الجدة وسيلة

وداد معروف | قاصة وإعلامية مصرية – دمياط

.. توارى وجهه خلف غيمة الذكريات, حمله ما رأى على العودة هناك؛حيث أشجار الكافور العالية والطريق الترابي بطول النهر وقد تناثر الضوء على سطحه فالتمع له ضاحكا لكن أين هذه الضحكة من الضحكة التى تنتظره هناك تعدها له الآن جدته وسيلة؟! لكن دونها هذا المشوار المؤلم شرطا بشرط , فى كل مرة كان يصحبه صديقه عبد المولى , لكنه اليوم مريض كما أخبرنى أخوه , الطريق طويل  – كنت تؤنسني يا عبد المولى- نقطعه جريا أحيانا وأحيانا نعدو خلف الحنطور نحاول أن نتسلق الحديدة التي خلفه وماهي إلا دقائق ويشعر بنا عم علي فينزل علينا بكرباجه فنسقط ونحن نضحك إذ استطعنا أن نغافله ولو دقيقة , وفى المستشفى وجد الناس زحامًا شديدًا , لن يأتي دوري إلا بعد ساعات, لكن أين عم محمد ؟! لا أراه …. اقترب منهم جاءته الإجابة سريعًا , قالت واحدة من الوقوف : الممرضة تقول لو مرت نصف ساعة ولم يأت عم محمد فلن تتعاطوا الحقنة اليوم , وقف على باب حجرة التمريض ليقف على صدق الكلام بنفسه , وجد كل شيء معدا ، الغلاية وبها الحقن الزجاج و تحتها الوابور , والممرضة جالسة تنتظر ؛ فهي لا تستطيع أن تجابه وحدها هذه الأعداد ولا تقوى على التحكم فيهم إذا تملصوا من يدها وهى تحقن الوريد ؛ صيحة عم محمد المدوية وحدها تجعل من تباطأ ولم يسلم له ذراعه أن يلقيه إليه وهو كظيم , تحسس ذراعه ونظر أثر الخراج الذى خلفته تلك الحقنة اللعينة حينما تحرك وهى مغروسة فيه , فلم يتلقوها إلا وهم وقوف؛ فلا مقعد ولا حائط يستندون عليه .. ليال طويلة لم يذق فيها النوم من الألم , هان عليه أن يقطع ذراعه ويلقيه جانبا هربا من صاروخ النار الذى يشقه , قرر ألا يكمل , لكن والده أصر على أن يكمل حقنه كما أكمل إخوته الثمانية جميعا , حدّث نفسه قائلا : “هانت ها هي الحقنة العاشرة ولم يتبق لي إلا اثنتان وأنتهي من اللعنات الاثني عشر” , دق جرس الحصة فقام إلى الحوش ليتابع حركة دخول وخروج المدرسين إلى الفصول , نادى على مشرف الدور ليدخل هؤلاء الطالبات إلى فصولهن ولا داعى لوقفة الشرفة هذه , اطمأن أن كل شيء على ما يرام وأن الحصص قد سكنّت , تذكر أن الشاي أوشك أن يبرد فتناول معه قطع البسكويت وعاد إلى عم محمد لعله يأتي بجلبابه الأزرق القصير وقد وضع البالطو الأبيض الذى اصفر من القدم كيفما شاء للبالطو أن يكون مثنّيا من جانب ومنسدلا من الآخر و مدلى حزام الوسط غير معقود , لا هم له إلا أن يتحكم في أذرع هذا الخليط من الرجال والنساء والصبيان والفتيات , ويفرغ في عروقهم تلك الحقنة النارية وينهي مهمته ويعود لبيته بسلام، مضى نصف الساعة ولم يأت , عادوا جميعا وعاد رضا معهم ولكن هل يخبر جدته أنه لم يتلق الحقنة هذا اليوم فتحرمه من تحفتها النفيسة ؟! “لا لا لن أخبرها …ماذا سيحدث لو لم أخبرها ؟ لن تعرف …عبد المولى غاب هو أيضا ..من أين لها أن تعرف ؟” ، ما إن اقترب من البيت حتى صاح الأوز والبط وتداخلوا بين أقدامه ؛ فبيتهم من دور واحد على ناصية الحارة , كوّمت على سطحه كرور القش ورصت عليه عشش الدجاج ولا مكان لسكان جدد فيه فليبق البط والأوز هنا في الأسفل , عليه أن ينتهي سريعا ليصعد إلى براّجة الحمام يبذر الحب و يبدّل الفرش ويعتنى بالزغاليل .. أجمل الساعات هي التي يقضيها وهو يتأمل تحليقه في السماء , ينسى معهم نفسه حتى يأتيه صوت جدته صارخا : “انزل يا رضا احضر الدجاج اللي سقط في حديقة الجيران , جدتي …” . ها هي جالسة وسط الدار كعادتها تتابع حركة الداخل والخارج وتلقي تعليماتها لجميع من في الدار بمن فيهم أمي  وأبى، التصق وانتظر أن تنهى توبيخها لأمه بعدما تجرأت وطلبت من أبيه خمسين قرشا لتشتري فاكهة , لم يستطع أن يذّكرها بالخبيئة وهى تتوعد أمه أن تلحقها بأهلها إن كررت هذا الطلب مرة أخرى , وأمه مطأطئة الرأس وقد هربت بعينيها إلى شوائب القمح تخرجه وتنبذه بعيدا , وقفت جدته بقامتها المديدة وسبقته إلى الغرفة الواطئة وأشارت إليه ليتبعها فتحت قفل الغرفة ودخل هو وهى وأغلقت الباب وقطته تهر خلفه وهى تعد له تحفتها الثمينة عادت له أسئلته الحائرة بلا أجوبة ” كل هذه الطيور التي تملأ منزلنا ولم يزد نصيبي من أوزة يوم الخميس عن ثلاث فقرات من رقبتها؟! وهل لو ذبحت جدتي الأوزة يوم الأربعاء أو السبت هل يعد هذا من العيب ؟! وحانت الساعة المنتظرة وكشف الغطاء عن طبق الأرز وفوقه تنام فى هدوء الدجاجة المحمرة يصاحبها طبق الحساء الساخن وبدأت معركته الحامية مع الدجاجة و انقض عليها غير عابيء بتوسلات أخوته خلف النافذة ليفتح لهم فيشاركوه هذه الخبيئة , وأوكل أمرهم لجدته وسيلة فقامت إليهم تهشهم بالحديدة فابتعدوا يأسا وأكملوا لعب الكرة , وكلما ارتفعت الكرة عاليا ارتفع قلبه معها مقسوم قلبه نصفه هنا مع دجاجته المحمرة والنصف الآخر مع لعبته المفضلة, لكن عاد للنافذة أحد اخوته ومعه ابن الجيران الذى عاد معه من المستشفى , وبرجاء قال له اخوه : اقذف لي الصدر يا رضا فنهرته جدتي قائلة : وهل أعيتك الحقنة مثلما أعيته اليوم؟! كلكم فعلت معه كما فعلت لرضا ! وهنا كشف ابن الجيران المستور دون أن يطرف له جفن: “غاب عم محمد اليوم ولم نحقن وعدنا جميعا” . وهنا قفزت الجدة وسيلة من جلستها و استقام عودها كشجر السنديان فسقط قلبه في قدمه وسقطت معه الملعقة من يده وقالت: “أيها الكاذب أطهو وأحمر وأجلس أحرسك من أخوتك وأنت تغشنّي وتدخل علىّ تترنح كأنك حقنت , وقبل أن تنزل عليه بحديدتها كانت قد رفعت بقية الدجاجة التي لم يكن قد التهم منها غير وركيها وتعرقل في قطته وهو يعدو أمامها فنادته أمه : “رضا يارضا ….أدخل الأوز إلى حجرة الفرن فصاحب الأرض المجاورة أقسم أن يذبحه إن سطا ثانية على أرضه” . قام من عثرته وخرج غير آبه بندائها فقابلته الكرة فدفع غيظه كله ركلا لها في رأس ابن الجيران الذى وشى به . وتكرر أمامه المشهد الذى أدخله غيمة الذكريات مع جرس الفسحة وتزاحم الطلبة على المقصف وقد عاد كل منهم بحمل بعير من الأكياس والحلويات وعلب المثلجات, ورن في أذنيه صوت جدته وسيلة القوى العريض وهى تسخر منه وتتهمه بالتسيب والميوعة عندما طلب منها قرشا يشترى به كرملة على هيئة زجاجة الكوكاكولا فقالت : يا عيب الشوم قرش !! لو أعطيت كل أخوتك قرشا مثلك وأمك خمسين قرش تشترى فاكهة , ماذا يتبقى من الجنيه وهو كل ما يأتي به أبوك آخر اليوم ؟ لا تنظر لأولاد أبو عطية هؤلاء فلت عيارهم وانتهى أمرهم داعبته إحدى الطالبات قائلة : “تفضل يا حضرة المدير ومدت يدها بقالب شيكولاتة من النوع الغالى وانبرت الأخرى تقدم له علبة العصير , فشكرهم معتذرا أنه اكتفى بالبسكويت ونادى جدته وسيلة نداء خفيا : “ماذا لو كنت هنا الآن على هذا المقعد تتابعين هذا البوفيه المفتوح مثلى ؟! هل كنت ستستعملين حديدتك أم ستلقيها عن يمينك؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى