تحليل نص” سقراطُ يموتُ واقفاً ” لـ”عبد الجبار الفياض
باسم عبد الكريم العراقي | العراق
تناص العتبات العنوانية داخلياً / مفتاحية النص الغائب
أولا النص :
( يبابٌ
يرقبُ غيمةً في ساعةِ طَلْق . . .
أقزامٌ
يقتسمون هواءَ المدينة . . .
تموجُ بما لم تألفْهُ من قبلُ أروقةُ المشائين . . .
من أينَ جاءَ هذا الدّميمُ بأتعسِ ما رأتْ عيونُ النّهار؟
يقلِبُ ما قد غارَ في جماجمَ مذ التصقتْ بها الأسماء . . .
قيّدوه . . .
إنًّهُ يُلقي الحَصى في بحيرةٍ راكدة . . .
يُفسدُ علينا ما نحنُ فيه . . .
لا تدَعوا لهُ قدَماً في مجلس
فانفاسُهُ غيرُ الأنفاس . . .
إنَّهُ ينتصرُ لدمامتِه
بخرقِ ما نراهُ جمالاً !
قُضاةَ القصر
بيدِكم تُستَلُّ من تحتِ لذتِها الخطيئة
يُدارُ دولابُ القَرارِ لبوصلةِ الشّرفةِ المُنيفة !
حيثُ الظّلامُ يصنعُ توابيتَ بلا أسماء . . .
مالكم
علقتُم الكلمةَ من ثدييْها
حتى تساقطَ لحمُها في أفواهِ السّفهاء !
كأنَّ الأمسَ روحٌ مقدسةٌ لا تُمسّ
تُحرقُ حولَها الفصولُ الأربعةُ بخوراً بترتيلةِ الوَلاء . . .
خذوا هذهِ التي أتنفسُ بها
لكنَّكم لنْ تأخذوا ما باحتْ بهِ لهذا الكون . . .
تبّاً لعصرٍ
يُخنقُ على الأشهادِ شاهدُه . . .
لم يعلُ الموتُ قامتَهُ القصيرة
اصطحبَهُ بثباتِ قِممٍ
يرتقيها
لكنَّهُ
يظلُّ بجوارِها مملوكاً . . .
يَسرُّهُ :
لا يليقُ بعظمتِكَ أنْ تكونَ تافهاً إلى هذا الحدّ . . .
بئسكَ أنْ تُسكبَ سُمّاً في قعبٍ من فخار . . .
أغلقَ عينيْه . . .
القابعون فوقَ التّل
ليسَ لهم أنْ يقتربوا من حافرِ بَغل . . .
ليتَّهم يغادرون خوفَهم قليلاً
ليروْا أنَّ الحرَّ حينَ يموت
يُكفَّنُ بورقِ الشّمس !
صرخةُ الأمواتِ
تسمعُها إذنُ الطّغاةِ فقط !
السُّمُّ
يرسمُ لوحةً مفتوحةَ الأبعادِ
تُرى بعينِ كُلِّ العصور . . .
ليسَ كوجهِ أثينا وجهٌ
تغادرُهُ كُلُّ الألوان جليداً أسود . . .
رجعتِ الشّمسُ إلى بيتِها بحفنةٍ من حزن . . .
كيفَ يُقشطُ ندمٌ تخثّرَ في حنايا مُعتمة ؟
لاتَ حينَ نَدم
فلا يُغفرُ لسهمٍ خرقَ حنجرةً
هتفتْ لانسانيّةِ الإنسان ! ))
ثانيا التحليل:
لما كنت لااقول بانغلاقية النص، او موت مؤلفه بعد فراغه من كتابته ث، فقد انسقت وراء مابعثته في ذاكرتي بنية عتبة هذا النص العنوانية (سقراط يموت واقفاً) الموحية بإنسانية الثيمة، من تداعيات قرائية لبعض آثار الكاتب الشعرية التي اطلعت عليها فإذاي اخلص الى انه قام بتناص داخلي، بين هذه العتبة، وعتبة اخرى موازية لها تركيبياً ودلالياً بعنوان (السياب يموت غدا) تعود لنص مخصوص الثيمة، كان الشاعر قد كتبه سابقاً ، لتتشكل من هذا التناص ملامح نص غائب يشي بالمقاصد الحقيقية التي يضمرها ذلك النص السقراطي، الذي سنشتغل على التعرف عليه في نهاية دراستنا، ويتمظهر هذا التوازي العتباتي سيميائياً في عدة مستويات هي:
1 – مستوى البنية التركيبية لجملتيهما المتناسبتان فيما يلي :
– تماثلهما في الثبوت والديمومةوالاستقرار، فكلتاهما اسميتان .
– تشابه عناصر بناء الجملتين في سياقهما التعبيري، عددياً/ ثلاث إشارات، تسلسلياً وتراتيبياً / تجاورياً (اشغالها
ذات الموقع في الجملة)، وكما في هذه المقاربة الاسنادية لهما :
اشارة اسمية مسند اليها (سقراط/ السياب) + اشارة فعلية مسند/ يموت +الاشارة (واقفاً / غداً) اشارة قيدية تركيبية ( القيود: إشارات تحدد معنى الجملة) مع وجود (استبدال ) هنا .
–تماثل البنية الصوتية للاشارتين البؤرويتين (سقراط/ السياب)، على مستوى الوزن الايقاعي، وأصوات حروفهما الداخلية ، كما يلي :
– وزنهما الايقاعي :
سقراطُ/ سيّابُ (بعد حذف ال تعريفها كونهما حرفين مزيدين ) :
كتابتهما عروضياً : سُقْرَاطُو / سَيْيَابُو
تقطيعهما: متحرك/ ساكن/ متحرك / ساكن / متحرك / ساكن
الوزن : مفعولن
– اصوات حروفهما الداخلية :
سقراط.. مهموس/ مجهور/ مجهور/ مد / مجهور
سيّاب/ سيياب: مهموس / مجهور / مجهور / مد / مجهور
2 – مستوى البنيتين النحوية والزمانية :
تطابقت الاشارتان البؤرويتان (سقراط / السياب) في نوع التعريف / اسمان علمان، والموقع الاعرابي/ كلاهما مبتدأ مرفوع، خبرهما ذات الجملة الفعلية/ يموت، ومضارعية الفعل دلالة على استمرارية اثره في الوقت الحاضر مع انفتاحه على المستقبل .
3 – مستوى البنيتين الصرفية و الدلالية :
– سقراط: في سياقها المقامي/ تاريخ الفلسفة: بتكثيف رمزية سقراط الفكرية و اشتغالاته الفلسفية : معارض لحكومة الطغاة والنبلاء الاثينية (نسبة إلى اثينا) وديمقراطيتها المنحرفة، بثوريته الهادفة الى تحرير العقل من الجهل و هيمنة الفكر اللاهوتي، فهما سبب الاثام والرذائل، وان الحقيقة وتحقيق العدالة والفضيلة انما يكون بالمعرفة والتخلي عن ماقبليات الاعراف والتقاليد البالية، وكان (الجدل) سلاحه المبتكر والناجع في ميادين حواراته مع خصومه وحلقات دروسه ، حتى صار اكبر خطر يهدد عرش السلطة الشمولية الحاكمة ، فاتهمته بالهرطقة وافساد عقول الشباب والسخرية من قدسية الالهة فحكمت عليه بالاعدام بتناول السم ،
– الاشارة يموت: دالة فعلية، مخادعة مضللة في حقيقة داليتها، فحقيقة البنية الصرفية لفعلها الثلاثي المجرد مبنية للمجهول/ مِيتَ، لا مبنية للمعلوم/ مات ،لأنه من الافعال المبنية لغير فاعل (على غرار : أُغميَ عليه ، جُنَّ ، وُلِدَ ، أُعدِم …الخ ) ، وهذا يعني ان هناك فاعلاً حقيقياً متوارياً هو من يقرره ويقدّره على اخر ظاهر في الجملة ظهوراً مجازياً ،فحين نقول مات فلانُ بالسيف : ففاعل وعلة (الاماتة) الحقيقي هنا هو السيف الذي سلب حياة (فلان) الذي توهمنا الفاعلية فيه لوروده مرفوعاً بعد الفعل (مات)، واسناد فعل الموت الى مسند اليه متوهّم ماهو الا تساند غير حقيقي، وهذا الفاعل المتوارى ، اما ان يكون عاقلاً (شخص ما / .الآمر بالإماتة ) ، او غير عاقل (مرض، حادث، الخ)، فما من كائن حي يملك ان يتحكم بفعل (الموت) تقديراً او تقريراً ، الا بأن يخرجه من لزوميته، وتعديته بإحدى الصيغ الصرفية المعروفة كالهمزة الاولية، فنقول مثلاً : أماتَ الجفاف الزرعَ ، يُميتُ) وهنا لابد ان تغدو جملة العنوان/ سقراط يُميتُ نفسه واقفا) وفي هذه الصياغة ضعف حبكة ، فإماتة النفس / كمدلول ، يدل عليه معجمياً الدال/ انتحر ، فتكون الصياغة اللغوية الانسب / سقراط ينتحر واقفاً ، لكن استخدام الشاعر لصيغة المبني للمعلوم (يموت) عنوانيا، انما كان بقصدية الايحاء ان سقراط هو من قدّر الموت على نفسه بشمم (واقفاً) حيث قام الشاعر هنا بالتناص مع قصدية واقعة الموت السقراطي (تناول سقراط السم المميت ، رغم مااتاحه له طلابه وانصاره من اسباب الهروب من سجنه، قاصداً تأكيد على أن الافكار السامية تستحق الاستشهاد دونها) .
اما عتبة عنوان النص المتناص معه (السياب يموت غداً): فهي ذات اشارات متعارضة ظاهرياً ، فالسياب كدال، اشارة لها مدلولان:
ـ إحدهما لغوي : لقب انسان ( بدر شاكر ) ، دميم قبيح الخلقة، مات بايولوجياً (غياب نهائي لوظائفه الجسمانية)، و غادر الحياة (الغياب الجسدي)، منذ اكثرمن خمسة عقود خلت، والاشارة الظرفية المستقبلية (غداً) تتعارض مع هذا المعنى زمانياً .
ـ والآخر سياقي المقام : شاعر مبدع مجدد (احدث ثورة ادبية بابتكاره الشعر الحر) متعارض مع طغاة الحكام ، له رمزية و قيمة انسانية عابرة للزمن (شاعر رساليّ متجدد الحضور) ، وبالتالي تخرج الإشارة (يموت)، من دلالتها التوقُّفية المادية (الانطفاء العملياتي للاجهزة العضوية الفسلجية للكائن الحي ، وانتهاء زمنه المعاش) ، الى رمزيتها الايحائية التصوُّرية (الموت المعنوي/ تغييب / محو الأثر) ، وهو هنا موت مؤجل بدلالة (غداً)، إيماءة إيحائية، بوجود إرادةٍ ما قضت بإنقبار وإمّحاء اثار الرمزية السيابية، كقيمة (إنساشاعرية) وطنية ميتا زمانية، من الذاكرة والحياة (الثقافكرية) العراقية، وهي إرادة (اخر) نافذ القرار ، ولابدّ أن يكون :
سلطوياً (فهو وحده من يقرر مصائر الآخرين) .
مؤدلجاً ظلامياً (بدلالة قراره الإفنائي لآثار تلك الرمزية التحررية التنويرية ) .
شمولياً ( لأنه لايتقبل نقيضه وجودياً ) .
التوازي بين الاشارتين (يموت) في العنوانين المذكورين، متحقق في تقابل ارادة (الانا) السقراطية ، وارادة (الهو) الاخروية ، كما ان كلتي الاشارتين متعارضتا الدلالة الاولى / موت جسدي والثانية معنوي. بذا فان تمظهرية التوازي (السُّقْراسيابي) على المستوى المعنوي المقامي :
فكرحرانساني الثورة/ خلق الحياة ، مقابل لقداسة سلطة شمولية مؤدلجة / وأد الحياة
المقاربة التأويلية لهذا التقابل :
الموت (السقراسيابي) محض وهم يشيعه اعداء الانسان لسلبه ارادته بالتحرر من نير فكرهم الظلامي
فمن يصنع الحياة يُخلد في الذاكرة الانسانية، على الضد ممن يئدونها ويفرغونها من معناها ، فستُمحى آثارهم من صفحات الزمن خلا السوداء منها ، ويطويهم النسيان .
نخلص من تحليلنا لمستويات التوازي بين العتبتين اعلاه، الذي قارب الثماثل بين مركبات بنيتي جملتيهما ان يكون تطابقاً ، ان الشاعر تقصد التناص بينهما ، ليبعث رسالة خفية مفادها ان النص الحقيقي مغيًَّبٌ تحت سطح النص السقراطي (القناع)، كآلية (اتقائية) وقائية تصيب بعمى الالوان عيون الرقيب السلطوي المتلصصة على ما بين سطور كل اثر مكتوب ، فتلقي القبض على كل حرف او اشارة تشم فيهما رائحة تمرد او تتوهم تلميحاً بانتقادٍ او مسٍّ بجلال المؤسسة الحاكمة ، مما سيعود عليه (اي كاتب النص المارق) بعظيم الأذى وفادح الخسران .
ولما كان متن النص يفسر ويوضح دلالات العتبة العنوانية ويجيب عمّا تثيره من اسئلة كما يذهب (علم العنونة) ، لذا فإن التناص بين عتبتي النصين المذكورين ، سيكون له تماثلاته المعنوية في الفضاء التعبيري بلْهَ ثيمة النص السقراطي، حتى ليصح دلالياً تأويل اشاراته المحورية بما يتسق مكزمانيا مع الهم السيابي/ العراقي ، ًذلك الهم الذي بسببه يسعى من اعتبره خطراً محدقاً بشمولية سلطته، الى قتل/ إماتة ، آثاره في الذات العراقية الواعية ً، وهذه التماثلات والتأويل هما ما انتجا النص الغائب ، الذي قصد الشاعر من ورائه ان يلبس حقيقة فكرته السيابية (الهم الوطني) جلباب سقراط تحاشياً للرقيب كما اسلفنت ومن هذه الاشارات المحورية :
– الدميم / ( من أينَ جاءَ هذا الدّميمُ بأتعسِ ما رأتْ عيونُ النّهار؟ ) : الدمامة صفة خَلقية ( سقراسيابية ) مشتركة بينهما / توازٍ شكلي متماثل
– الدعوة السقراطية للثورة على الجهل (يقلِبُ ما قد غارَ في جماجمَ مذ التصقتْ بها الأسماء) ، واثارة وعي الناس وحملهم على كسر جمودية التفكير(إنًّهُ يُلقي الحَصى في بحيرةٍ راكدة ) و التمرد على قديم الاحكام والقياسات الفكرية الجمالية للاتيان بما هو جديد (بخرقِ ما نراهُ جمالاً ! ) ، توازي تلك السيابية
في يسارية معارضته للحكم الشمولي وثورته التي قام بها في الشعر العربي، بتحريره من قيود العروض وإعلانه ولادة الشعر الحر.
– قُضاةَ القصر
بيدِكم تُستَلُّ من تحتِ لذتِها الخطيئة
يُدارُ دولابُ القَرارِ لبوصلةِ الشّرفةِ المُنيفة !
حيثُ الظّلامُ يصنعُ توابيتَ بلا أسماء . . .
مالكم
علقتُم الكلمةَ من ثدييْها
حتى تساقطَ لحمُها في أفواهِ السّفهاء !
كأنَّ الأمسَ روحٌ مقدسةٌ لا تُمسّ
تُحرقُ حولَها الفصولُ الأربعةُ بخوراً بترتيلةِ الوَلاء . . .
خذوا هذهِ التي أتنفسُ بها
لكنَّكم لنْ تأخذوا ما باحتْ بهِ لهذا الكون . . .
تبّاً لعصرٍ
يُخنقُ على الأشهادِ شاهدُه . . .
لم يعلُ الموتُ قامتَهُ القصيرة
اصطحبَهُ بثباتِ قِممٍ
يرتقيها
لكنَّهُ
يظلُّ بجوارِها مملوكاً . . .
يَسرُّهُ :
لا يليقُ بعظمتِكَ أنْ تكونَ تافهاً إلى هذا الحدّ . . .
بئسكَ أنْ تُسكبَ سُمّاً في قعبٍ من فخار . . .
أغلقَ عينيْه . . .
القابعون فوقَ التّل
ليسَ لهم أنْ يقتربوا من حافرِ بَغل . . .
ليتَّهم يغادرون خوفَهم قليلاً
ليروْا أنَّ الحرَّ حينَ يموت
يُكفَّنُ بورقِ الشّمس !
صرخةُ الأمواتِ
تسمعُها إذنُ الطّغاةِ فقط !
السُّمُّ
يرسمُ لوحةً مفتوحةَ الأبعادِ
تُرى بعينِ كُلِّ العصور . . .
ليسَ كوجهِ أثينا وجهٌ
تغادرُهُ كُلُّ الألوان جليداً أسود . . .
رجعتِ الشّمسُ إلى بيتِها بحفنةٍ من حزن . . .
كيفَ يُقشطُ ندمٌ تخثّرَ في حنايا مُعتمة ؟
لاتَ حينَ نَدم
فلا يُغفرُ لسهمٍ خرقَ حنجرةً
هتفتْ لانسانيّةِ الإنسان !
ـ باسم العراقي ـ