اللسانيات، الشّعرية، السَّيميائية
قراءة ومراجعة أكاديمية: د. أمل سلمان – العراق
من المؤلفات المهمة التي أصدرتها دار شهريار للطباعة والنشر والترجمة في العراق/البصرة في طبعته الأولى لعام ٢٠٢١ وبترجمةالشَّاعرالعراقي الأستاذ رعد زامل ،كتاب (اللسانيات ،الشّعرية ، السّيميائية) للساني اللُّغوي والناقد الأدبي الروسي المعروف ،رومان ياكوبسن ،وهو أحد أهم علماء اللغة في القرن العشرين ومن رواد المدرسة الشّكلية الروسية ،له جهود كبيرة ورائدة في تطوير التحليل التركيبي للغة والشّعر والفن ومن إصداراته المترجمة للعربية كتابه ،قضايا الشعرية، الذي مثل انعطافة كبيرة في تأريخ النقد الأدبي ووظائف اللغة ، وكتابه الآخر ست محاضرات في الصوت والمعنى.
المتصفح أوراق كتابه الجديد هذا، يشعر أنّه بمثابة الجزء الثاني أو المتمم لكتابه قضايا الشعرية، لتشابه القضايا التي عالجها والمحاور التي يدور حولها وإن بدت للقارىء أنّها أكثر نضجا وتطورا .
وقد قسمه المؤلف على تسعة محاور ،تقصّى خلالها أنظمة العلامات وحدد الخصائص التي جعلت اللغة نظاما منفصلا في مجمل الحقائق السيميولوجية ، وعلى النحو الآتي:
كان المحور الأول بحثا عن جوهر اللغة والثاني، تتبع السائد من الأنساق الشَّعرية ،والثالث تقصى بعض مشاكل اللغة والأدب،وأمّا المحور الرابع فقد خصصه للسانيات والشَّعريّة ، والخامس عنونه ب ما الشّعر ؟ ،والسادس كرّسه للغة في الاشتغال ، وأما المحور السابع فقد تتبع فيه مراحل تطور السيميائية والمحورالثامن، خصه ببيان العلاقة بين الإشارة البصرية والسَّمعية والمحور التاسع،تكلم فيه عن الواقعية في الفن وختم محاور الكتاب هذا ب سؤال عن أهمية الفن السابع ،السينما ودور الإشارة في تأريخ الأفلام وهل الفلم في تراجع ؟. تجتمع محاور الكتاب هذا في نقطة رئيسة وهي رؤية دي سوسير للسان (اللغة) بوصفها نسقا من العلامات التي تعبر عن معنى فهي ” منظومة من العلامات تعبر عن فكر ما مع تركيز دائم على العلاقات التي تربط بين الوحدات والعناصر اللغوية ” كما قرر دي سوسير اعتباطية العلامة اللغوية وهوما يمكن أن يقارن بلغة الصم والبكم والطقوس الرمزية الأخرى دينية كانت أم ثقافية ما دامت وسط المجتمع ،فاللغة منظومة علامات اعتباطية وتقليدية وقد تزامنت هذه الأفكار مع ما كان يقوله عالم آخر وهوالأمريكي ، تشارلز بيرس ، الذي يرى أن النشاط البشري بمجمله هو نشاط سيميائي وراى اعتباطية العلامة اللغوية ايضا مما يمنح الدوال مدلولات لا نهائية ، وهنا تلتقي السيميائية واللسانيات في القول باعتباطية الدليل اللساني، وإن راى البعض أن هذه العلامة ينبغي وصفها ، بأنها ضرورية وليست اعتباطية.
وهكذا تطورت السيميائية في القرن العشرين وأصبحت حقلا معرفيا مستقلا، قرب المحاولات المعرفية التي كانت متباعدة ومعزول بعضها عن بعض وأعاد تماسكها.
وقد تناول ياكوبسن تقسيم بيرس للعلامات إذ “ميز بيرس وبشكل واضح بين الصفات المادية، لأية علامة (الدال) ومفسّرها المباشر (المدلول)،بثلاثة أنواع أساسية من توليد الدلالة، تستند إلى علاقات مختلفة بين الدال والمدلول وهي ص٨
١_ الأيقونة، تعمل بشكل أساسي من خلال تشابه واقعي بين الدال والمدلول ، في سبيل المثال، بين صورة الحيوان وبين الحيوان في الصورة ، فالسابق يرمز إلى الأخير لمجرد أنّه يشبهه.
٢_ المؤشر، إشارة إحالية، يعمل من خلال تماس واقعي ووجودي بين الدال والمدلول، ويعتمد عمل المؤشرات نفسيا على الأرتباط بالتماس أو التجاور ، في سبيل المثال ، إن الدخان مؤشّر على النار .
٣_ الرمز، يعمل بشكل رئيس من خلال التماس المتعارف عليه والمكتسب بين الدال والمدلول، هذا التماس أو الترابط يقوم على كونه قاعدة ، ولا يعتمد على وجود أو عدم وجود أيّ تشابه أو تماس جسدي ، ومعرفة هذه القاعدة إلزامية لمفسّر ايّ رمز معطى .
وقد أبدى بيرس اهتمامه الشديد بالمكونين ذي الإشارة الإحالية والأيقونية للرموز اللفظية ، هذا الاهتمام المرتبط أرتباطا وثيقا بأطروحته القائلة بأن ” أكثر العلامات كمالا هي تلك التي تكون فيها السمة الأيقونية والإحالية والرمزية ممزوجة “
وكما رسم ياكوبسن خطاطته المعروفة في كتابه ،قضايا الشعرية للعناصر الستة المكونة لأي عملية إتصال لفظي وهي على النحو الآتي :
سياق
مرسل ….رسالة ….مرسل إليه
تواصل
شفرة
فكل عامل من هذه العناصر الستة تقرر وظيفة مختلفة للغة ، إلا إنّه بالكاد يمكننا أن نجد رسائل لفظية تفي بوظيفة واحدة فقط . فالتنوع لا يكمن في احتكار بعض هذه الوظائف العديدة ، ولكن في النظام التراتبي المختلف للوظائف ، إذ تعتمد البنية اللفظية للرسالة بشكل أساسي على الوظيفة السائدة يقول ” وبعد أن أصبح وصفنا السريع للوظائف الأساسية الست للتواصل اللفظي مكتملا إلى حد ما ، فيمكننا أن نكمل خطاطتنا للعوامل الأساسية بخطاطة مناظرة للوظائف “ص٥١. ويمكن توضيح خطاطة الوظائف التي أقرها ياكوبسن على النحو الآتي :
المرجعية
العاطفية …. الشعرية …. الإفهامية
الانتباهية
ميتا لسانية
ويشرح بشكل مفصل ، المعيار اللساني التجريبي للوظيفة الشّعرية القائمة أساسا على نمطين من الترتيب المستعمل بالسلوك اللفظي ، هما الاختيار والتأليف .ص٥٢
الأول،ينتج على أساس التناسب والتشابه وعدم التشابه والترادف والتناقض ، في حين ينتج الثاني (التأليف ) بناء الجملة على أساس التماس المتواصل .ويمضي ياكوبسن في شرح الوظيفة الشَّعرية مستعينا بإجراءات تطبيقية وشواهد حية ويلخص إلى القول :إن تحليل نظم الشّعر يكون ضمن اختصاص الشّعرية بشكل كامل ،ويُعرّف هذه الوظيفة على إنّها ذلك الجزء من اللسَّانيات الذي يتعامل مع الوظيفة الشَّعرية في علاقتها مع وظائف اللّغة الأخرى ، فالشّعرية بالمعنى الأوسع عند ياكوبسن تتعامل مع الوظيفة الشعرية ليس في الشعر فقط ، إذ يتمّ فيه فرض هذه الوظيفة على وظائف أخرى للغة ، ولكن الشعرية ايضا تتعامل مع ما هو خارج الشعر ، وذلك عندما يتم فرض وظيفة معينة أخرى لتكون أعلى مكانة من الوظيفة الشعرية .
ويحاول ياكوبسن في كتابه هذا تحديد خط ترسيم الحدود بين الشعر وغير الشعرقائلا ” كل عمل لفظي في معنى معين يُؤسْلِب ويحوّل الحدث الذي يصوّره، وكيف يفعل ذلك ، فهذا ما يقرره موقفه وقناعته العاطفية والجمهور المتلقي له ومخزون الأنماط الجاهزة التي يستمد منها ” ص٩٤ وهذا يعني، أن ياكوبسن يتوسع في مفهوم الشّعر ويُدخل تحت تعريفه كلّ كلام لفظي له مغزى معين يتقبله القارىء ..
فالشَّعرية على وفق رؤيته تكون حاضرة عندما يتم الشّعور بالكلمة بوصفها كلمة وليس مجرد تمثيل للشيء المسمّى بها أو فورة عاطفة ، عندما تكتسب الكلمات وتركيبها ومعناها وشكلها الخارجي والباطني ثقلا وقيمة خاصة بها بدلا من الإشارة إلى الواقع على نحو غير مكترث .ويستشهد على كلامه هذا بقصيدة الغراب لإدغار الآن بو ،التي ترجمها اصلا الشاعر رعد زامل ايضا ،محللا إياها تحليلا دقيقا قائلا عنها هي قصيدة خُلقت للتعبير عن قصدية التواصل ص١١١ .
ويتتبع ياكوبسن في فصل مستقل ، مراحل تطور السيميائية عند علماء اللغة مقسما إياها إلى مراحل تسع منتهيا إلى القول : إن السيميوطيقا لها الحق والواجب بدراسة بنى أنواع وأنظمة العلامات جميعها ، وتوضيح علاقاتها التراتبية المتنوعة وشبكة وظائفها والخصائص المشتركة أو المختلفة للأنظمة جميعها ، تنوع العلاقات بين الشفرة والرسالة ، أو بين الدوال والمدلولات …فالسيميائية وبحكم حقيقة كونها علم العلامات ، مدعوة لتشمل أنواع العلامات كلها ص١٤٨.وعن العلاقة بين الإشارات البصرية والسَّمعية ،فحاول ياكوبسن بناء أنموذج عام لإنتاج العلامة وتصوّرها ونماذج منفصلة لأنواع مختلفة من العلامات ، فالعلاقة البنيوية والإدراكية بين العلامات البصرية والسمعية واحدة من الأسئلة التي تظهر بشكل بارز في جدول أعمال السيميائية ، ففي حياتنا اليومية يكون التمييز بين الإشارات الإحالية المرئية أعلى بكثير واستخدامها أوسع من تمييز واستخدام الإشارات الإحالية السمعية، إذ لوحظ ميلا قويا ملفتا للنظر لتجسيد العلامات البصرية لربطها بالأشياء وإسناد المحاكاة إلى مثل هذه العلامات وإلى عدها عناصر من فن قائم على المحاكاة .ص١٥٣ ،فكل من الإدراك البصري والسمعي يحدث في الفضاء والزمن ، ولكن البعد المكاني يضع الأولوية للإشارات البصرية والبعد الزمني يضعها للعلامات السمعية .وأنهى ياكوبسن هذا المحور بالقول : إنّه ليس هناك عدد من الاختلافات المهمة فقط ، ولكن هناك أيضا عددا من السمات المشتركة بين العلامات البصرية المكانية ولا سيما الرسم ، من ناحية أخرى ،وبين الفن اللفظي والموسيقى اللذين يتعاملان مع الزمن في المقام الاول ، يجب أن توخذ هذه الاختلافات والتقاربات في الحسبان عند إجراء أيّ مقاربة أو دراسة تخص مثل هذه الموضوعات .وختاما أقول :
الكتاب ثري جدا بالمادة اللغوية والأدبية والفكرية والمحاور التي تدرس علم اللغة والشعرية وعلاقته بعلم العلامات لا غني لأيّ دارس ٍوباحثٍ عنه وما محاولتي هذه غير تسلّيط نقطة ضوء على الكتاب المهم هذا ،مقدمة أكليل ورود للمترجم المبدع رعد زامل ،على ما بذله من جهد عظيم في إخراج هذا الكتاب ووضعه بين يديّ الباحثين الكرام .
……………
ينظر: اللسانيات ،الشعرية السيميائية، رومان ياكوبسن ،ترجمة: رعد زامل، دار شهريار للنشر والتوزيع والترجمة، العراق ، البصرة ،ط ١ ،٢٠٢١ .