حماسةُ ناصر وعبقريةُ أم كلثوم
سهيل كيوان| فلسطين
المُعلِّم الناجح هو من ينجح بأن يكون صديقًا لتلاميذه، هذه الصداقة تحبِّب الطالب في الدَّرس والموضوع الذي يدرِّسه هذا المعلم.
أحد الأساتذة الذين أعتز بهم، وأشعر تجاههم بهذه الصداقة، هو الأستاذ عبد الخالق أسدي من دير الأسد الذي علَّمني في الصف الخامس، ولم تنقطع هذه العلاقة على مدار نصف قرن.
هذه العلاقة ما كانت لتستمر لولا أنها مبنية على الاحترام المتبادل أولاً، يعززها الذَّوق الفني المشترك، والموقف السياسي الذي يلتقي في الخطوط العامة العريضة على الأقل.
قبل أيام قليلة استضافه نادي القراء في مجد الكروم بمناسبة إصداره لكتابين، حول علامتين فارقتين ورمزين كبيرين في الحياة السياسية والفنية العربية المعاصرة، وهما جمال عبد الناصر وأم كلثوم.
الكتابان عبارة عن مجموعتين من المقالات التي سطرها أبو رامي في مراحل مختلفة منذ عقدين تقريبًا.
هل يستطيع الكاتب أن يقدَّم جديدًا عن هذين الهرمين؟
الحقيقة أن هذين الكتابين، عربون وفاء لزمن مختلف تمامًا عن الذي نَمرُّ فيه، عن حقبة حرجة جدًا من تاريخ الأمة العربية، فيها هزائم وآلام وانتصارات وفرح، وفي حقبة كان العربي فخورًا في عروبته، وكان على ثقة في قدرة الأمَّة العربية على تحدي الدول العظمى، ومقارعتها، لاستخلاص الحقوق العربية من بين أنيابها في ثرواتها وفي استقلالها السياسي.
يبدو هذا التراث من الماضي البعيد، وكأنه أضغاث أحلام، ولكن هناك من عاشوه وما زالوا أحياء، ويعرفون أن انتقال الأمة من حال إلى حال، قد يحدث بكل بساطة، بتغيير مفاتيح الأنظمة الحاكمة، وقد كنا على خطوة منه في ثورة يناير المصرية عام 2011، لولا ما حدث من انتكاسات تُوِّجت بسيطرة العسكر من جديد على مقاليد السُّلطة.
هناك من تحدثوا عن دكتاتورية ناصر وفساد الحلقة القريبة منه، وهذا كان صحيحًا إلى حد كبير، وقد أخرجت أفلام وكُتبت دراسات وكتب حول الموضوع، ولكن المبادئ الأساسية التي ارتكز عليها الفكر القومي الناصري، ما زالت صالحة وسارية المفعول، وقادرة على إنقاذ الأمة من تيه القمع والخراب، وهي العدالة الاجتماعية والوحدة العربية، مع دساتير جديدة، تعتمد حرية الإنسان وحقوقه وكرامته وتداول السلطة أساسًا لها.
امتازت حقبة ناصر بالاعتزاز القومي العربي ومقاومة الاستعمار، واعتبار القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى بدون تأتأة، والتجنيد لها، وعدم التهادن مع قوى الرجعية العربية التي كانت لعبة بيد الاستعمار، والتمسُّك بوحدة الأمة العربية من مسلمين ومسيحيين، وشعار الدين لله والوطن للجميع، وفصل الدين عن الدولة.
الأعداء قبل الأصدقاء اعترفوا لناصر بنظافة يده، واعتبروه مثالاً عربيًا وعالميًا نادرًا في هذا المجال، فقد دخل السلطة موظفًا بسيطًا براتب بسيط وتركها كما دخلها، وهذا عكس ما نراه لمن أتوا من بعده في كل الوطن العربي من تحكم بكل مقاليد السلطة والثراء الفاحش مقابل فقر الشعب.
لم يكن إصرار ناصر على الوحدة العربية شكليًا فقط بل حاول تطبيقه، فقد طمح إلى إنشاء ولايات عربية متحدة، فبدأ بوحدة مع سورية، وأنشأ مجموعات دولية تهتم بمصالح الشعوب المقهورة مثل دول عدم الانحياز. لهذا أعلن الغرب الحرب عليه، لأن وحدة العرب خط أحمر، فهي مصدر قوّتهم وتحررهم واستعادة ثرواتهم.
لقد حاول البعض تشويه صورة جمال والمسّ به من خلال وصفه بالدكتاتور! صحيح أن أخطاء ارتكبت في حقبة جمال، وخصوصًا عدم وجود حياة حزبية، وصلاحيات مطلقة لشخصيات كثيرة من حوله، لكن الشعب أحبه وكذلك الأمة كلها، لنظافته أولا ولصدقه، لأنه حمل لهم جديدًا وخصوصًا للطبقات المعدمة مثل فقراء الفلاحين، وقرَّر أن الأرض لمن يعمل فيها ويفلحها، وأعلن عن مشروع تأميم أراضي الإقطاع، وأمم قناة السّويس وبنى الصناعة الثقيلة المصرية وأقر التعليم المجاني لكل الناس.
يربط الكاتب بين ثورة الضباط الأحرار عام 1953 في مصر وثورة يناير عام 2011 وحق الشُّعوب العربية في انتفاضاتها ضد الفساد وتوريث السُّلطة ونهب ثروات الشعوب.
يهاجم الأنظمة التي أغرقت ثورات الربيع العربي في الدماء، وخصوصًا في بداياتها السلمية الشعبية.
يحمِّل الكاتب مسؤولية ما حدث للأنظمة الرافضة للتخلِّي عن السُّلطة ـ والتي بدلا من التفاهم مع شعوبها ذهبت إلى قمعها وتقتيلها وسجنها، ثم دخول داعش للعب دورها التخريبي.
قيمة الكتاب عن عبد الناصر تكمن في أن المشروع الذي حلم فيه ناصر، ما زال صالحًا مع إجراء بعض الإصلاحات عليه خصوصا في منع الاستفراد في الحكم وتحديد دورتين فقط للرئيس، وتوسيع مساحات أكبر للديمقرطية والحياة الحزبية، وسلطة القانون.
أما عن هيام الأستاذ أبو رامي بأم كلثوم، فالجميع يعرفون ويدركون عظمتها، ولكنها ما كانت لتكون لولا الاجتهاد حتى التفاني والسَّعي إلى الكمال الفني، وقد ساعدها في ذلك عظماء حولها من شعراء وملحنين.
لقد مثّلت أم كلثوم في فنها الروح المصرية العربية الوحدوية واكتملت صورتها من خلال تفاعل الشعوب العربية معها، فأسهمت في انتشار العربية الفصيحة على كل لسان، والذوق الرفيع في الغزل والحب إلى جانب الفكر القومي الإنساني والوحدوي المقاوم، وبثّ الأمل الذي غنته، والأمثلة كثيرة، فقد غنت لفلسطين وللوحدة العربية وللنهوض ومواجهة الأعداء ورفعت معنويات الناس في أحلك الظروف. في الخلاصة ناصر وأم كلثوم هرمان مصريان عربيان خالدان في حياة الأمة العربية.