العقيدة: أول خطوات التمكين الحضاري

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

إن منطلقات الحضارة الأولى لا تبدأ إلا من دافع لدعوة روحية ـــ كما يقول: جوستاف لوبون في كتابه (فلسفة التاريخ) ــ من (عقيدة ــ أرضية أو سماوية)، أو فكرة نفسية، تتبناها بعض النفوس الملهمة الحالمة، من بذرة هينة لينة تسري دعواها بين النفوس المقبلة، فتتلقفها شواكل الأرواح من البشر حتى تطير من أفق إلى أفق ومن واد إلى واد، ومن نفس إلى نفس حتى تصبح (دعوة) صاخبة رائجة، ربما لا يقف في سبيلها قوام الجيوش الجرارة ولا الأبطال الأفذاذ ؛ حتى تأخذ حظها مما قدر لها من التمكين والتاريخ.

ليس شرطا أن تكون الدعوة أو (العقيدة) ذات قدم راسخ في الحق، إنما يكفيها أفول سنن من كان قبلها من الأمم أو الحضارات، ثم إيمان أصحابها بها وقيامهم بحقها حتى تكون على بينة مما تأتي وتذر، وحتى تخط لنفسها خطا حضاريا أو تاريخيا..

فلم تكن هجمة التتار التي اجتاحت المشرق العربي على أسس أو أصول من منهج سماوي، لكنها اجتاحت أصحاب المنهج السماوي الذي غيروا وبدلوا فأذنت عليهم المقادير بأفول شمسهم، وغروب حضارتهم إلى حين حتى عادوا إلى صوابهم الذين كانوا عليه.

ولم تكن كذلك دعوة نابليون (الوضيع النفس) إلا هبّة روحية قتالية من شجاعة سرت نسماتها بين جنبيه، وألهم توظيفها حتى جعل من شراذم بلاده جيوشا تطوف الشرف والغرب، ويحسب لها بين الدول والامبراطوريات حسابا.. وعلى هذا النمط من الفراغ الأرضي والمنهجي في الكون سرت دعوات (الشيوعية ــ ماركس وإنجلز) حتى عمرت ما قدر لها أن تعمر ثم تخبو روح مدادها على حسب ما حوت من عقل وقيم وأخلاق وقوة عسكرية.

وأما الكشف العلمي الذي ابتعث روح الحضارة الحديثة من مرقدها، فلم يكن إلا نفثة حياة بعد طول ممات، ضرب على نفوسهم من كهنوت الكنيسة قد ربا على الألف عام، حتى اشرأبت لها دعوات البروتستانت، تحطم أغلال الجهل والتخلف والانزواء في كهوف التاريخ الحضاري، وقد شابت في زمان الغيبة الرؤوس وذوت الأرواح، وتقادم العهد بالعقل والعلم .. فجاءت هذه الصحوة مستنكرة مستنفرة، متمردة على تسلط القرون، وغيبة العصورة، فأيقظت روح الحضارة من سباتها، وألهبت فيها نهمها العلمي والبحثي، ونفثت في روعها من روحها حتى أثمرت ما أثمرت… إلا أنها قد حطمت وأنقضت بقدر ما ابتنت، فأتت على بقية مما ترك الأولون من تعاليم المسيحية فأذرتها مع الرياح، وأقامت بدلا منها شكلية الحضارة .. وأزهقت في سبيلها بقية الدين والأخلاق.

أما حضارة الإسلام في يكن ثم إلا هذه الدعوة (السماوية) التي نظر الله فيها إلى أهل الأرض فمقتهم جميعا (عربهم وعجمهم) إلا بقايا من أهل الكتاب ، فقد فسدت الدعوات السماوية (الشرائع الأول )، حتى استبدل أصحابها الخبيث بالطيب، والذي هو أدنى بالذي هو خير.. وكانت على شاكلتها دعوات المصحلين والقادة والفلاسفة من اليونان والرومان والفرس والهنود والصين، حتى آلت البشرية إلى ما كانت عليه قبل الإسلام..

أتيت والناس فوضى لا تمر بهم

 إلا على صنم قد هام في صنم

والأرض مملوءة جورا مسخرة

 لطل طاغية في الخلق محتكم

مسيطر الفرس يبغي في رعيته

وقيصر الروم من كبر أصم عم (1)

فكان لزاما أن تكون رسالة السماء هي البديل الذي لا غناء عنه لهذه المذاهب الباطلة المفسدة المجحفة، سواء فيها من أتت بعدها أو كانت من قبلها، وسواء كانت علوية ــ أتى عليها التحريف والتبديل ـــ أم كانت أرضية لا تقوم لله بحق في عبادة، ولا لخلقه بشيء من العدل والمساواة.

إذن فقد كان المنهج هو محور الحدث ومداره، تعلو سنام هذا المنهج (العقيدة) عقيدة التوحيد، ثم يأتي تفصيل كل أمر لها تباعا وليس قبلا.. وقد حققت الحوادث التاريخية ودورات التاريخ على هذه الأمة هذا الطرح، وقد صرح بهذا القرآن وألمح، في التفصيل والإجمال؛ إذ جعل العقيدة مدار التمكين..وكلما انتقض من جناب التوحيد كلما وهن من قوة التمكين على إثره.

 وقد وعى نبهاء الأمة وعلماؤها الربانيون هذا الأصل القرآني، يفصله الدرس التاريخي جيدا، فانتبهوا كلما أحاط بالأمة عدو تسلط عليهم من خارجهم، أو نزعت من بين أيديهم نعمة ك(الأمن أو الشبع) هبوا يوقظون الخلق للعودة إلى تصحيح معتقدهم واستقامة مسارهم في الطريق إلى الله..

“وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)”[النور].

فسنة التميكن لا تمنح لأهل الأديان جزافا ولا محاباة، إنما اصطفاء وابتلاء.. لكن ليس إلا على لظى نار البلاء والتمحيص، وبذل الأنفس والأرواح، ولوعة الخروج من الأموال والأبناء، ومكابدة الهجرة ومصابرة الاختبار، وزلزلة الحروب، ومطاعنة الأسنة والرماح، ومطاعنة حد السيوف، والصبر على شظف العيش ومقاطعة العشيرة ومنابذة الآباء والأبناء، وتحمل سخرية الملأ والكبراء وازدرائهم” وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي” … “إن هؤلاء لشرذمة قليلون. وإنهم لنا لغائظون.  وإنا لجميع حاذرون”..

وكذلك الثباتحال الوهن والاستضعاف، والتخلي عن إلف المساكن المرضية، والمراتع المؤتلفة، وفخر الآباء والأحساب والأنساب.. فرارا من كل هذا إلى الله ورسوله؛ حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ذلك حتى من النفس التي بين جنبيه !!..

فأي بأس هذا وأي ثمن بهظ يبذل لقاء التمكين، ويدفع مقابل العقيدة حتى يقال لهم  “أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)”؟!

“وليس يرتاب عاقل ممن يتدبرون تاريخ العلم الحديث ، ويستقصون في أسباب نشأته، ويتشبثون عند الخاطر من ذلك إذا أقدموا عليه، وعند الرأي إذا قطعوا به، أنه لو لم يكن القرآن الكريم لكان العالم اليوم غير ما هو عليه في كل ما يستطيل به، وفي تقدمه وانبساط ظل العقل فيه وقيامه على أرجائه، وفي نموه واستبحار عمرانه، فإنما كان القرآن أصل النهضة الإسلامية.. وهذه كانت على التحقيق هي الوسيلة في استبقاء علوم الأولين وتهذيبها وتصنيفها، وإطلاق العقل فيما شاء أن يرتع منها.. وأخذه على ذلك بالبحث والنظر والاستدلال والاستنباط “.(2)

^^^

مصادر وردت في المقالة:

  1. قصيدة: نهج البردة”.أمير الشعراء (أحمد شوقي).
  2. تاريخ آداب العرب (الرافعي).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى