قوت القلوب.. الفصل 2 من رواية: أيام محبوبة
رأفت الخولي | مصر
صدفةٌ أهدتْ الوجودَ إلينا
وأتاحتْ لقاءَنا فالتقينا…..,
جورج جرداق.
: حتى الآن لم أعرف, هل كنتُ منشغلاً إلى هذا الحد, أم أنَّ الصوت جاء خفيضاً فلم أسمعْه؟ المُهم أنَّنى سمعتُه حين وصلتْ قدماى إلى منتصف العطفة الأولى للسُلَّم, وخِلتُنى إذا نظرتُ خلفى, يُمكننى أن أرى الواقف عند الدرجة الأولى, أو حتى المارِّين بالشارع المُتَّسع المواجه لمرآب مديرية الزراعة, حيث يطلُّ بابُها الرئيسي على النهر الصغير. لكنَّ أحداً لم يكنْ واقفاً عند البوابة لدى دخولى, فمن أين أتى ذلك الصوت؟
كان صوتاً أنثويا رقيقا؛ لعلَّها امرأة شابَّة أتتْ للعلاج وحدها, إذ لم يكن برفقتها سوى محفظة حريمى صغيرة تُمسكها بيدها اليسرى, حين أمسكتْ يدُها اليُمنى بالباب الحديد وقالت: “منتظراك من ساعتين”. ولمَّا استدرتُ ونظرتُ خلفى, كان من الصعوبة أن أتذكَّرها. شيئٌ ما, كان يتحرَّك فى عقلى منذ غادرتُ البيت فشغلنى عن كل الأحداث من حولى, حتى أنَّنى أشعلت سيجارة ومازالت سابقتُها بين أصابعى.
لم أذهبْ اليوم إلى عملى الحكومىِّ, فالبنتُ التى أحضروها عند الفجر فأيقظونى من نومٍ عميق, شغلتنى حكايتُها فأنستنى استعادةَ النُعاس, كما أنَّ أُصبع الإبهام فى يدى اليُمنى يؤلمنى كثيرا, حيث التقمَته بأسنانها الحادَّة, عندما حاولتُ أن أُخرجها من غيبوبة هستيرية, أصابتها بعد خلاف دبَّ بينها وبين أهلها, والفَرَحُ بعد يومين. ضغطتُ بأصبع الإبهام الأيسر بين عينيها, فصرختْ بصوت مرتفع والتقمتْ إبهامى الأيمن, حين أمسكتُ به هو والسبَّابة حلمة ثديها واعتصرتُها بشدة. هو ما طالَته منى حين كانتْ الكهرباء منقطعة, ولو كان ضوء الغرفة كثيفاً كالأوقات العادية, رُبَّما كانت ابتلعتنى من شدة ضغطة أُصبعى,… أخذنى النومُ مع خيوط الضوء الأولى, فسرقنى حلمٌ غريب غاص بي فى أعماق الدُنيا الثانية, دُنيا الأحلام, ما جعلنى أخرجُ من نوم عميق عند العاشرة صباحاً, وأتَّصلُ بالمستشفى لأبلغهم أنَّنى لن أحضُر, وعليهم تأجيلُ لجنة التقارير لليوم التالى.
عند طرقعة قطرات الماء الأولى من صنبور المياه بحمَّام الطابق الثانى, أحسستُ بألمٍ شديد ذكَّرنى بما حدث عند الفجر, فاكتشفتُ أنَّها كانت على حقِّ, حين رفضَتْ أن تفُضَّ بكارتها القابلة, أو كما يسمونها الماشطة, وهى بنت الثالثة والعشرين, وقد تخرَّجتْ من الطب البيطرى, وزوجُها الذى عقد قرانها منذ يومين ولم يدخل بها يوافق على الأمر. وبعد أن جاهدتُ نفسي فتحمَّلتُ ألم الماء الدافئ على أصبعى المجروح, صليتُ الصبح قضاءً وجلستُ أسترجع الحلم. ولمَّا كان هو نفسُه الذى يتكرَّرُ علىَّ كثيراً كان من السهل استعادتُه وتذكُّره.
هذه الذاكرة الحادَّة كسكين المطبخ المسنون تؤلمنى كثيرا. فأغلب الناس لا يهتمون بأحلامهم مثلى, ورُبَّما ينساها بعضهم تماماً إلَّا أنا؛ فالمكتبُ الرابضُ بغرفتى عليه نفس كُتُب الثانوية العامَّة, وأنا أجلس بجواره خائفاً, وأربط رأسى التى خَلتْ من كل المعلومات, والإمتحانات على الأبواب,… لا أعرفُ لماذا يأتينى هذا الحلم بالذات فأجتهدُ فى البحث عن تفسير له لبضعة أيام, ثم أحاول أن أتناساه فلا أستطيع, وسألتُ نفسى كثيراً وهو لم يزل بين جلدى وعظمى, هل بعدما أصبحتُ طبيباً أحتاج للثانوية مرة أخرى؟ وماذا أنا فاعلٌ بها؟ ثم كيف أواجه الدنيا إذا رسبتُ والناس تعرف عنى النبوغ والتفوق؟, ثم ما فائدة هذه الذاكرة التى تُشبه مطواة قرن الغزال, إذا لم تُسعفنى فى مثل هذه االظروف؟. المُهم أنَّنَى اتنفسُ الصعداء كُلما استيقظتُ, حين أكتشفُ أنَّه لم يكن سوى شيئٍ يحدث فى النوم.
بعد تناول شاى الصباح الذى صنعتُه بيدىَّ, ربطتُ مكان الجُرح بلاصق طبىَّ, وارتديتُ ملابس الخروج, فاستوقفنى صوت الكروان قبل أن أفتح الباب, وإذا بزوج الفتاة التى عضَّت أصبعى عند الفجر فى مواجهتى.
لا أعرفُ كيف فتحَ بوابة البيت دون أن أسمع, وحين اكتشفتُ أنَّ جرس الطابق الأول مُعطَّل منذ أسبوع, خمَّنتُ أنه قد ضغط على زِرِّه عدَّة مرات فلم يرن, فتسلَّق على وَجَل درجات السلم القديمة وصعد, آملا أن أكون بالبيت ليُكمل لىَّ الحكاية, حين لم يسعفه الوقت ولا انقطاع الكهرباء, ولم تساعده حالة زوجته التى لم يدخل بها بعدُ من الفضفضة,… نزلتُ أنا وهو إلى الطابق الأول, الذى اتخذتُ منه حجرة للكشف وصالة انتظار, بينما باقى المكان حوَّلتُه منذ سنين إلى استقبال للأهل فى المناسبات وفضِّ المنازعات.
لستُ أدرى كيف توسَّموا فىَّ المقدرة على حلِّ مشكلاتهم والفصل فى نزاعاتهم, برغم أنَّنى لم أكنْ طويل البال ولا أستريح لهذه المهمة, على غير ما كان أبى, الذى لا أنسى يوم موته وهو يفضُّ مشكلةً بين أولاد أعمامه,… فتحتُ غرفة الكشف وأجلسته أمامى, وحدَّقتُ فى وجهه دون قصد, فملأنى غيظٌ شديدٌ من استطالة أنفه الذى يُشبه مِنقار مالك الحزين, حين يرفعه لأعلى وهو يتكلم عن نفسه, لكنَّ الأمر بدا أكثر صعوبة, لمَّا علمتُ أنَّه لم يكنْ موافقاً على رغبة أهل عروسته, فكان يتماهى مع رغبتهم ليُجيبهم بالنفى عمَّا دار برؤوسهم.
خطبها منذ عامين, عاش خلالهما كأنَّه واحدٌ من أسرتها, لم يكن يترك بيتهم إلَّا للسفر لبلدتهم البعيدة, فكان يظلُّ بالأيام يبيتُ ويأكل ويستحم عندهم, وهى البنت الوحيدة لأمها وأبيها, ولمَّا كانت العداوة غائرة كالبئر العميق بين تلك الأسرة وبين جارهم, أشاعت زوجة صميدة ـ الجار الذى تسد داره نهاية الحارة ـ أنَّ علاقته بها تجاوزت حدَّ الخِطبة إلى ماهو أبعد. الأمرُ الذى دفع والدها وعدداً من أهلها إلى الإصرار على أن تأتىَّ تلك المرأة البلهاء لتفُضَّ بكارتها أمام الجميع, بعدها سوف يُخرجون ألسنتهم للجار الأحمق وزوجته “نوارة السفروت”, ومَن علموا بالحكاية وصدَّقوها, فتنخرس ألسنتُهم وتنسدُّ أفواههم, عند مشاهدتهم الشال الأبيض المزركش ببقع الدم من نافذة غرفة النوم, وهو يرفرف فى الهواء, كعلم دولة انتصرت فى الحرب. ولمَّا سألتُه لماذا أبدى الموافقة علانيةً, وهو يُضمرُ فى نفسه الرفض, أخبرنى بأنَّ ذلك أمرٌ يفهمه الصغير والكبير, فعند رفضه سيتأكَّد لهم ظنُّ الجيران, وينتشر الخبر فى كل بيوت البلدة,…
انصرف الشابُّ من عندى, فلاحتْ فى ذاكرتى صورة “قوت القلوب”, بمقدِّمة وجهها التى شابهتْ رغيف الخبز الملعبط, وهى تدخل على العروس ليلة الدُخلة, فترتعدُ المسكينة وتموتُ من الخوف, فقط من نظرة عينيها الحادَّة, قبل أن تفعل أى شيئ, وفى غضون نصف دقيقة, يكون الشال قد لمعتْ فية نقط حمراء غير منتظمة, تشبه أوراق وردة تبعثرت على بلاط شفَّاف, فيقوم بعدها والدها بعوج طاقيته ورفع رأسه لأعلى, ويتمايل كأنَّما حصل على كأس الأمم الأفريقية.
للوهلة الأولى لم أعرفْها, وحين دقَّقتُ النظر فى درجة السُلَّم, التى تَلَتْ الباب الحديد, أول ما شاهدتُ, وقعتْ عيناى على قدميها؛ فيما يبدو أنَّنى كنت أقف بميل حاد, فلم أتمكن من رؤية وجهها… وعند حدود قدميها اللتين تلتمعان ببياض بان من حذائها المشرَّع, شاهدتُ قدميْ سلامة صاحب محل المشويات, فكانتْ كقدمىْ فحل الجاموس, حين عرض عليها الدخول من الباب الزجاجىِّ المتسع, لمَّا طال انتظارها واقفةً عند البوابة لتجلس فى الصالة السُفلية حتى حضورى, لكنَّها رفضتْ وشكرَته, فكان يستعرضُ رجولته المُزيَّفة عندما أخرج لها كُرسياً لتستريح عليه, لكنَّ عينيه كانتا تجوبان جسدها من أعلاه لأسفله, حين شابَه غصن التفاح فى مطلع الربيع, بثماره البيضاء الضاربة بالحُمرة.
ناديتُها لتلحق بى, فظلَّت نظراته كطلقات الرصاص, تنفذ بعنف فى صدرها المُمتلئ, وتخترق خصرها المنحوت فى شبق بالغ, وما أن لحِقتْ بى عند البسطة الأولى, قبل الباب المغلق بالطوب, والمؤدى إلى الطابق العلوى للمطعم, حتى أفسحتُ لها السلم الضيق لتصعد قبلى… لستُ أدرى لِمَ فعلتُ ذلك؛ هل رغِبتُ أن يصنع جسمى فاصلاً بينها وبين عينيه, أم تمنيتُ أنا الآخر, أن استمتع ـ بحُكم رجولتى المُثارة ـ بظهرها المُتَّسق كعود الكافور الناتئ بعد قطْع الشجرة الأُم؟.
كان البابُ مُغلقاً فأدركتُ أنَّ العاملة لم تحضُر, وأخرجتُ مفتاحى من جيب البنطلون الصغير وفتحتُه, فلاحظتُ ارتعاشة يديَّ وأنا أضع المفتاح فى فتحة الكالون, ورأيتُنى مُقدِماً على لقاء من نوع فريد بامرأة عشقتُها وتزوَّجتْ غيرى, لكنَّنى حاولتُ تهدئة نفسى حتى لا تلاحظ توترى, وتتسرَّب إلى عقلها هواجس خوف سيطر عليها من قبل حين كنَّا نجلس وحدنا, وذكَّرَتْها عيناى بما قلتُه لها منذ سنوات, بأنَّنى لستُ ذئبا يحاول أن يلتهمها, فبدا الهدوء واضحاً فى عينيها, لكنَّ رأسى كانت خاوية, إلّا من شيطان يجول بها كحصان نازق, حاولتُ أن أكبُته بلجام من حديد, ليكُفَّ عن الرَمْح فى صحراء جسدها الواسعة.
انغلق الباب من خلفنا بفعل الهواء الذى اندفع فجأة من النافذة المواجهة, فاكتشفتُ أنَّنى أنا وهى وحدَنا فى مساحة لا تتجاوز عدَّة أمتار… كان المكان من الضيق بقدر لا يسمح إلّا بمريضٍ واحد بمُرافق, ما جعلنى أستقبل مرضاىَ بميعاد مُسبَق, وأُغلقُ الباب الحديديَّ المثبت أمام الباب الخشب, حتى لا يندفع مريضٌ آخر حال وجود مريض قبله, فيبدو المكان مزدحماً, وهو ما كان يخنقنى. المهم أنَّنى لم أكُنْ السبب وحدى؛ حين كان هواء النافذة, والبابُ الملعونُ الذى انغلق, وشعرُها المحشودُ خلف رقبتها البيضاء, وعيناها السماويتان, وإبهامى الذى مازال يؤلمنى, سبباً للقُبلة الأولى.