يوميات قادمة قيد الكتابة
د. إيهاب بسيسو | فلسطين
-1-
في اليوم التالي لتحرير فلسطين لن أفعل شيئاً استثنائيا، غير أنني سأحرص على قيادة سيارتي الخاصة في الصباح الباكر من غزة إلى حيفا مستمعاً طوال الطريق إلى مزيج من أغان فلسطينية وموسيقى، من بينها تريو جبران وفرج سليمان وشادي زقطان وفرقة الانس والجام وهوا دافي من الجولان، وبعض من مقطوعات عازفي جمعيتي الكمنجاتي وإدوارد سعيد الكلاسيكية.
في البداية وقبل كل شيء سأكون قد تفقدت رواية “عائد إلى حيفا” في مكتبتي الشخصية لأضعها في حقيبتي الجلدية من أجل أن أعيد قراءتها في مقهى شعبي في وادي النسناس أو في شارع الكرمل.
وسأكون قد تصفحت وجه محمود درويش طويلاً ووجه أحمد دحبور، كأنني أستعين بملامح الوجوه لاستعادة الجغرافيا مكثفةً في تلك النظرات العميقة المطلة من أغلفة الكتب العتيقة.
سأجعل المشوار عفوياً وخاصاً فلن أرهق الأصدقاء بمكالمات هاتفية ورسائل عن توجهي في الصباح المبكر إلى حيفا، ففي يوم كهذا سيكون الكل مشغولاً ببرنامجه الخاص لمشاوير الحرية بعد التحرير.
بالنسبة لي برنامجي بسيط وعفوي، يتلخص بإسترداد المكان من الصور واللوحات والكتابات المختلفة عن فلسطين الحقيقة والرؤية دون أن يتخلله نقاش أو أحاديث مع أحد عن حل دولتين أو حل دولة واحدة أو تناقضات في الفكر أو الايديولوجيا السياسية.
سأبدأ من حيفا لرمزية خاصة في الذاكرة قبل أن أواصل شمالاً إلى عكا وصفد ورأس الناقورة ثم أبدأ في الهبوط جنوباً نحو الناصرة.
أريد فلسطين المنتزعة من كتاب حقوق الانسان بقسوة مفرطة أن تعود إلى صورة بهية في المستقبل، دون تمييز أو سياسات عنصرية بائسة واحتلال استعماري يصادر الحق في الوجود والحياة بطمأنينية وحرية.
رحلة كهذه تحتاج إلى الكثير من مخيلة ممزوجة بالحلم والذاكرة وكونها تجربتي الأولى في الانطلاق شمالاً دون حواجز أو تصاريح مرور فلي أن أترك لعفوية الأمكنة أن تظهر متحررة من وسوسات الحذر.
قبل الخروج من البيت سأودع والدي ياسر بسيسو الحاضر في الذاكرة بقبلة على جبين برواز الصورة.
لقد تجاوزت الأربعين من العمر وما زال هاجس الحواجز العسكرية يداهمني في كل وقت ككابوس يقظة لا يهدأ، ومع هذا أقنعني أنه منذ اليوم لن يكون هناك حاجة للانتظار سنوات إضافية لاستصدار تصريح مرور بين مدينة ومدينة على امتداد الخارطة.
يكفي أن أنطلق في السيارة – كأي إنسان عادي حول العالم – مع فنجان قهوة في كأس ورقي ليبدأ مشوار الحرية المؤجل.
سيكون الجنود قد اختفوا من الطرقات، حاجز بيت حانون “ايريز” شمال غزة على سبيل المثال سيكون مهجوراً تماماً، لم يعد هناك حاجة لوجود ذلك البتر القسري بين المكان والمكان.
ملاحظة أولى: سأفكر لاحقاً -وبعد الاستعانة برؤية بعض الأصدقاء المعماريين/ات – في كيفية جعل الحاجز متحفاً مفتوحاً على الدوام أمام المسافرين من وإلى غزة،
متحف لتاريخ المعاناة مع مقهى صغير يطل على الطريق ومتجر لبيع الكتب والتذكارات التاريخة.
-2-
في اليوم الأول بعد التحرير، أكاد أجزم أن الشوارع على امتداد البصر ستكون عبارة عن سلاسل بشرية بوجوه مشرقة، تعلوها بهجة خفية ومعلنة على حد سواء.
أتوقع أنني لن أسمع صوت إطلاق أعيرة نارية كما يحدث عادة في المناسبات العامة، ستكون الميادين وجوانب الطرقات السريعة مساحات واسعة للاستماع إلى الموسيقى والأغنيات.
سأرى على الطريق – بعد تجاوز منطقة بيت حانون – أهالي مدينتي المجدل واسدود وعشرات القرى المدمرة والتي ما زالت حاضرة في الذاكرة يتوافدون إلى المنطقة أفواج بشرية.
ألوِّحُ بحبور عبر نافذة السيارة لكثير من الأصدقاء المنشغلين في إعادة بناء المكان من صورة متخيلة جيلاً بعد جيل.
وأواصل الطريق الصاعد شمالاً على أن أزورهم في طريق العودة إلى غزة أو في صباح اليوم الثاني بعد التحرير، قبل أن تتخذ السيارة مسارها في اتجاه القدس، حيث ستكون المحطة الأولى مروراً بوادي اللطرون.
قرب الوادي سأرى أيضاً بعضاً من أهالي قرى بيت نوبا ويالو وعمواس قد بدأوا في التوافد إلى المكان، ولن تكون مصادفة أن أرى المخرجة ديمة أبو غوش مع كاميرا تصوير سينمائي، فأتذكر فيلمها الوثائقي المميز “عمواس” الذي أطلقته في رام الله عام2016.
سأهتف بفرح طفولي: ديماااة ملوحاً من شباك السيارة، وقد يكون ذلك الهتاف قد أفسد بشكل غير مقصود لقطة سينمائية جديدة، غير أن ديمة بهدوئها المعروف ستسامحني على هذا الاندفاع ملوحة ببشاشة صافية من بعيد.
أتصل مباشرة بصديقي الكاتب والقاص زياد خداش: فيأتي صوته عبر الهاتف مشبعاً بكل فرح الطفولة التي غادرتنا مبكراً لأهتف أيضاً.
زياد أنا بالقرب من بيت نوبا
فيفاجئني زياد بضحكة مجلجلة: أنا في بيت نبالا اليوم،
أنا من بيت نبالا وليس من بيت نوبا يا صديقي.
نضحك من هذا الالتباس العفوي بين الأمكنة، فأهتف سلم على بيت نبالا والرملة إلى أن نلتقي قريباً يا صديقي.
أواصل الطريق إلى القدس في ظل حركة نشطة كما لو أن الوقت مهرجات عدة في مهرجان متصل، شبان في السيارات يلوحون للمارة، عائلات عدة بأطفال ينتشرون فوق التلال على جانبي الطريق لالتقاط صورٍ للفرح والذاكرة. …
سينشغل بعض الشبان من القرى والمدن المجاورة للجدار الفاصل بهدم الجدار بمعاول يدوية، شيء يذكرني بهدم جدار برلين قبل سنوات طويلة.
سأتوقف لألتقط بعض الصور، أحدهم سيعلق علَم فلسطين بكل حماس على نافذة السيارة هاتفاً ثقة: إنه الوطن أخيراً يمنحنا الحياة.
مانحاً إياي قطعة صغيرة كهدية من بقايا اسمنت الجدار للذكرى.
ملاحظة ثانية: أفكر في كل هذا الركام الذي ستخلفه أنقاض الجدار، وكيفية صناعة مجسمات بأحجام مختلفة من تلك الألواح الاسمنتية للذكرى.
أو ربما إنشاء متحف آخر باسم متحف الجدار يحتوي على تلك القطع مع آلاف الصور والشهادات الحية وفولاذ البوابات العسكرية.
إنها تجربة تستحق التدوين بكل ما يتخللها من تفاصيل عفوية وتلقائية، تختصر فينا سنوات طويلة من معاناة وقهر ضمن حياة مطوقة بأبراج الحراسة ومقيدة بتعليمات الجنود الصارمة في مصادرة الحركة والذاكرة.
-3-
في القدس سأتوجه مباشرة لحي الشيخ جراح ولزيارة بيت الشرق، سيكون العم أبو أحمد، اسحق البديري مشغولاً في تفقد الوثائق والأوراق التي احتفظت بها الجمعية العربية للدراسات قبل سنوات من إغلاق بيت الشرق.
سيكون هناك العديد من الشبان الذين يحاولون تثبيت العلم الفلسطيني على قمة المبنى.
أسلِّم على العم أبو أحمد الذي استعاد طاقة استثنائية في العمل والتدقيق والنشاط الذي لا ينضب بين الحاضر والمستقبل والذاكرة وسط مجموعة مميزة من الباحثين والباحثات المنهكين في إزالة الغبار عن الملفات والوثائق.
في باحة بيت الشرق منى ومحمد الكرد يتحدثان ببشاشة إلى كاميرات وسائل الإعلام عن قيمة الحرية والعيش دون تهديد متواصل بالهدم والإزالة.
بالقرب من بيت الشرق وعلى بعد خطوات معدوة سيكون المسرح الوطني”الحكواتي” خلية عمل ونشاط مكثف أستطيع أن أرى من بين الوجوه وجه عامر خليل المشرق، وابتسامة كل من كامل الباشا وريم تلحمي الهادئة وسط جموع الأصدقاء المقدسيين والمقدسيات من رواد الحركة المسرحية ،والجيل الشاب مع الذين وصلوا في اليوم الأول بعد التحرير لرؤية الحكواتي من جنين والخليل وبيت لحم ورام الله وغزة.
الأصدقاء من مسرح الحرية مصطفى ونبيل وبلال ومعهم زكريا الزبيدي بعد التحرر من الاعتقال، ومن مسرح نعم إيهاب ومحمد، ومن مسرح عناد خالد مصو ومن مسرح الحارة مارينا، ومن المسرح الشعبي فتحي وميساء، ومن مسرح عشتار إيمان وإدوارد، ومن مسرح القصبة جورج وسامر.
سنكون على موعد مع الكثير من الأصدقاء من غزة والذين سبقوني إلى الحكواتي في اليوم الأول بعد التحرير.
في تلك اللحظة أسمع صوت الشيخ جميل السلحوت يناقش الأستاذ إبراهيم جوهر عن الكتاب الأول الذي ستناقشه ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني بعد في الأسبوع الأول بعد التحرير.
ألوّح لأستاذنا أبو خالد، محمود شقير من بعيد وهو يتقدم بكل ثقة نحو المسرح . أشعر كأن المكان استعيد نبضه الحقيقي دون مداهمات وإغلاقات وصراخ جنود …
أرى في تلك اللحظة أبو البهاء الأستاذ محمد عليان قادماً على عجل، أقبل جبينه لنتذكر يوم القراءة الوطنية وأطول سلسلة بشرية للقراءة حول أسوار القدس في ١٦ آذار ٢٠١٤.
وعلى عجل أرى طارق البكري مشغولاً بكاميرته يلتقط كل التفاصيل الدقيقة حول المكان ومحمد العزيز عاطف يبدع جدارية جديدة بأحرف واثقة على أحد الأسوار القريبة من بيت الشرق.
يبدو أنها عبارة للشهيد باسل الأعرج:” عيش نيصاً وقاتل كالبرغوث” …
يحق لي التأمل والتفكير في وجه فلسطين القادم مع الحرية بكل ما في ذلك من تفاصيل.
سأعبر شارع صلاح الدين في اتجاه المكتبة العلمية، المدهش ذلك الازدحام أمام المكتبة في اليوم الأول بعد التحرير، الناس لا ينسون التاريخ وفي اليوم الأول بعد التحرير يحتفون بالقراءة مجدداً دون قيود.
أتوقع أن يكون مركز يبوس الثقافي مزدحماً في تلك اللحظة وسط بهجة سهيل خوري ورانيا الياس، والتفكير في ثيمة جديدة لمهرجان القدس بعد التحرير.
إنه “يوم اعتيادي” مع الحرية، يوم اعتيادي جداً أقتبس العبارة من عنوان المعرض الفني لصديقي الراحل محمد الجولاني، الذي غادر الحياة في تشرين أول ٢٠٢٠ متمتماً في داخلي: لقد خسر الفولاذ يا محمد وأصبحت الحياة عادية، عادية جداً كما نريد.
عادية حد الضجر الأكيد، الضجر الذي نريده أحراراً دون بوابات اليكترونية أو سياج.
الضجر الذي يجعلنا كباقي شعوب الأرض نفرح ونغضب ونتعامل مع الحياة اليومية دون وساطة معدنية أو صراخ جنود عند الحواجز.
-٤-
مبتهجاً طوال الطريق من القدس إلى حيفا كطفل يرى الطرقات والشوارع للمرة الأولى بعد غياب طويل.
إنه الميلاد الحقيقي بعد ميلاد الجسد، لست بحاجة إلى تتبع علامات الطريق فالتيه في ظرف كهذا مطلوب وضروري بل ومحبب، كأن تجد نفسك تغوص في طرقات فرعية تؤدي بك إلى قرى تحتفل بالحرية قبل أن تستعيد الطريق في اتجاه الشمال إلى حيفا.
فنجان القهوة يتجدد في كل قرية مع قطع من الحلويات، فلسطين مشهد كبير من فرح يتسع لكل فصول الذاكرة.
في الطريق تصدح كلمات توفيق زياد عبر رائعة الفنانة الصديقة الراحلة ريم بنا في صوتها الملائكي:
“وأعطي نصف عمري
للذي يجعل طفلاً باكياً
يضحك
وأعطي نصفه الثاني ، لأحمي
زهرة خضراءَ
أن تهلك
وأمشي ألف عام خلف أغنية
وأقطع ألف وادٍ
شائك المسلك
وأركب كل بحرٍ هائج ،
حتى ألم العطرَ
عند شواطئ الليلك
أنا بشريّة في حجم إنسانٍ
فهل أرتاحُ
والدم الذكي يسفك!
أغني للحياة
فللحياة وهبت كل قصائدي
وقصائدي ،
هي كلّ
ما أملك”!
لي أن أتخيل أزمات السير العفوية على امتداد الطريق، يبدو لي أن الكثير من الأفراد والعائلات يقصدون الشمال في يوم كهذا بعد التحرير.
الشمال شطر الحكاية التي لم تندثر في الأسماء الغريبة وفي الهواء العسكري المزدحم برائحة القنابل المسيلة للدموع وصراخ الجنود المعدني.
الشمال حيث الجليل المقدس وبحيرة طبريا الخالدة والتي شهدت المعجزات،
لي أن أرى العديد من الأصدقاء من رام الله ونابلس وطولكرم وجنين وبيت لحم والخليل وغزة على الطريق في مركبات وحافلات عمومية.
نلوح لبعضنا بعفوية وتلقائية طبيعية، نعم لم يعد هناك احتلال يقضم روح المكان بأي شكل من أشكال السياج ووحشية عسكرية هيستيرية.
أتوقع أن البعض سيذهب مباشرة إلى يافا في اليوم الأول بعد التحرير، آخرون سيواصلون الطريق إلى الناصرة وحيفا وعكا وطبريا.
غير أنه قد بدا لي أن الكل ورغم عفوية الاندفاع العاطفي للجغرافيا قد مر في البداية من القدس نحو انتشار عفوي على امتداد الخارطة.
هكذا يبدو المشهد كاندفاع لنهر مقدس من ذاكرة وحكايات، نهر لم تعد تعيقه عقبات في مساره اليومي لاسترجاع عبق الهواء البعيد.
ملاحظة ثالثة: صديقي الفنان المسرحي غنام غنام صنع موندراما مؤثرة قبل سنوات بعنوان “سأموت في المنفى” عن قريته المهجرة “كفر عانة” والمنفى وحلم العودة، أتوقع أن غنام في طريقه اليوم أو غداً إلى يافا، سأحاول اقتناص بعض الوقت لرؤيته والحديث عن فكرة مسرحية جديدة ليكن موضوعها بعد التحرير بيوم.
أدرك أن غنام سيكون مشغولاً في اليوم الأول بالكثير من التفاصيل الشخصية في عناق المكان، ولكنني سأسمح لفضولي أن يتطفل قليلاً على وقته الشخصي، وأحاول التواصل معه كي نحتفي بأقرب وقت بمسرحية جديدة في يافا.
أفكر في ذات الوقت بأنه من الضروري إقامة متحف وطني للذاكرة في يافا، ربما بالقرب من مسجد حسن بك في إطلالة واسعة على البحر.
وربما أصبحنا بحاجة لمركز ثقافي باسم الراحل إبراهيم أبو لغد، ومعهد دراسات المجتمع باسم الراحل هشام شرابي.
وجاليري يتسع لأعمال الوطن الفنية بإسم اسماعيل شموط.
في اليوم الأول بعد التحرير، تصعد المخيلة من صدر مثقل بالحزن لتصبح نوارس أفكار تحلق على امتداد الساحل الفلسطيني.
–٥- (المقطع الأخير)
اليوم الأول بعد التحرير في حيفا وبعد جولة ضرورية وأساسية في القدس- العاصمة.
أمر عن مسرح الميدان في حيفا والذي استعاد بهجة الحضور المميز، أتوقف قليلاً أمام المسرح فيخبرني أحد الشباب العائدين من محل قريب بكيس ممتلئ بزجاجات مياه معدنية أن عامر حليحل في الداخل، يراجع بروفات مسرحيته المميزة عن نجيب نصار.
لم أشأ أن أزعج صديقي عامر المشغول بشغف معهود في التحضير لافتتاح عرض جديد بعد التحرير …
أدرك تماماً حرصه الشديد على كل التفاصيل، فأبتسم للشاب الذي يحمل زجاجات المياه المعدنية هاتفاً من وراء زجاج السيارة: سلم كثير على عامر، أكيد راح نكون في الافتتاح .
أفكر في اقتناص لحظات عاجلة في اليوم الأول بعد التحرير للذهاب إلى عكا وزيارة دار الأسوار للنشر والمبدع العزيز يعقوب حجازي .
أريد أن أقف هناك فوق الأسوار التي قهرت ذات يوم جيش نابليون وما زالت عصية على الانكسار .
وبكل عفوية أجدني أستمع مجددا لفرقة “ولعت” وأغنيتهم الشهيرة:
“لو شِربوا البحر أو هدّوا السّور
لو سرقوا الهوا أو خنقوا النور
ما بيعها لعكا بالدِنيا كُلا
وما ببدل حارتي ولا بقصور”
قبيل العودة إلى غزة، سأتم في حيفا قراءة “عائد إلى حيفا” للمرة المائة – ربما – منذ طفولتي في غزة، وسأقف جامدا أمام البحر حراً من قهرٍ تكدس لسنوات طويلة في العينين ذاكرة غياب آلاف الشهداء والضحايا …
سأتذكر الكثير من الأشياء في تلك اللحظات العميقة والكثير من الأشخاص دفعة واحدة أمام البحر …
قد أتخيل الآن وجه حنظلة من جديد وما قد يرسمه ناجي العلي كأول لوحة بعد التحرير …
سيقفز إلى رأسي تلك الندوة في دار الشروق في رام الله عام ٢٠١٥ وحديث أوري ديفيس في إطلاق كتابه الجديد عن الأبارتهايد، سأتذكر صلابة الحاجة فولا، فيلتسيا لانغر في الدفاع عن الأسرى والأسيرات، وكتابها “مسيرة الغضب والأمل” الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في تسعينات القرن الماضي.
وما كتب ألان غريش وإيلان بابيه واسرائيل شاحك عن فلسطين والصهيونية وما كتب سمير نقاش أيضاً عن مفهوم الوطن والذاكرة .
ولسبب غير واضح بعد في ذاكرتي سأتذكر فرانز كافكا في رائعته الأدبية “مستوطنة العقاب” واعتذار أينشتاين أن يكون أول رئيس لدولة الاحتلال بعد “النكبة”.
في ذات الوقت سأتذكر اميل توما واميل حبيبي وتوفيق زياد وما كتب كل من هشام شرابي وإدوارد سعيد عن المجتمع والعروبة والشرق المتخيل .
في يوم كهذا لن يغيب وجه أنيس صايغ وجبرا إبراهيم جبرا وواصف جوهرية وروحي الخماش عن الذاكرة .
لن يغيب وجه إبراهيم طوقان ومعين بسيسو وسميح القاسم وراشد حسين وسالم جبران .
لن يغيب وجه ماجد أبو شرار وعلي فودة ورسمي أبو علي ومصطفى أبو علي وهاني جوهرية وسميرة عزام وسميحة خليل وحسبين البرغوثي وحيدر عبد الشافي .
سأكون مشبعاً بهذا المزيج الحر وحراً من سنوات تائهة بين الحواجز .
حراً من كل أشكال الاضطهاد والقمع السياسي والظروف المؤقتة والسياج وغياب العدالة المقصود كشكل من أشكال الإبادة الممهنجة …
ما يهمني اليوم هو الإصرار على تدوين بعض من ذاكرة اليوم الأول بعد التحرير بكل عفوية كما رأيتها في ذاكرتي المستقبلية …
أمّا باقي التفاصيل الحياتية والسياسية فمن الطبيعي أن يقوم آخرون بالاهتمام بها بلا شك .
قبيل غروب اليوم الأول بعد التحرير، قبالة البحر في حيفا، أكاد أسمع صوت محمود درويش يملأ المكان فيما يشبه المعجزة …
“كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين.
صَارَتْ تُسَمَّى فلسْطِين.
سَيِّدَتي: أَستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي، أَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ”.
وفيما صوت محمود درويش يملأ المكان، سأتصل عبر الهاتف الجوال:
إمي بدك إشي من حيفا؟ أنا هيني مروح … مش مطول بالكثير ثلاث ساعات بكون في غزة …
أكيد راجع الليلة .
في طريق العودة إلى غزة، أواصل تذكر العديد من قصص الأصدقاء والأسماء وتفاصيل عدة أحتفظ بتفاصيلها النقية كقلب ينبض حرية في الذاكرة.
بعد نهار طويل وفي طريق العودة إلى غزة، أستمع إلى نشيد موطني مرة تلو مرة على امتداد الطريق …
ملاحظة لاستمرار المعنى من مشوار الحرية: بإمكان هذا النص أن يتواصل حكايات شخصية على الدوام وعبر سؤال بسيط، في اليوم الأول بعد التحرير ماذا ستفعل أنت؟