مقال

خذلان القريب ونصرة الغريب

خالد رمضان|كاتب مصري – صلالة – عُمان
قديما قالوا: يؤتى الحذر من مأمنه، ويعتقد الكثيرون- واعتقادهم أشبه بالإيمان الراسخ في أذهانهم -أن الأولاد عزوة، والمال حماية وحصانة، والسلطة قوة ونفوذ، والصحة زهرة لا تذبل، وفي الواقع إنه لا حقيقة لذلك، فنواميس الكون المرئية والمسموعة والملموسة والمحسوسة إنما هي قوانين عامة مجردة عن الأهواء والنوازع الإنسانية، منزهة عن العصبية القبلية، أو الروابط العائلية أو البيئية، وليست القبيلة سفينة نوح الأسطورية، ولا العائلة الدروع الفولاذية، ولا الأولاد هي الحصون الحديدية، ولم يكن المال هو الجبل الذي سيعصمني من الماء.
قد يكون كل هؤلاء -وقتا من الأوقات- مصدر البلاء والشقاء، منبع الإيذاء والعناء، فتكون كمن غصّ بالماء الذي فيه الحياة.وإليك الدليل على ذلك:هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم – خذله عمه، والعم بمنزلة الوالد، والخالة بمنزلة الأم، فرفع صوته على ابن أخيه أمام الجميع وقال له :تبا لك، ألهذا جمعتنا؟! بل وخذله أهل مكة وهو ابن لهم، نشأ بين ظهرانيهم، ويعلمون أمانته، وحسن سمته وسمو خلقه، فقد خذله هؤلاء وهم أهله وأقاربه، ونصره سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، واستقبله أهل يثرب بكل الحفاوة والترحاب، وكانوا حصنا حصينا، وسدا منيعا في وجه الكفر والطغيان، حتى قال قائلهم:والله لو خضتَ بنا عرض البحر لخضناه معك.
فلا تغتر بالقريب، فظلمه مرّ مذاقته كطعم العلقم:وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند.
واستمع إلى قول الله تعالى “إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم” وما كنا نتوقع -ولو لبرهة- أن يكون أبناؤنا، وأزواجنا أعداء لنا.
وأزيدك من الشعر بيتا، فهذا كليم الله ينصر قريبه على عدوه حين استغاث به، ثم سرعان ما ينقلب على موسى فيقول له “أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض” هذا الذي يتحدث ليس من أعداء موسى، بل هو من شيعته، إذن فلمَ انقلب على موسى؟!إنها المصلحة يا سيدي التي إذا تعارضت مع مصالحهم أو معتقداتهم انقلبوا عليك، وإن كانوا أقرب الناس لك، فالمنفعة لها سلطانها الذي هو فوق كل الاعتبارات والقرابات.
وعلى الضفة الأخرى يهرول من أقصى المدينة رجل تسوقه قدماه مندفعا مرتجفا خوفا وحرصا على موسى، وقد نكّره المولى سبحانه وتعالى فقال (رجل) مجردا من كل الأوسمة والأوشحة، فهو لا يمت إلى موسى بصلة ولا قرابة فالأمر لا يهم، إنما يحدوه حبه وإخلاصه الذي تجرد منه قريبه، بل وتوعده وهدده، ووصم به صفات العيب والشين، ولذلك صدقه موسى فخرج منها في توه وساعته.
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم
الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني ثم أغمضها
على كثير ولكن لا أرى أحدا
لا تبن ثقتك على الأوهام، لا تقم عروشا على صفحات المياه الخاوية، فكم من الآمال خابت، وكم من الثقات ضاعت .
فاشدد يديك لحبل الله معتصما
فإنه الركن إن خانتك أركان
سيف الدين قطز قاهر التتار لم يكن عربيا، وصلاح الدين الأيوبي سلطان مصر والشام، وقاهر الصليبيين في معركة حطين كان كرديا، وأكابر علماء البلاغة أمثال السكاكي، والجرحاني، والعسكري لم يكونوا عربا، وسيبويه عالم النحو الشهير كان فارسيا.
أصحاب الصحاح الستة، البخاري، ومسلم، وابن ماجة، وأبو داود ، والترمذي، والنسائي، لم يكونوا عربا، فلا تتعصب لبني جلدتك، أو رجال قبيلتك، أو شباب عائلتك، فقد يأتيك الخير من حيث لا تتوقعه، أو يأتيك الشر من مأمنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى