رجل الشمع

جاسم الصافي | العراق – أديب وإعلامي بقناة الفيحاء

قصة قصيرة

انت وحدك من يخسر , نداء ازلي يجر خلفه هزائم وخيبات لاتعد ولا تحصى , لا لست وحدك انت نصفهم الحر , الفضيحة التي لا تنسيهم ما كان بالأمس , جرح مهمل لا يداوى والم لا يزول , وحيدا انت في خيالك رغم فيض حشودهم , الا انهم فراغ في هذا الحضور اجساد جوفاء , تطفو في ذكرى لا تقيم وزنا للمكان فلا معنى لزمن اعطبه النسيان وتلاش الذكرى هي وحدها الزمن الحر والزمن الحقيقي الذي لا يعرف السكون زمن تمرد على الماضي فكان ضمير الحاضر الذي يتمنى لما كان ان لا يكون , لم يشعر بما حوله ولا بتلك الفتاة وهي تقترب منه على مهل لتكسر عزلته , كانت تدنو بحذر وهي تتساءل مع نفسها :

  • هل هذا رجل شمع

اجابها صوت غريب من داخلها , لا انه بقايا أنسان

تبسمت له وهي تمني النفس بالتقاط صورة تذكارية معه , كان في زيا كرديا وقيافته في تناسق لوني جميل , كارزما وجهه تعطيك شعور لا يمكن نسيانه ولا مجال لان تضيع فرصة حضوره في ذاكرتك , اقتربت منه اكثر… فاكثر , لم يحرك ساكنا ولم يرتد له طرف , كأنه كتلته جامدة منذ الازل تبحث لها عن مرسى لزمنا أضاعته , توطنت في قلبه كل الجراحات وصار بيت احزان لا يمكن الكشف عن اعمقها ولا أقدمها فكلها جراحات ندية بالألم , يصعب تقدير عمره الذي مر مسرعا وغادره على عجل , دون ان يوقفه أمل او يتعثر في ذيله حلم , تراكم عليه النسيان بأتربة العدم حتى تكلس بالعجز واصبح في تيه الذكريات ( يربي الامل ) وها هو عالق في زمن لا يدركه تصنم بالبلاهة مثل رجل شمع فالبلادة نعمة مفقودة , لهذا كان بين المارة نسيا منسيا اعتادوا على وجوده مثل اي شيء قديم ادخل خطأ وهو الان بانتظار من يصلح هذا الخطأ , لا أحد هنا يهين مزاجه الترف او يجرء على ايقاظ عزلة وتوحد روحه بالبعيد , لقد طلق هذا الجسد المعطوب واختار الخيال له مسرحا , تعطلت ايامه على حافة الاربعين وبقي عالقا بين الحلم والذكريات يجلس على قازوق الحنين , لا أحد يتذكر وجوده الان … الا من خلال عيون مشفقة  تصور لهم ما كان من ماضيه , كأنه امسك على  نذرا نذره مع نفسه , ان يهجر الحضور , وصيام ما تبقى من عمره هنا بغير عودة .

جلست الى قربه تلك الفتاة وعيناها تتحركان بمرح طفولي , بعدها طلبت من احد المارة ان يلتقط لهما صورة تذكارية , مع جسد ميت وبقي جثمان بلا دفن يسبح في موج الماضي كفنه الحنين ونعشه الذكريات فكان جسده مستفيق لينطق بالشهادة , بدت على وجهها ابتسامة غير محترمة من الرأفة والشفقة , لم تجيبها قسمات وجهه الغليظ بالوقار , ولم تقرر هي بعد كيف ستبدو معه في تلك الصورة واي وضع يناسب هذا الموقف الغريب , كانت حائرة في الاختيار حين تفاجأت بعابر السبيل وقد اخذ لهما لقطة مسرعة لم يبال بقيمة ما فعل فهو عابر سبيل وليس مصورا , لم تبدر منه اي ردة فعل وكانه الامر طبيعي ان يكون موجود هنا لفرجة السائحين , ملامحه ميتة رغم تورد نور الانتظار فيها , اوقف الياس اجفان العيون واضاع ملامح ابتسامة تنبت براعمها فوق الشفاه بالأمل , طلبت الفتاة من صاحب المقهى فنجان شاي بقصد الاستفسار واستدراجه ليحكي لها عن سر ذلك الرجل الشمعي , جاءها بعد فترة قصيرة فنجان الشاي , انتقل بصرها بحركة بطيئة نصف دائرية من صاحب المقهى الى رجل الشمع , وبإيماءة واضحة من راسها لصاحب المقهى تعبيرا عن حيرتها واستفسارها عن ذلك الرجل , لكن صاحب المقهى تبسم لفضولها الزائد , تجاهل ذلك وتركها تحترق في حيرتها , وراح يشغل يديه في غسل الصحون والفناجين , شربت فنجان الشاي ثم اخرجت ورقة نقدية وهي تقترب من صاحب المقهى لدفع الحساب , رفض الأخير أخذ الحساب وأعطى لها صحيفة قديمة , في صفحتها الأولى ما نشيت عريض كتب فيه ( رجل من سنجار يبحث عن عائلته اربع بنات وزوجه ) وتحته هذا العنوان كانت صورة لرجل الشمع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى