زمكانية العنونة في مسرحية (الضحك ممنوع في المدينة) للشاعر قيس لفته مراد

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

                                          

   العنوان نص لغوي يحتل مكان الصدارة من العمل الأدبي, ويتربع على عرشه, بل انه تاج العمل في مملكة النص, وهو بعد ذلك مؤشر يدل على ما بعده ويفتح الطريق إليه مضيئا دهاليز النص المتن ومبينا جوانبه الغامضة من جميع الجهات [1],ولما كانت اللغة نظاما من العلامات فان العنوان لا يخرج عن هذا المنحى في كونه علامة تدل على النص, أو توحي إليه من خلال تحليل هذه العلامة اللغة واستكشاف بنيتها الدلالية[2],إن تحديد النص والكشف عن مخبوءاته يندرج ضمن فعالية العنوان, وهو يفعل فعله في النصوص, بل انه يعد مفتاحا إجرائيا للدخول إلى عالم النص, مفتاح لما استغلق من هذه النصوص, يمكن للمتلقي أن يدخل إلى هذا العالم من الصور, والأصوات , وقد درج النقاد في كتاباتهم النقدية وهم يتناولون موضوع العنوان على عده بمثابة الرأس من الجسد ,يطالعنا عنوان المسرحية بلفظتين ذات دلاله في سياق المسرحية الأولى (الضحك), والثانية (ممنوع) وتحيلنا المفردة الأولى إلى أجواء  الظلم, والاضطهاد ،والمعاناة,وهذا يعني ارتباط المفردة الأولى بحالة غير طبيعية تعيشها (شخوص المسرحية),وهي حالة استثنائية ربما لامثيل لها إلا في ظروف شبيهة بظروف المسرحية,كما أن المفردة الأولى(الضحك) يمكن أن تعطي معنى آخر مغاير وهو أن يبشر بموسم جديد من الفرح ،والمسرة أي أنها تنبئنا عن واقع سيئ سيتحول إلى واقع أفضل فإذا كانت مفردة الضحك  في المعنى الأول تمثل حالة الظلم, والاضطهاد ،فأنها في المعنى الثاني الذي نقترحه الآن تمثل حالة الفرح ،والحياة الجديدة ,والبناء الجديد، في المعنى الأول حالة حزن بينما في الثاني حالة فرح وسعادة,وبإضافة المفردة الثانية (ممنوع) إلى المفردة الأولى يصبح المعنى الثاني راجحا كون العنوان يعبر عن حالة مسرة حقيقة لان هذه الضحكة هي فعلا أنشودة للخلاص وليست أنشودة للقيد ،ولعل هذه الإضافة بين الضحك ,والمنع  يمكن لها أن تحيل لجنس المسرحية أيضا كونها مسرحية شعرية وهي تعبر عن أزمة إنسانية كبيرة تنتهي فيها معاناة الشخصيات بقراءة عنوان المسرحية (الضحك ممنوع في المدينة) يقوم على تقنية الارتداد الخارج الذي يعني تقنية زمانية ذات وظائف متعددة تستخدم النص المسرحي , وتسهم في نمو أحداثه , وتطورها, ويسهم في لفت نظر القارئ/ المتلقي إلى عنوان المسرحية , فهو بمثابة شفرة لغوية تترشح منها دلالات تتطابق مع دلالة مضمون المسرحية إلا انه في (الضحك ممنوع) يحاول الابتعاد عن مساحة الشعر الدرامي ,والدخول إلى عالم الدراما الشعرية,ولسنا الآن بصدد تقييم مدى النجاح, أو الإخفاق في هذه التجربة التي لم يحاول الشاعر قيس لفته مراد أن يكررها ,أو يطورها في محاولات جديدة أخرى تتركز على ما تحققه أصداء تجربته الأولى، بل أننا نحاول أن نقرأ هذه التجربة قراءة نقدية لمعرفة مدى تحقق شروط الدراما الشعرية في هذا النص المسرحي الجديد,وليس من المستبعد القول بان الشاعر قيس لفته مراد وهو ينحت بنيات عنوان مسرحيته يستخلصه من علاقات نصه المنجز , وتركيب ذلك العنوان نفسه يعني تأويلها بما يوحي به المتن الشعري أي بما يراه مناسبا للعنونة , وقراءة العنوان نفسه عند شاعرنا هو أنتاج لدلالة لا تؤدي حتما إلى التشخيص المطلوب أو المرسوم في ذهن المتلقي بل في تأويله , وفي نموه , وتعدل قراءاته باكتشاف الدلالات المخبوءة في نسيج العنوان ( الضحك ممنوع في المدينة) يقوم هذا العنوان على أسلوب النهي بمعنى لا احد يضحك في المدينة وهو يسبق بداية الحاضر هو عنوان مبهم وغامض , لا يتضح إلا بعد قراءة اللوحة الأولى من المسرحية ,وخير ما يوضح ذلك قول الملك مكلما الطبيب:

الملك – حالتها أعجب ما شاهدت من الأشياء , أن ضحكت شرقت..

واختنقت .. وأصيبت بالإغماء

الطبيب- هذا روح شرير يا مولاي , يتلبس بين الجلد .. وبين اللحم

روح ملعون

كيف ترى نمنعها ان تضحك ؟

رئيس الكهنة – الأمر بسيط جدا يا مولاي

الملك – ماذا عندك ؟

رئيس الكهنة – نمنع ما يضحك ..[3]

وينتهي بتنفيذ الأمر لا احد يضحك في المدينة لان الضحك يضر الملكة ,وهو كناية عن مدينة الناصرية , وقد صور لنا الشاعر قيس لفته مراد مدى حزن المدينة ومظاهر الظلم ,والاضطهاد فيها, ,فمن الممكن أن نستدل من عنوان المسرحية أنها تتحدث عن تهكم أو سخرية , فنراه يقول :

رئيس الكهنة – نسكت صوت الضحك .. بكل مكان

نسكت صوت الضحكة في كل لسان ..

الملك  هذا شيء لا  أتصوره في الإمكان

رئيس الكهنة – أن رعايا مولاي يضحون

بكل الأشياء ..

ماذا لو صبروا شهرا أو شهرين

عن الضحك المأفون..

حتى تشفى مولاتي.. من هذا الروح الملعون [4]

وليس غريبا أن يلجأ الشاعر قيس لفته مراد  إلى كتابة المسرحية الشعرية, فهو جزء من سلسلة الشعراء الذين وجدوا في المسرحية الشعرية نمطاً من أنماط التعبير المناسب لما يمتلكه الفن المسرحي من قدرة على إيصال الأفكار، واحتواء الجمهور فكرياً، ونفسياً,إن هذا اللجوء يمثل احد أهم رغبات الشاعر في الاتصال بالآخر (المتلقي) لأنه يشعر أحيانا أن طاقة الشعر الغنائية لا تستطيع أن تفي بأحلامه، وطموحاته، ولذلك نجده يلجأ إلى استثمار الطاقة الدرامية في القصيدة الشعرية لإنشاء جنس أدبي مركب من (الشعر، الدراما) باعتبار أن الدراما قد بدأت أصلا كدراما شعرية فضلا عن عدم استغناء الشعر عن الطابع الدرامي في المسرح,وهكذا نجد أن ثمة ارتباطاً جدليا بين الجنسين الأدبيين ما يحيل احدهما إلى الآخر عند الحديث عن تداخل الأجناس الأدبية، ومدى التأثير المتبادل الذي يتركه كل جنس على الآخر, ولعل مدى الصعوبة في نمط المسرحية الشعرية يكمن في ذلك التركيب المعقد لاشتراطات الدراما كونها خطاب لا يكتب من اجل أن يقرأ وإنما من اجل أن يمثل,وبغض النظر عن الشكل الأدبي الذي تأخذه المسرحية الشعرية –لاتكتمل إلا بالتجسيد العياني على خشبة المسرح، وقتها يكون وقعها أكثر تأثير إذا ما أضيفت لها العناصر السمعية، والمرئية الأخرى التي تعد من آليات الخطاب المسرحي,ولكن علينا في البدء أن نفرق بين الشعر الدرامي ,والدراما الشعرية حتى نستطيع قراءة (الضحك ممنوع) على النمط المناسب من هذين، وتصنيفهما بالشكل الذي يتلائم مع ما تحققه كنص أدبي يطمح إلى الدخول إلى ساحة الجدل الاجناسي بين نمطي الشعر، والدراما,فالشعر الدرامي لايتعدى حدود القصيدة من حيث البناء، والصورة الشعرية، ونسق التفعيلات من حيث كونها أما تأتي بطريقة البيت الشعري التقليدي أو من خلال وحدة التفعيلين ذات التوزيع الهندسي المناسب في جسد القصيدة,وعلى الرغم من  أن الشعر الدرامي يلجأ في بعض الأحيان إلى استحداث (أصوات) شعرية في بنية القصيدة لإجراء تحويلات وزنيه، أو تطوير إيقاع القصيدة من خلال تغليب عناصر الدراما على عناصر الغنائية الشعرية ,إلا أن القصيدة تبقى في حدود القصيدة الشعرية ,وان استخدمت بعض عناصر الدراما، وفي العديد من قصائد قيس لفته مراد  نجد هذه الميزة الأسلوبية (القصائد ذات المنحى الدرامي)، ومع أن الشاعر لا يطمح أكثر من أن يحقق قصيدة مؤثرة بغض النظر عن مدى تفوق أي عنصر من عناصرها الداخلية سواء أكانت درامية أم غنائية،  إذن هو منذ البداية يقرر أن مكان وقوع هذه الأحداث لايتصل بموقع جغرافي محدد، فالحدث يمكن له أن يجري في كل مكان تعيش فيه الناس تجربة القيد,وهذا يعني أن الشاعر قيس لفته مراد  هنا يريد أن يمنح مسرحيته بعدا شموليا كونها تعبر عن معاناة الناس بشكل عام فكل إنسان يعيش تجربة القيد هذه المسرحية تعنيه وتخاطبه، ومع أن الشاعر يستخدم في شخصيات مسرحيته شخصيات ذات هوية معروفة زمانيا ,ومكانيا مثل :ـ(خيتو المضحك , رئيس الأطباء, ورئيس الكهنة, عبيد وغيرهم) إلا أن ذلك لايضر بقصيدة الشاعر قيس لفته مراد في محاولة الارتقاء بخطابه إلى مستوى شمولي عام بل على العكس فان توظيف هذه الشخصيات يعطي المسرحية خصوصية هي بحاجة إليها ,إن صفة الإيهام في العلامات المكانية بداخل النص تمنح حركته صورة أفضل مما لو كانت هناك محددات مكانية لطبيعة الحدث ,فالتحديد سيقصر الفهم على بلد معين وزمان معين، ولكن هذه الميزة الايجابية ينبغي استغلالها في تطوير الحدث الدرامي بداخل النص لان هدم وحدة المكان بالمفهوم الأرسطي يقتضي استحداث أمكنة جديدة،وبديلة عن الأمكنة التقليدية (أي وحدة المكان بالمعنى الأرسطي), ولكن هذه الأمثلة عليها أولا أن تسهم في دفع الحركة الدرامية بداخل النص إلى الأمام فضلا عن وضع المفارقة مع المفهوم الوحدوي للمكان عند أرسطو بوضع البديل المناسب حتى يصبح خرق وحدة المكان نوعا من الإبداع أو التجريب في الكتابة المسرحية لا أن يتحول عبأً على النص، ،ويقوده إلى إشكاليات بنائية هو في غنى عنها, وبنفس المعنى يأتي توظيف الزمان في المسرحية: إما زمانها فكل أزمنة الرق ,والعبودية وكل أزمنة التمرد والصمود,وهو بذلك يخلق انسجاما بين هدم وحدة المكان في المسرحية مع هدم وحدة الزمان, أن هدم الوحدة الزمانية في المسرحية لقد منح الشاعر قيس لفته مراد  حرية التلاعب في الزمان التاريخي من خلال استحضار شخصيات تاريخية لها أزمانها المناسبة، وجلب هذه الشخصيات إلى زمان الحدث ،فلاشك أن زمن (عبيد) يختلف عن زمن (رئيس الشرطة),وبتداخل هذه الأزمنة مع بعضها البعض فضلا عن زمن الحدث نفسه تنشأ لدينا منظومة زمنية جديدة قوامها تداخل الأزمنة التاريخية بحيث أن هذه الارتدادات الزمانية تجيء متناسبة مع منطوق المسرحية في المقدمة,وكأن هذه المسرحية  هي الخلاص لكل المستضعفين في العالم، وهي صرخة بوجه كل المستكبرين الرامين إلى تكبيل البشرية بقيود الرق والعبودية ,وعلى الرغم من أن زمان كتابة المسرحية (أواخر الثمانينيات) يمكن أن يدفع بنا إلى استشراف قصيدة الشاعر قيس لفته مراد في التعامل مع العنصر ألزماني, كونها تعبر عن النضال , وحركات التحرر الوطني في العصر الحديث ,أننا لا نود تجريد المسرحية من هذه الخصيصة البنائية المهمة كونها تمنح النص بعضا من الانفتاح التأويلي الذي ينبغي أن يسعى إليه حتى يمتلك ديمومة الوجود ،والانصهار في مسيرة التجربة المسرحية المؤثرة دائما, وبعيدا عن الارتباطات المكانية التي تحد من أفق النص وتقيد حركته.

المراجع: 

[1] العنوان في الشعر العراقي الحديث :15 0

[2] ينظر علم اللغة العام :33 0

[3] مسرحية الضحك ممنوع في المدينة : قيس لفته مراد :11 0

[4] م0ن : 11 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى