الأدب والأيديولوجيا: شعر مفلح الطبعوني نموذجاً
د. رياض كامل
مدخل
تقوم هذه المقالة بدراسة شعر مفلح الطبعوني في دواوينه الثلاثة “قصائد معتقة” (1999)، “عطايا العناق” (2011) و”نزيف الظلال” (2014)، ومعاينة مدى تأثره بالأيديولوجيا الأممية التي آمن بها، وانعكاسها في شعره من حيث الأسلوب والبناء. تؤمن هذه الدراسة أنّ الشعر هو محصّلة فكر الشاعر بناء على تجربته الخاصة والعامة، ولا تؤمن بأنّ الشعر فنّ من أجل الفنّ، بل إنّ الفنية والفكر توأمان سياميان في عملية الخلق والإبداع.
توقفت الدراسة عند مفهوم الأيديولوجيا بشكل موجز، سيّما وأنّ هذا المفهوم قد حظي بدراسات غربية وعربية متشعبة، متعددة ومتنوعة، وانطلقت مباشرة لتعاين هويّة الشاعر الفكريّة فوجدت أنّها تعكس انتماءين يكمل أحدهما الآخر: الفلسطيني والأمميّ.
لم تكتف المقالة بدراسة هويّة الشاعر وانتمائه الأيديولوجي لأنّها ترى أنّ الشعر مرآة للفكرة تُعرض بأساليب فنية.
يوظّف الشاعر تقنيّات ولغات تتمازج مع رؤيته، فكانت السخرية اللاذعة ردّ فعل إزاء هذا الواقع، وجاء التكرار وليد الحالة النفسية للشاعر إزاء واقعه المر، دون أن يفقد اللهجة الحماسية التي تعكس الأيديولوجيا التي انتمى إليها الشاعر وإيمانه بغد أفضل.
مقدمة
بعد قراءة مجمل ما كتبه الشاعر مفلح الطبعوني في دواوينه الثلاثة، ومتابعة ما نشره بعد إصداره الثالث، يبدو جليا أنّه ينطلق فيها من فكر أيديولوجيّ أمميّ لا يحيد عنه. فقد وجد نفسه، منذ أن بدأ وعيه يتفتح ينتمي إلى هذا الفكر ببعديه؛ السياسي والاجتماعي، مؤمنا أنّه هو الكفيل بتحقيق العدل والعدالة والمساواة على الصعيد المحليّ والعالميّ. وكأنّي به يحاول أن يجد المعادلة التي تكفل للعربيّ، حيثما كان، وفي هذه البلاد خاصة، الاستمرار في الحياة بكرامة، والترسّخ في الأعماق أكثر وأكثر. وهو الذي لوحق في بداية جيل الشباب بسبب انتمائه إلى هذا الفكر، فسجن وفرضت عليه الإقامة الجبرية.
يعاين الطبعوني ما يمرّ به المجتمع العربي على أكثر من صعيد، وعلى أكثر من مستوى؛ يتابع الحركات الأصولية في العالم العربي، فيراها حاجزا يحول دون مواكبة شعبه ركبَ الحضارة، ويرى إلى ما تتعرض له المرأة من كبت وظلم، فيهبّ لنصرتها مؤمنا أنّ شعبا يصادر حق المرأة ليس بقادر على مجاراة التطورات والتغييرات السريعة في كل المجالات العلمية والثقافية والفكريّة. لقد تصدى في شعره للتمييز القوميّ على جميع مستوياته: مصادرة الأرض، تزييف التاريخ واللغة والثقافة، الطرد والتهجير. أما ظلم ذوي القربى فيتجلّى في صوره البشعة بكل ما يتعلق بالمحرمات الثلاثة: الدين، الجنس والسياسة.
فهل هذه الظروف كفيلة لوحدها بخلق شاعر؟ وهل الأيديولوجي عامل إيجابي، أم عامل سلبي في عملية الإبداع؟ وهل مفهوم الأيديولوجيا يحمل معنى إيجابيا أم معنى سلبيا؟ سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة التقليدية الهامة من خلال محاورة نصوص الشاعر مفلح الطبعوني، ومعاينة العلاقة بين الأيديولوجيا وما يحمله النص من ألم وأمل، وانعكاس هذا الفكر على طريقة بناء النص الشعري.
في مفهوم الأيديولوجيا
قبل الدخول في عالم الطبعوني الشعريّ وجدنا أن نعطي لمحة قصيرة حول مفهوم الأيديولوجيا، خاصة وأنّ الشاعر قد انتمى منذ شبابه المبكر إلى صفوف الحزب الشيوعي، الذي يعلن بشكل دائم عن مواقف ثابتة تدين الاحتلال، وتنادي بحق الشعوب بالتحرر منه، وبحقها في المساواة في كل المجالات الاجتماعية والمدنيّة.
يبدو، للوهلة الأولى، أنّ مصطلح “أيديولوجيا”، سهل الإدراك لكثرة استعماله ووروده في مجالات عدة فكرية، سياسية واقتصادية، ولكثرة تداوله في حديثنا اليومي. لكنّ المرء حين يطلع على عدد المنظرين الأجانب الذين درسوا هذا المصطلح في جميع تفرعاته، وحين يتابع بعض ما كُتب حول هذا المفهوم، ويرى الكم الهائل من الأبحاث والدراسات، سرعان ما يدرك صعوبة تعريفه تعريفا محدّد المعالم. وهو، كما جاء في المعاجم العربية الحديثة، العقيدة، والمذهب، والمبادئ السياسية أو الاجتماعية لحزب أو لفئة معينة من الناس. أدرك القيّمون على مجلة “فصول” أهمية تقريب هذا المصطلح من المثقف العربي وتيسيره للقراء، فقاموا بتخصيص عددين تناول فيهما عددٌ من الدارسين مفهومَ الأيديولوجيا من زوايا عدة. (المجلد الخامس، العدد الثالث، والعدد الرابع، 1985)
يرى الباحث مجدي وهبي أنّ الأيديولوجيا كلمة تجريدية مثلها مثل الديمقراطية، الخير، الشر والعدالة. ويشير إلى أنّ أول من تعرض لهذا المفهوم هو الفيلسوف الفرنسي أنطوان لويس دي تروسي (1754-1836) في كتاب يشمل أربع مجلدات (1801) بصفته “علما للأفكار” موضوعه دراسة الأفكار ومعانيها. (فصول، م5، ع4، ص32-33. للمزيد من التوسع انظر المقال كاملا: ص32-36). ويضيف أنّ دي تروسي قد اعتمد في رؤيته على الواقع وعلى الفكر الحر القائم على العلم وعلى الملاحظة والتجربة، لا على الأساطير والميتافيزيقا.
لاقى أصحاب هذا الفكر، في حينه، اعتراضا من نابليون ومن الكنيسة والفئة الحاكمة، على حد سواء، وكان هؤلاء يتهكمون من حاملي هذه الأفكار وينعتونهم ساخرين ب”الأيديولوجيين”، ويتهمونهم بالعمل على زعزعة النظام وتضليل الشعب بإيهامه بأنه صاحب سيادة سياسية، وأنه قادر على أن يدير شؤونه بنفسه. (ن. م.، ص33) انتقلت كلمة أيديولوجيا إلى كل اللغات الأوروبية قبل انتهاء القرن الثامن عشر، على أنّها وصف لحالة بطولية، لإقامة الفكر والأنشطة العقلية بعامة على أسس علمية خاضعة لقواعد ومناهج مرسومة.
اتخذت الأيديولوجيا مفهوما حديثا في أعقاب دراسات إنجلز وماركس في البعد الطبقي والاقتصادي، وكانت النقلة الحقيقية حين نشر كارل ماركس كتابه المعنون “مساهمة في الدراسة النقدية لفلسفة السياسة” (1859)، “وهنا بدأ استعمال كلمة أيديولوجيا بدلالة جديدة … ألا وهي أنها وليدة مجموعة معينة من المصالح الاقتصادية لطبقة معينة، أو جماعة معينة، بصرف النظر عن كونها حاكمة أو لا”. (ن. م.، ص34)
ويشير مجدي وهبة إلى أنّ المفكر لينين هو الذي نقل كلمة أيديولوجيا إلى مفهومها الحديث الذي لا يزال ساريا حتى اليوم، وذلك في كتابه “المادية والنقد التجريبي”، وباتت رؤيته مرتبطة بالطبقة العاملة/ البروليتاريا وثورتِها ضد المصالح البرجوازية. (ن. م.) وكي ندرك أكثر مفهوم هذا المصطلح يدعونا وهبي إلى قراءة مستهل المقالة المطولة في دائرة المعارف البريطانية في تعريفها للأيديولوجيا التي جاء فيها أنّ “الأيديولوجيا هي شكل من أشكال الفلسفة السياسية أو الاجتماعية، تظهر فيها العناصر التطبيقية بالأهمية نفسها التي تظهر فيها العناصر النظرية؛ فهي إذن منظومة فكرية تدعو إلى تفسير الدنيا وإلى تغييرها في آن واحد”. (ن. م.)
كما يشير المفكر المعروف زكي نجيب محمود في دراسته “الأيديولوجيا ومكانها في الحياة الثقافية” (فصول،م5، ع4، ص27-31) إلى نشأة المصطلح في الغرب، وتطوره، وانتقاله إلى اللغة العربية، ويقترح مرادفا في اللغة العربية هو كلمة المذهبية، أو كلمة الملّة التي استعملها الفارابي للدلالة على التفاف مجموعة من الناس حول مجموعة من الأفكار والمعتقدات يؤمنون بها ويدعمونها. كما قام بدراسة الدور الثقافيّ للأيديولوجيا وأكّد على علاقة الأدب بالأيديولوجيا العامة والخاصة للأديب. وهذا ما يعنينا في هذا السياق أكثر من غيره، وهو بحد ذاته موضوع كبير. فما الأدب إلا صورة من صور النشاط الفكري.
ساهم كثيرون في تطوير هذا المفهوم ولكني أرى أنّ ما قام به لوسيانجولدمان مؤسس “البنيوية التكوينية” أو “السوسيولوجيا الجدلية للأدب” حول مفهوم “الرؤية إلى العالم” هو الأكثر مناسبة لولوج عالم الأدب الفلسطيني وأدب الطبعوني بشكل خاص، لأنها برأينا هي الأكثر تشخيصا للحالة الفلسطينية: إذ يرى جولدمان أنّ الرؤية إلى العالم هي بالتحديد مجموعة من الطموحات والمشاعر والأفكار التي تجمع بين أعضاء جماعة ما، أو طبقة اجتماعية ما، تتوحد هذه الجماعة معا في تعارض مع جماعات أخرى. كما يرى أنّ الإنسان قد يتأثر بالمحيط ويتكيّف معه، ولكنه قد يرفضه ويتمرّد عليه. (جولدمان، ص15) وهذا ما يعكسه شعر الطبعوني، ففيه نقد لاذع للذات ونقد لاذع للآخر الذي يفرض سلطته وسلطانه على غيره دون وجه حق، وفيه تمرد على الذات وعلى الآخر ورفض للمسلمات الاجتماعية والسياسية.
يتحيّز الطبعوني في شعره بشكل واضح للفكر الأممي، دون لف أو دوران، ويأتي على ذكر بعض القيادات العربية وغير العربية التي تبنت هذا الفكر، ينظر إليها نظرة إعجاب. تتلخص رؤيته إلى الحياة بما يتلاءم مع هذه الرؤية التي تقسم البشر إلى فئتين؛ ظالمة ومظلومة، مستغِلّة ومستغَلّة، مكافِحة ومستسلِمة، تقدمية ورجعية.
سنقوم في الصفحات التالية بدراسة تطبيقية ترى إلى بعض مميزات أشعاره في دواوينه الثلاثة، ولكن بعد أن نوضح أكثر أهم مكوِّنات هوية الطبعوني وجذور هذا الانتماء وأسبابه.
الهوية:
لكل كاتب هوية فكرية وفلسفية يرى الحياة من خلالها، وهي محصلة تجربته على أرض الواقع، تتبلور بناء على ما اكتسبه من محيطه الضيق والواسع. وهي لدى الطبعوني ورفاقه من الشعراء الفلسطينيين، في هذه البقعة من الأرض بالذات، لم تتبلور بعد الاطلاع على الفكر الأممي، كما قد يعتقد البعض، بل هي وليدة تجربة حياتية يومية صعبة وقاسية. أما الثقافة الأممية فهي وقود يُغني هذه التجربة ويزوّدُها بالفكر وبالقناعات. فالعربي رهين ظروف تاريخية عمرها قرون طويلة؛ تمتد من عصور ما قبل الإسلام، وما بعده عبر “الانتصارات” و”الفتوحات” و”الانتكاسات”. ومما لا شك فيه أنّ وقوع الشعب العربي عامة تحت حكم الأوروبي هو العامل الرئيسي، في العصر الحديث، والمحفّز الذي دفعه للبحث عن هويته، وبالتحديد منذ بداية مغيب شمس الإمبراطورية العثمانية، واختراق الغرب لكل ما هو عربي ومسلم. منهم من بحث عنها في الماضي الإسلامي، ومنهم من تمسّك بالعهد العثماني يرفض الانفصال، ومنهم من حاول أن يخلق هوية عربية معاصرة.
إنّ الشعر خلاصة فكر الشاعر وفلسفته يصوغه صياغة فنيّة تحمل ختمه وأسلوبه الخاص وفق منظوره للعالم. هو، بكلمات أخرى، هويّة المؤلِّف وجُمّاع ما يحمله من أفكار، بناء على تجارب خاصة وعامة. وما على الناقد الذي يتناول عملا أدبيا ما إلّا أن يقوم بدراسة المركبات الفنّيّة أو “الشاعرية”، لأنّ الأدب فنٌّ عمدته اللغة، ووقوده الفكر. وإنّي لأرى أنّ منهج “سوسيولوجيا الأدب” هو الأكثر ملاءمة لتحليل إنتاج مفلح الطبعوني، لكنّ ذلك لا يعني إهمال المناهج الأخرى التي تساهم في إضاءة النص وفك شيفراته. فالرؤية الشمولية لعمل أدبي تفرض توظيف ما اكتسبه الناقد من مناهج أخرى، ومن تجارب سابقة في تعامله مع نصوص متعددة.
تبنى “البنيوية التكوينية” التي وضع أسسها لوسيانجولدمان على إقامة حالة توازن بين العالم الخارجي والعالم الداخلي. فالخارج هو البيئة والمحيط، وهذا المحيط الذي يعيش فيه الطبعوني وشعبه “غنيّ” بالانتكاسات، أما الداخل فهو رد الفعل إزاء هذا الانتكاسات. إنّ ما واجهه الفلسطيني منذ أكثر من قرن من الزمن: سايكس بيكو، تصريح بلفور، تقسيم العالم العربي، الانتداب، الحروب المتتالية وما تلاها من انتكاسات وصولا إلى “صفقة القرن”، جعل الأديب الفلسطيني يجد نفسه بإزاء واقع مرّ يهدّد كيانه وهويته. والهوية ليست مجرد مقولة، بل هي فعل وجود وفعل انتماء بكل ما تعنيه هاتان الكلمتان من تأثير نفسي. إنّ النص الأدبي، وفق رؤية جولدمان، يقوم على “رؤية للعالم”، تتبلور مع الزمن لدى الشاعر، وهي محصلة رؤى مجموعة بشرية، أو طبقة معينة مرت بظروف اجتماعية، تاريخية وسياسية.
ينتمي الشاعر مفلح طبعوني إلى دائرتين تكمل إحداهما الأخرى: الانتماء القومي إلى شعب فقد أرضه وتفرق أيدي سبأ، وإلى الفكر الشيوعيّ الأمميّ. تبنّى الطبعوني هذا الفكر، فرأى أنّ البشر ينتمون إلى تيارين: التقدمي والرجعي، فالتقدمي، وفق رؤيته، من لا يميز بين البشر في انتمائهم العرقي والديني، والرجعي هو الذي يؤمن بالتفوق العرقي والديني.
نميّز في شعره بين الأنا والآخر، فالآخر طوال الوقت، ومنذ ظهر فكر سلامة موسى (1887-1958) هو الغربي، أما الأنا فهو العربي. إنّ الأنا عند الطبعوني هي باختصار هويته الإنسانية وفق رؤيته التي تنادي بحق الشعوب في الحرية والاستقلال، وتحقيق العدل والعدالة الاجتماعية، وتحرير المرأة، والتحرّر الفكريّ وطرد المحتلّ من أي بقعة على وجه الكرة الأرضية. أما الآخر فهو من لا يحمل هذه الرؤية ولا يؤمن بها. والنص الأدبيّ، في مضمونه، ليس إلا صدى مباشرا لما يختلج في النفس، وما على الشاعر إلا تحويل هذه المشاعر إلى شكل فني ينطلق من الذات ليحاور المتلقي في عملية تأثير وتأثّر، كما يرى أصحاب نظريات جماليّات التلقي. فهل صدفة أن يستهل ديوانه الأول “قصائد معتقة” (1999) بقصيدة بعنوان “بلادي”؟
أوقفوني…
ساحة السِّجن بلادي
والصعاليك رفاقي
فتعالي
أنت مائي
وهوائي
أنت ناري
وترابي
فتعالَي
يا حياتي
أنت عشقي
ورجائي”.
قصيدة مكونة من ثماني عشرة كلمة تحمل، برأينا، هوية الطبعوني الفكريّة منذ تفتح وعيه وحتى اليوم. أعطى الشاعر قصيدته عنوان “بلادي” وهي كلمة ذات بُعد وطنيّ وقوميّ، ترتبط بأناشيد وقصائد معروفة تنادي بحب الوطن والدفاع عنه، وهي البيت والملاذ والأمن والأمان. ولذلك فهي تستحق أن يسجن المرء دفاعا عنها. وبالتالي فقد حدّد موقعه رفيقا للصعاليك الذين يتصدّون للضيم والظلم. وانطلاقا من السيميائية في بعدها المباشر، البعيدة عن التعقيد. فكلمة صعلوك تحمل عند الطبعوني و”رفاقه” دلالة إيجابية وبعدا ثوريّا. وهي وفق رؤية أخرى مغايرة تحمل دلالة سلبية تشير إلى “الرعاع” الفاشلين. و”الصعاليك” في ميراث الشعر العربي فئة ثارت على القبيلة، ووفرت لقمة الخبز للفقراء تنتزعها من فم الغنيّ وتقدمها غذاء للفقير، وبالتالي باتت في المفهوم الحديث، وفي هذا السياق الذي وردت فيه، ليست مجرد فئة من عامة الناس، بل هي الفئة المقاتلة الثائرة على الفكر القبّليّ التي تدعم الرؤية الأمميّة.
من هنا يمكننا معاينة اللغة في مركباتها المختلفة؛ مفردة، وتعبيرا، وجملة كبرى وصغرى، وخطابا لنجد أنّ الأديب يختار من “معجمه” الرؤيوي. والطبعوني ينهل من معجمه الأممي. وسأجيز لنفسي الابتعاد عن صلب الفكرة الأساسية لهذه المقالة لتوضيح ما نرمي إليه، فالوردة لها أكثر من رمز وأكثر من دلالة، فهي عند البائع تحمل دلالة اقتصادية، وداخل البيت ذات دلالة جمالية، وحين تهدى للحبيبة تصبح تعبيرا عن مشاعر الحب. والوردة عند الطبعوني هي وردة عيد العامل، الكادح والمناضل. إذن هُويّة الكاتب الفكرية والعقائدية تنحو به باتجاه معجم لغوي يتلاءم مع هذه العقيدة، كما سنرى لاحقا.
وفي القصيدة، أيضا، بُعد ماديّ ووجدانيّ، فبلاده هي أناه بعناصرها الرئيسية: الماء، الهواء، النار والتراب. يعيدنا ذلك إلى الفلاسفة اليونانيين ومكوّنات الكون، إذ لا تقوم حياة بدون هذه العناصر الأربعة. وهي، مجتمعةً، معادلٌ ماديّ ووجوديّ للشاعر مفلح طبعوني، لا حياة له بدونها. لذلك يدعوها لأن تأتي إليه لأنها حياته، ومنتهى ما يأمله وما يرجوه. فإن كانت هذه هوية الطبعوني الفكرية فكيف يتجلّى ذلك في اللغة وفي مبناها الفني؟
اللغة هوية:
هناك دراسات متعددة حول اللغة في أكثر من مجال، وقد ميّز مؤسس الدراسات اللغوية السويسري فرديناند دي سوسير (1857-1913) بين اللغة والكلام. واللغة العربية بحر ينتقي منها الأديب الكلمات التي تحمل أفكاره. وهي مركب هام من مركبات الهوية، يعبّر الإنسان بواسطتها عن معتقداته وآرائه ورؤيته، لأنّ اللغة وعاء للأفكار. ونحن حين نقرأ الدراسات الحديثة حول اللغة ودورها الأدبي والاجتماعي فإنّنا نجد أنّ ما قاله الفلاسفة والمفكرون الغربيون ينطبق تماما على لغتنا العربية، رافضين بذلك تلك الادعاءات حول عدم جدوى تلك النظريات وبُعدها عن لغتنا وعن أدبنا. هذه دراسات إنسانية تنطلق من تجربة بشرية عامة، فإن كان ميخائيل باختين (1895-1975) قد تحدث عن “تعدد اللغات” وعن مدى الترابط بين “الكلام” وقائله فإن قولنا الشعبي “الكلام من صفات المتكلم” لهو نظرية بحد ذاتها وحكمة اجتماعية نابعة عن تجربة إنسانية.
اللغة، برأي لويس هيلمسلاف (1899-1965)، “كلام الإنسان، نبع من الثروات المتنوّعة لا ينضب. اللغة لا تفارق الإنسان بل تتبعه في كل أعماله. اللغة أداة يشكل الإنسان بها تفكيره وإحساسه، ومزاجه وتطلعاته، وإرادته وأفعاله؛ هي الأداة التي بواسطتها يؤثّر ويتأثّر؛ إنّها أيضا الملاذ الأخير والضروريّ للإنسان، وملجأه في أوقات الوحدة، حيث يتصارع العقل مع الوجود، وحيث يحسم الصراع بالحوار الداخلي للشاعر والمفكر”. (هيلمسلاف، ص11) إنّها كل هذا وأكثر. هذا التعريف العميق يعيدنا إلى الشعر وإلى الفكر، وإلى الكلام، وأخيرا إلى الأيديولوجيا التي يؤمن بها الشاعر الطبعوني، وإلى انعكاسها في لغته. فالشاعر يكتب ليؤثّر، ليحاور، ولنا نحن القراء أن نقبل وأن نرفض، وهنا يأتي الذوق، ذوق القارئ وميوله وانتماؤه الفكري.
إن كلمة أيديولوجيا مركبة من كلمتين يعود أصلهما إلى اللغة اليونانية فالكلمة الأولى كما نعلم تعني فكرة بالإنجليزية (Idia) وهذا ما تعنيه باليونانية القديمة (دون الدخول في التفاصيل وهي كثيرة)، والجزء الثاني تعني “العلم”، وهي في أصلها اليوناني، كما يرى دي تراسي صاحب الدراسة الهامة حول الأيديولوجيا تعني “الكلام”، وبالتالي فهي مأخوذة من الكلمة اليونانية “لوجوس” التي تعني خطبة أو كلمة، “فالكلام ما هو إلا انتخاب لعدد من الأفكار والمعاني والتعبير عنها”. (وهبي، ص33) وبالتالي فللشاعر لغته، أو كما يقول دي سوسير، “كلامه” ونقصد، ببساطة ودون تعقيد، ما يختاره من بحر اللغة الواسع للتعبير عن هويته وفكره ورؤيته. ونحن نؤكّد أنّ لكل منا معجمه، بل ولكل مجموعة فكرية، أو اجتماعية معجمها. وبما أنّ الشاعر مفلح الطبعوني ابن لهذا الشعب وابن لهذه التجربة فإنّنا نعثر في أشعاره على مفردات وتعابير تعكس تجربته الذاتية، وتصور الواقع الذي يعيشه كفرد وكمجتمع.
يؤمن الشاعر بدور الطبقة العاملة والكادحة، ويرى أن للمرأة دورا رئيسيا وفاعلا في إجراء التغيير، فخصص بعض قصائده لرثاء نساء من عامة الشعب لم يكنّ يوما في مركز قيادي مرموق، ورأى في أطفال الحجارة نورا وأملا، فجاءت لغته مبنية على ما يعكسه واقعه من تضاد: احتلال، فقر، ظلم، في مقابل التصدي والأمل والحلم. ومع أنّ الفلسطيني يعيش المآسي المتلاحقة إلا أنه ما انفك يقاوم بدافع حبه للحياة، وإيمانه العميق بضرورة التغيير نحو الأفضل.
تبرز صور التضاد وتتجلى في معجم مفلح الطبعوني الشعري: ألم وأمل، حزن وفرح، غضب وابتسامة، عداوة وصداقة. وما هذا التناقض إلّا لأنّ حياة العربي الفلسطيني هي عبارة عن هذا المزيج المتناقض، فكانت لغته مزيجا من أسى وأمل، مطعمة بمفردات وتعابير وصور من حياة العربي الفلسطيني الذي يكافح من أجل الحب والحياة والحرية والكرامة. ولنا على ذلك أمثلة عدة منها النص التالي:
“أنقذيني
من عذابات الحواجز
وخذيني للشموس الشامخات
لأغني لعطايا الكبرياء
مع جموع الأوفياء”
………
“اسكبيني
شمع عشق للظلام
واشعليني
للصبايا الفارعات
ومرايا العاشقات
في ظلام الموت حبا
ليفيق الكون من هذا السبات” (نزيف الظلال، ص10-11)
إن هذه اللغة، كمفردة، وتركيب، ومضمون، مستمدة من انتماء الشاعر الأمميّ، ومن محيطه الفلسطيني سياسيا واجتماعيا. لذلك فإن هذا التضاد في المفردات تكوّن في اجتماعها صورة لواقعه، من ناحية، وانعكاسا لرؤيته، من ناحية أخرى. فبالرغم من أنّ واقع الإنسان الفلسطيني مرّ وصعب، لكنّه بقي صابرا وقويا وعصيّا على الكسر، ينتقل من حاجز لحاجز وعينه على “الشموس الشامخات” كي يغنّي “مع جموع الأوفياء”، فينبثق “في ظلام الموت حبا” وشعلة للحرية تبدّد الظلام والظلم لتتمتع الصبايا بجمال الحياة بعد أن “يفيق الكون من هذا السبات”.
يتكرر هذا التضاد في الكثير من القصائد كتصوير لواقع الإنسان الفلسطيني الذي يعيش الهمّ اليوميّ، ويواجه الخيانة اليومية، وهو الذي “يتربّع على عرش” الوجع والغمّ دون أن يستسلم أو يلين. وقد تجلّى ذلك واضحا في قصيدته بعنوان “إلى راهب البروة، إلى محمود درويش”:
“صباح الخير يا محمود
صباح الحب والورد
…………..
صباح النثر والصخر
صباح الصخر والصبر
صباح الصبر والجمر
صباح الجمر والبدر
……………..
أورثناك الضياع
أورثتنا الحقيقة
أورثناك النكبة
أورثتنا حيفا
أورثناك المأساة
أورثتنا الينابيع” (عطايا العناق، ص7)
ليس هذا التضاد إلا وليد هذا الواقع، ووليد هذه الرؤية التي تعاين الواقع وتعمل على تغييره. ومن يتابع القراءة يمكنه أن يجمع كمّا كبيرا من المفردات والتعابير المنبثقة من صلب حياة الإنسان الفلسطيني، ولنا خير مثال في النص أعلاه: “الضياع”، “النكبة” و”النكسة”. هذه المفردات الثلاث تختزل تاريخ الإنسان الفلسطيني منذ سبعة عقود ونيف، ورغم ذلك هناك “الحب” و”الورد” و”الصخر” و”الصبر” و”الجمر” و”البدر” و”حيفا” و”الينابيع”.
وظّف الطبعوني اللغة الشعبية كاللجوء إلى الأمثال والحكم والمواويل، يمكن للقارئ أن يعثر عليها في الكثير من قصائده. هذه اللغة قريبة من هوية الشاعر وانتمائه العقائدي. وكي تكتمل الصورة فإنّ في شعره ذكرا لمواقع فلسطينية معينة لها علاقة قوية بوجدان أهل البلاد، والمكان، كما يرى العديد من المنظرين مركب لغوي، فضلا عن ذكر أنواع النباتات والأشجار المألوفة، وهذه كلها مركب من مركبات المكان، ومن مركبات المعجم الفلسطيني عامة.
ولعلّ من أجمل ما قيل في اللغة وعلاقتها بالفرد هو تعريف مارتن هايدجر (1898-1976) لها، أخص بالذات تلك الجملة التي باتت تتكرّر في العديد من الدراسات وفي الكثير من المواقع تعكس برأينا وضع الإنسان الفلسطيني كما صوره الطبعوني في شعره: “لغتي هي مسكني، وهي موطني ومُستقرّي، وهي حدود عالمي الحميم وعالمِه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها أنظر إلى بقيّة أرجاء الكون الواسع”. (المسدي، ص81)
التكرار:
التكرار تقنيّة فنية بارزة، وميزة هامة من ميزات الشعر العربي الحديث. الهدف منه، بشكل أساسي، التوكيد على الفكرة التي تلحّ على المبدع، ونقلها إلى المتلقي للتأثير والمشاركة. وهو علامة من علامات الانفعال ومحصّلة الحالة النفسية التي تعتري الشاعر أثناء عملية الكتابة.
يلاحظ القارئ بروز هذه الظاهرة في شعر الطبعوني بنوعيه: اللفظي والمعنوي. وقد يعمد إلى تكرار الحرف، الفعل، الاسم، الضمير أو الجملة. ولنا على ذلك أمثلة عدة، لا يسمح لنا حيز هذه المقالة الخوض في دور كل منها. فمن أمثلة التكرار ما جاء في قصيدة مطولة بعنوان “بوابات الزمن المعتق”، تحت عنوان جانبي “الممارسة”:
مارستُ الموتَ البري
مارست الموت الجوي
والموت البحري
مارست الموت الشمسي
والموت القمري
والموت الصيفي
مارست الموت المنفي
لكن
.. ما
أفناني الموت!!!” (قصائد معتقة، ص27)
يرى المتلقي ما لهذا التكرار اللفظي من تأثير في النفس في المواجهة الأولى، مما يستدعي الخوض في دور التكرار ووظيفته ودوافعه. فالموت في معناه المباشر يحمل معنى انتهاء الحياة، وهو ما لا يمكن أن يتكرر، وبالتالي لا يمكن أن يرتبط بعملية الممارسة التي تحمل معنى تكرار العملية. فقد جافت كلمة “الموت” معناها المعهود وانزاحت عن أصلها لتحمل معنى آخر بعيدا كلّ البعد عما هو مألوف. ولأنّ الشاعر يصرّ على حمل رسالة التحدي فقد ختم المقطوعة قائلا: “لكن.. ما أفناني الموت”. بات الموتُ وفقَ هذه الرؤية فعلَ استمرار، لا فعل فناء وانتهاء. فهل تأثّر الشاعر، رغم انتمائه الأممي الشيوعي، بالمورث الديني وفكرة البعث؟! أم تأثّر بفكرة “نموت لنحيا” في بعدها الأيديولوجي العقائدي؟
مهما يكن من أمر فإنّ الكاتب، سواء كان شاعرا أو روائيا، فإنّه يتأثّر في اللاوعي بالموروث الفكري والثقافي دون أن يعي ذلك، وقد ادّعى أحدهم أنّ الأديب حين يكتب يكون واعيا بنسبة 10% فقط، وأما الباقي فيستلهمه المبدع من اللاوعي.
حين ننظر إلى التكرار، كظاهرة، نعود إلى ما كنّا قد اعتدنا عليه في تنبيه طلابنا إليه، وإلى الهدف من توظيفه، سواء كان تكرارا لفظيا أم تكرارا معنويا، إذ كنا نؤكد على أهمية التشديد على الفكرة والتوكيد عليها، وإلى كونه تعبيرا عن انفعال الشاعر، وكنا ننبه إلى دور الموسيقى المنبعثة من عملية التكرار في تجنيد القارئ. ما يعني أنّ من وظيفة الدارس ألّا يكتفي بالبحث عن المعنى، بل أن يبحث في تشكّل المعنى. إننا ننظر إلى التكرار كتقنيّة تساهم في بناء المعنى وتشكّله. وبناء عليه نرى أنّ عملية التكرار، في النص أعلاه، ذات بعد دلالي تشير إلى التحدي والتصميم، واستمرار الحياة، لا إلى فنائها. وبالتالي فإنّ تكرار صيغة فعل الأمر في قصيدة “بعث أبيد”، (نزيف الظلال، ص9-25) على سبيل المثال، يخلق حالة جديدة تحمل صورة الهيجان وشكله، وتتحول عند المتلقي إلى شكل من أشكال التصميم والإصرار والاندفاع. قد يتعدى التكرار، في مفهومه وفي وظيفته، قضيةَ المعنى المباشر للفعل، إذ إنّ تكرار الأفعال المختلفة في بداية كل فقرة، وفي داخل الفقرة ذاتها يصبح دعوة إلى الفعل والعمل والحركة، كما يتجلى في مجمل نص قصيدة “بعث أبيد”، التي نكتفي بالمقطع التالي منها للدلالة على ما نرمي إليه:
“قلّميني
مثل زيتون أثيل
اتركيني
مثل شمس فوق وردات السهوب
اسكريني
من ربى عينيك في ليلة عيدي
ودعيني
أرشف الدمع من الخد الرطيب”. (نزيف الظلال، ص13)
لا نقلل من عملية البحث عن المعنى الذي يتطور ويتفرّع كلما أمعنّا في عملية القراءة، فالبحث عن المعنى يحقّق نصف المتعة لدى المتلقي، أما البحث في تشكّل المعنى فيحقق النصف الثاني من المتعة. يستطيع القارئ بعد قراءة مجمل قصيدة “بعث أبيد” من ديوانه “نزيف الظلال” أن يرى أنّ عصب القصيدة قائم على التكرار، ليصبح التكرار تقنية ذات بعد دلالي تعبر عن موقف من الذات في تحديها، وعن موقف الآخر في محاولة كبت الأنا التي ترفض هذا الكبت.
ليس صدفة أنّ التكرار ظاهرة من الظواهر المألوفة في الشعر الحماسي العربي الحديث، وبالذات في الأشعار التي تدعو إلى التحرر والانعتاق. وهو ميزة من ميزات الأدب الفلسطيني الحديث، وقد وظّفه، بشكل بارز، الشاعر سميح القاسم في ديوانه “أنا متأسف”، حيث تحمل كلمة متأسف عكس معناها لتصبح سخرية مرة ومؤلمة ترمي إلى النيل من الآخر ولا تعني تعبيرا عن خطأ ارتكبه، وباتت علامة من علامات المفارقة.
يتعدى التكرار معنى اللفظ المباشر، كما ورد في المعاجم ليصبح تعبيرا عن حالة شعورية انتابت الشاعر أثناء التأليف، وتحمل في موسيقاها دلالات أبعد من المعنى سيّما وأنّ لموسيقى الشعر تأثيرا على الأذن العربية التي اعتادت موسيقى الشعر.
يؤمن الشاعر الطبعوني، بتأثير من عقيدته الأممية، أنّ كل شعب مهما طال ليله، مصيره التحرر والانعتاق. ففي شعره تحريض وحث واستفزاز للعمل على تحريك الراكد ودعوة واضحة وصريحة للعمل على دفع الضيم عن الشعوب المقهورة. فكانت عملية التكرار، سواء اللفظية أو المعنوية إحدى وسائل الحث والتحريض، من ناحية، ودلالة من دلالات الانفعال تساهم في تجنيد المتلقي.
السخرية:
لا يكتب الشاعر مفلح الطبعوني في السياسة، بل إنّه يكتب ليعكس رؤيته كما ذكرنا، فيعاين الوضع العربي من مشرق الخليج إلى مغرب المحيط، عين على الانكسارات المتتالية، وأخرى صوب الفكر المتصلب؛ حيث المجتمع ما زال يهيم في عالم الغيبيات، وكأننا ما زلنا نسافر من قارة لأخرى نمتطي ناقة حلوبا نشرب من حليبها ونأكل من تمر الصحراء. هذا الواقع المرّ قد يكون قاتلا للنفس والروح، لكنّ الطبعوني يسلك في سبيل السخرية فشر البلية عنده لا يضحك.
دوافع اللجوء إلى السخرية عديدة، فهي قد تكون وسيلة تفريغ، وحثّ وحضّ وتحفيز على التغيير، وقد تكون للتقليل من شأن الآخر والنيل منه. وهذا الآخر ليس بالضرورة الخصم السياسي، بل قد يكون من نختلف معه في الرؤية وفي الرؤيا. ولنا على ذلك أمثلة عدة نختار منها مقطعا بعنوان “صلاة” من قصيدة مطولة بعنوان “بوابات الزمن المعتق”:
“سنقاتل بعد صلاة الفيلْ
والطير أبابيلْ
الرب يناصرنا
ويعاديهم
النصر لنا
والموت لهم
النصر لنا
– آمين
– تصفيق (قصائد معتقة، ص23)
هذه السخرية تصبح أكثر تأثيرا في القارئ حين يعلم دور هذا التناص وهذه الإشارة التي تعود بنا إلى ماضي العرب والمسلمين، حين كانوا ينتقلون من نصر لآخر. فقد جاء في القرآن الكريم: “وأرسل عليهم طيرا أبابيل” أي أرسل ضد الأعداء طيورا تأتي أبابيلَ؛ جماعات جماعات، وسربا إثر سرب، وكان النصر عظيما.
يرى الشاعر أنّ شعبه العربي ما زال يعيش هناك، يأمل بالنصر دون أن يحرّك ساكنا. هذا التناص يغني الفكرة ويضيء النصّ، ويقربه من إدراك المتلقي الذي يعرف حكاية أبرهة الحبشي الذي أراد هدم الكعبة فجنّد الفيلة لتحقيق المهمّة حتى كان الخلاص للمسلمين من الله “وأرسل عليهم طيرا أبابيلَ، ترميهم بحجارة من سجيل”. (قرآن كريم، سورة الفيل، 105)
ما يجعل هذه السخرية لاذعة وجارحة ومؤثرة في القارئ هو ما تحمله من مفارقة، والمفارقة بالذات هي أهم الأساليب، برأينا، التي تصيب الهدف أكثر من غيرها لأنها تنال من الخصم ومن الذات بطريقة لاذعة وتحقق كل الأهداف، سواء باتباع أسلوب التندّر أو التجريح. وهي فنّ اللامباشرة في رأي النقاد، لأنها تجمع بين الأضداد فتثير القارئ فيما تحمله من مضمون مفاجئ ومثير. ولها شكلان المفارقة الساخرة والأخرى المأساوية. وتعتمد جميع أنواع المفارقات أسلوبا منهجيا في إبراز البون الشاسع بين اللفظ والواقع.
يوظّف الشاعر السخرية في العديد من قصائده، ففي قصيدة بعنوان “غدا العيد” (نزيف الظلال، ص107-115) يسخر من مفهوم العيد لدى بعض الفئات من مجتمعنا العربي، فيعرض صورا متعددة من شوارع البلدة وأزقتها وزواياها، وكأنّه مصوّر يرصد ردود فعل الناس وفرحهم في يوم العيد؛ قسم “يصطاد” “الصبايا “المستورات” عند محطة الباصات المركزية، وبعضهنّ يّرين بالعيد مناسبة “لكشف المستور”، والناس تصرخ وتصيح، وحجاج بيت الله الحرام يعودون فرحين “بالتمام والكمال/ رغم سقوط المئات/ أثناء رمي الجمار”، والمصلي يدعو “للملوك والرؤساء العادلين/ ولآلهم أجمعين” بطول العمر وترميل نساء الكافرين.
لا ينتقد الشاعر ظاهرة بعينها دون غيرها، بل إنه يأتي على ذكر بعض الظواهر السلبية بهدف التعميم. فالعيد في مفهومه الديني والأخلاقي يوم للدعاء من أجل الخير والتطهّر وفتح باب للتسامح، وآخر للمحبة والفرح، فإذا به، عند البعض، مجرّد يوم للتسكّع ومدح للكذبة والظالمين.
تتكرر السخرية اللاذعة في أشعار الطبعوني بهدف الدعوة إلى التغيير وفضح الكذبة والمنافقين وكشف زيف المتنكرين بلباس الشرف موظفا أسلوب التضاد، فيخلق لدى المتلقي حالة من التوتر والذهول وتتكشف المواقف عن دلالات أوسع من مجرد سخرية من موقف معين.
تنبع سخرية الشاعر مفلح الطبعوني من موقف فكري عقائدي ينادي بالعمل من أجل التغيير، فالعامل والفلاح والكادح والفقير يتكرر ذكرهم في كل موقف باعتبارهم الشريحة التي تتلقى الضربات، وهم الأحق بفرح الحياة، لأنهم جمرة الحياة ووهجها. يعاين الظلم والاحتلال وما تتعرض له الشرائح المستضعفة من استغلال فيحثها على الثورة. فمن شأن السخرية أن تحثّ وأن تستفز عبر خلق حالة من الإدهاش.
السخرية لدى الطبعوني كما التكرار وكما هي نبرة الحماسة نابعة من موقف رؤيوي تجاه الواقع، تشكّل مركّبا بارزا من مركبات شعره يتكئ عليها في العديد من قصائده.
ماذا بعد:
يكتب الطبعوني من خلال واقعه ليؤثّر اجتماعيا سياسيا وفكريا، وذلك نابع من المرجعية الثقافية التي ينتمي إليها الخطاب، وهي تلك التي نهلها من مبادئ النظريات الأممية، ومن انتمائه للشعب العربي الفلسطيني الذي يواجه منذ بداية القرن العشرين المحن الأصعب. لا يكتب الشاعر أو الأديب ملخصا لنظرية أدبية أو لمنهج أدبي ما، بل إنه يتأثّر بما حصّله من ثقافة عامة وخاصة فتستجيب اللغة في مفرداتها وتعابيرها وصورها للرؤية الفكرية التي يحملها الشاعر. يستطيع الباحث أن يقوم بدراسة في معجم الطبعوني الشعري ليرى إلى مدى تطابقها مع الفكر الأيديولوجي الذي انتمى إليه فكانت جزءا هاما من مكونات هويته الفكرية وهويته الأدبية.
يتميّز شعر الطبعوني باللهجة الحماسية التي ميّزت الشعر الفلسطيني في لهجته الخطابية التي تجلّت في صيغة التكرار بكل أنواعه، فكان التكرار تقنيّة هامّة تساهم في تشكل خطابه الشعري، عبر ما تحمله من معنى مباشر، وما تحمله من دلالات ورموز وإشارات.
ليس من وظيفة الشعر ولا من وظيفة الشاعر أن يكتب عملا توثيقيا، فهذا شأن المؤرخين، لكنّ الدوافع الأيديولوجية المحركة َللشاعر في الوعي وفي اللاوعي هي التي جعلته يستحضر محطات هامة في التاريخ الفلسطيني الحديث، فرأيناه يربُط بين الأنهار العربية؛ النيل، الأردن، دجلة والفرات لإيمانه أنه عالم عربي واحد يجمعه الهم الواحد، ويستحضر أسماءً لمناضلين كانت لهم بصمة في التاريخ الفلسطيني والتاريخ البشري، وهي التي جعلته يذكر أسماء المدن الفلسطينية ليرسّخ كل ذلك في الذاكرة، ولا ينسى أن يستحضر أسماء الحارات والشوارع النصراوية. يقيني أن الطبعوني يعي جيدا ما للذاكرة من دور في الحفاظ على الهوية بكل ما تحمله من معانٍ.
يعاين الشاعر الفكر الاجتماعي وميول شرائح معينة من مجتمعه التي ما انفكت تعيش في الماضي، وأخرى تغرق في الفكر الأصولي فوجه نحو هذه الشرائح سهام سخريته اللاذعة. دون أن ينسى ولو للحظة أن هناك من يغتصب حقوق شعبه وأرض شعبه من خلال “تنظيرات” فوقية فكان الرد ساخرا ومتهكما ولاذعا.
من يقرأ شعر الطبعوني يلاحظ الجهد المتعمد في خلق نص يميل نحو التعقيد، لأنّه يسعى إلى ما يسميه جولدمان، “رؤية العالم”، ونراه أحيانا يميل إلى التبسيط تعويضا عن التعقيد، كما نعثر على نصوص كثيفة الدلالات. هذه الرؤية وجدت انعكاسها بشكل بارز في مجمل ما كتبه الطبعوني سياسيا واجتماعيا، ففي شعره ألم وأمل، فرح وهم.
المصادر:
جولدمان، لوسيان (1986)، “المادة الجدلية وتاريخ الأدب”، ترجمة محمد برادة، من كتاب البنيوية التكوينية والنقد الأدبي. ط2، مجموعة من المؤلفين. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية.
المسدي، عبد السلام (2014)، الهوية العربية والأمن اللغوي – دراسة وتوثيق، بيروت: المركز العربي ودراسة السياسات.
نجيب، زكي (1985)، “الأيديولوجيا ومكانها في الحياة الثقافية”، فصول، م5، ع4.
هيلمسلاف، لويس (2018)، حول مبادئ نظرية اللغة، ترجمة جمال بلعربي، الرباط: دار الأمان، الجزائر: منشورات الاختلاف، بيروت: منشورات ضفاف.
وهبي، مجدي، (1985)، “أية أيديولوجيا”، م5، ع4.