تأويل رؤيا الصالحين
أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي
قرأتُ قصة عجيبة عن بعض هؤلاء الممتعين في الحياة، من الذين يحويهم الوجود وهو كاره لهم، يدنون إلى النعيم من طرق يكره الله أن يسير فيها الصالحون لأنها مسالك سوء، ولا يطرح الله البركة في عيش هؤلاء الذين يشبهون البشر في شكلهم ويختلفون عنهم في طباعهم. وُلد صاحبنا وفي فمه ملعقة من ذهب، يحيا منعّماً بين المنعمين، يطعم كما يطعمون من ألوان الطعوم المختلفة، وينام كما ينامون على لين الفراش ويرتدي الحرير والديباج، ويظفر من عمله بالكثير ويحوز من الجاه الجزيل، وينال من التحيات الغزيرات الوافرات.
وظل على هذه الحال حتى تولاه مس وخيم من حياة النعومة أصبح على أثره شاحب اللون، مرتجف القلب، مضطرب الضمير. وقد هال الرجل أمر مصيبته ففزع إلى التداوي وزار صفوة الأطباء، فنصحوه بتغيير الأجواء والسفر عبر البحار والتماس البهجة والنعيم في غير ما يقيم؛ فالبهجة والنعيم لم يزيداه إلا همّاً وغمّاً.
وبينما هو ذات يوم يفكر في حاله، إذ غشيته سِنَةٌ من نوم، فرأى فيما يرى النائم كأن الأرض قد انشقت عن شبح نوراني، وسمع صوتاً ينادي بأن العلة لا تزول إلا بغذاء من رغيف طاهر معجون بماء يرشح من جبين المكافحين.
ذعر صاحبنا من هذه الرؤيا وضرب الأرض يسأل كل عالم بتأويل الأحلام حتى التقى شيخاً من أهل الصلاح؛ فقال له: إني آتيك بتأويل رؤياك فاتبعني، وسار به بعيداً عن المدينة وانتهيا إلى شجرة عجوز بارك الله في ظلها لمن يلجأ إليها من عمال المزارع الواسعة القريبة.
جلسا يرقبان رجلاً عليه ثوب أنهكته السنون يعمل بجد في الأرض. ولما كادت الشجرة تنتقل ظلالها، وتتوسط الشمس في السماء انطلق نحو الشجرة والعرق يتصبب من جبينه وإشراق الجهد الصالح يتألق على وجهه، وانتحى ناحية في ظلها الواسع وأخرج من جعبة مهلهلة رغيفاً أسمر وبعضاً من نبات يؤكل، ودعا الشيخ وصاحبه دعوة الكريم، فتقدم الشيخ إلى الطعام وأشار على صاحبه العليل باتباعه، وأكلا من طعام العامل وشربا من مائه.
شعر العليل بنوع من الرغبة في الطعام لم يكن يشعر بها من قبل، وبدأ يفكر في أمر الحياة واختلاف جهد الناس فيها ونصيبهم منها، وأخذت تتسرب إلى فكره خواطر من شأنها أن تكسر حدة الطمع وتحقر النعيم المكتسب من وراء الذلة، خواطر تهدي الحياة الرضا والبساطة وطعم الحلال.
وكان ذلك يوم الشفاء، يوم اكتشف صاحبنا عدل الله في خلقه؛ راحة البال للفقير جزاء صبره، ومرارة العيش ووخز الضمير جزاء المتجبرين.