يوميات طائر السنونو

 

عبير السيد | فلورانسا – إيطاليا

(1)

(يوم حافل بالضجيج  يتهيأ لاستقبال غد جديد، يبدأ بين سكون الليل حينما سمعته يهمس له:

هناك من مكان بعيد سياتي مأرد بلا وجه، سيصارع الربيع حتي الموت.. لكن لم أصدق

فكل شيء  مازال كما هو..)

***

طائر السنونو على شرفتي يأتي في موعده يغرد ويلتقط الحب ، وزهور “المرجريتا” أطلت برأسها ككل عام تعلن قدوم الربيع .. والشجرة العجوز بوسط الحديقة دبت الحياة في أغصانها  برشاقة في لونها البني خفيفة الخضرة.  وصرصور الحقل يجهز نفسه لغناء طويل تحت أشعة شمس  ننتظرها طول العام.

الربيع أرسل بشائره البكر متعجلا هذا العام.. خيوط من نسيم وبراعم ملونة  ترسل عبيرا نعرفه. لما لأنه عام جديد ….

في المساء  أخبر اليوم لما مر ضاحكا أنهم لا يعرفون شيئا.. من الواضح أن الربيع لا يعرف شيئا عن “شيطان ووهان”..

قبل زمن كانت الطفلة الرقيقة داخل جسدي الخمسيني تلهو بأمنيات الربيع، الضوء الشتوي الغارق في الشجن والبرد يرفض أن يطفئ،  شعلة الحنين، لم يكن يعرف شيئا عن “شيطان ووهان” 

أنظر إلى قمم الجبال وقد خلعت ثوبها الأبيض الشتوي بفراشات الجليد وبدا ضوء أخضر ينحدر من بين الصخور  مصحوبا بخرير شلال  يدق ناقوسه ليستيقظ الحب والربيع.. الأشجار العارية  تنفق الوقت في الزينة فهي لا تخشي إلا الحرائق والضجيج الغامض لأناس لا تعرفهم  يلتهمون الزهر والثمر، كل شيء يدور مع أجنحة الطيور العائدة من هجرتها البعيدة لتبني أعشاشا دافئة فوق أشجار اللوز.

 

(2)

قلبي يبطئ دقاته، يرسل في  أوردتي  ألوان  قوس قزح فأنفض عنه شتاء باردا .. السحب المثقلة بالرصاص والأحمر القرمزي ألقت عباءتها  القاتمة وبدأت ترحل بعيدا بعيدا …

ماذا يقول هذا اليوم ليوم الغد؟

 إن الموت آت من بعيد 

لا أصدق!  السنونو على مدخنتي لم يخبرني بشيء

الربيع لم يخبرني شيء! 

وككل عام أضع  بصيلات البنفسج والنرجس في التراب وأتركها تشبع من حلو المطر .

جارتي  تحييني صباح الخير وقد تلونت بالأحمر القرمزي شفتاها وب “الكجال” الكحل الأسود عيناها. تتجهز  بسلال الربيع ككل عام !!

لم تكن تعرف!

إنهم يقولون إن هناك شيطان استيقظ في “ووهان” وهو قادم الآن!!  الصمت فاجأني..

 

(3)

أضيف لعمري ١٠٠ عام .

يقولون إنه سريع يخطف من يرغب وحيدا بلا رفيق ..

خوف لازم كل شيء

 كل شيء .. ارتعدت أجراس الكنائس من فزع الرهبان، وانسحب صوت الأذان ، وأغلقت الأبواب..

 

(4)

خفضت الجدران الحزينة رؤوسها بصمت وهي تودع السكان، عربات سوداء كبيرة  تحملهم  في الظلام إلى بعيد قبل طلوع الفجر ..

الأسد الكبير ” المارزوكو” شعار مدينة فلورنسا القابع فوق القصر القديم أدار وجهه عن فلورنسا ولم يعد يبتسم ..  يبدو عليه الحزن !! عيناه  مطفأتان، جارتي كفّت عن صبغ شفتيها وبدت أكثر زرقة وخوفا ، وأغلقت الأبواب.. لم أعد أراها ، كانت تهديني الورد في مثل هذا الوقت.. 

يقولون إن مارس هذا العام  وحيد، غريب ، مخيف لم يأت مثله منذ أعوام وأعوام..

سمعت اليوم يحكي لليوم للغد عن جارتي..

يقولون إن غرباء بأقنعة  خضراء حملوها بعيدا بعد أن التهمها “شيطان ووهان”. حملوها وحيدة بدون زهورها التي تملأ الحديقة..

ألا يراه أحد.. ألا يسمع له صوت غير دقات الآلات..لا أكاد أصدق،  

كاد كل شيء ينطفئ  من الخوف.. إلا زهور جارتي الحمراء..

(5)

غمرالضوء الزهري  نافذة غرفتي، خرجت أركض إلى النافذة  أشتم  رائحة الربيع  توقظ  الأرض.. هشّمت  سلاسل الخوف رأيت زهور جارتي الحمراء تعزف موسيقى حنين.. وجدتني أغني  وقد جاء السنونو الصغير إلى نافذتي.. إنه الربيع ، إنها الحياة ، بصيلات “الاروركيديا” والنرجس توقظ الروح..

استدرت على صوت، كأنني أسمع صوتها، وسمعت اليوم  يخبر الغد: إن الشيطان لم يستطع أن يسلبها روحها  فعادت ترقبها كل عيون الأزهار الباسمة، الفيولا والمرجريتا،  أخذت الأزهار تغني  للحب معا، تطرد شيطان الخوف الجبان إلى بعيد.  وها قد عاد الحب أعطني قبلة يافلورنسا وانهضي. 

 قبلة حب على قلبك يا بلدي..

مآذنك، كنائسك، أهراماتك.. قبلة حب وقبلتان للحياة لوجهك الأسمر…. إلى النهاية.. والأيام القادمة……     

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى