابقة، وكذلك من المثالية السياسية التي تجنح عادةً إلى نقل مركز الثقل من تحليل الواقع واستكناه آفاق واتجاهات تغيره إلى الإيمان بعدالة القضية أو القضايا وحتمية انتصارها، أو انتصار النضال من أجلها، لأنها كذلك.
وللإجمال أقول: لا تعجبني تلك الواقعية السياسية التي أوصلت قيادة م.ت.ف. إلى التوقيع على إتفاق أوسلو المعيب. ولا تعجبني أيضًا تلك الواقعية السياسية التي تلوح وتفاخر بها قيادة القائمة العربية الموحدة هذه الأيام، والتي أوصلت الى الولوج في عتمة ائتلاف حكومي يرأسه الثنائي لبيد- بنيت. الإنجاز في الحالة الأولى: حكمً ذاتي محدود مقابل تأجيل البت في القضايا الوطنية العليا كلها؛ الإنجاز الموعود في الحالة الثانية: مخصصات مالية وإجراءات قانونية ومعالجات لقضايا حارقة مقابل إخراج القضايا الوطنية الفلسطينية العليا من صلب اتفاق الائتلاف الحكومي. وفي المقابل، لا تعجبني تلك المثالية السياسية على أنواعها الثلاثة المذكورة، أساسًا لأن معظم منظريها والمدافعين عنها لا يحسنون الربط بين الأهداف النهائية التي تجسد مثلهم العليا من طرف، والواقع، على تناقضاته ونزعات واتجاهات تطوره أو تغيره، من الطرف الآخر. أما ما يعجبني، ولم يجرب بعد بصورة جدية، فهو الفكر النقدي، أو هي الطريقة النقدية في التفكير ذات الجذور الماركسية العريقة. وهي طريقة تفكير تعرف، في إعتقادي، كيف تربط بشكل أسلم وأمتن بين الواقع المتغير، أنماط التنظيم والنضال، والأهداف/ الحلول، المرحلية منها والنهائية. وتعرف أيضًا كيف، وفي أي ظروف، يمكن جسر أو ردم الهوة أو الهوات التي تفصل بين المحتمل والممكن من جهة، وبعيد المنال والمحال من جهة أخرى. وأخيرًا أقول : ما أحوجنا، نحن الفلسطينيين، إلى هذا الفكر النقدي هذه الأيام!