ملائكة الطين في فلورنسا
تحقيق قامت به: عبير السيد | إيطاليا
المكان : مدينة فلورنسا 1966 بايطاليا
نحن الآن أمام نموذج فريد للتعاون والوقوف يدا واحدة لمواجهة واحدة من أسوأ الكوارث الطبيعية التي مرت بها مدينة فلورنسا, ففي صباح يوم 4 نوفمبر ضرب فيضان هائل المدينة وانفتحت عيون السماء عن أمطار لا تتوقف وزادت درجة حرارة الجو كارثية الوضع، انصهر الجليد فوق الجبال المحيطة وامتلاء النهر وفاض، ملقيا بكم هائل من الماء والطمي على المدينة، واستيقظ السكان بل إيطاليا كلها على الكارثة، عزلة تامة للمدينة، الماء و الطين يملاءان الساحات والكنائس مهددا الإرث الثقافي الهائل للمدينة وبخاصة المكتبة الوطنية، وملايين الكتب والابحاث المجلدات والإطروحات الثمينة والكاتالوجات المخزنة والتي تبلغ ستة ملاين ملف إلى جانب الكنائس والتماثيل والتحف النادرة خطر كبير يحلق بالمدينة التاريخية.
نحن هنا بصدد مكتبة فلورنسا العريقة
واحدة من أهم مكتبات إيطاليا بل أوروبا حيث تحتوي علي الملايين من الكتب والمخطوطات النادرة وضعت نواتها الأولى في عام 1714 على يد انطونيو ماجلياتشي حيث أهدي مكتبته الخاصة كاملة و التي تتضمن 30 ألف كتاب للمنفعة العامة ووضعهم تحت تصرف المدينة وتم وضعهم أولا في مكان يستعمل للعرض المسرحي، ثم انضم إليها بعد ذلك مكتبات أخرى لتزداد أعداد الكتب والمخطوطات بعد ان اوصى دوق فلورنسا بان توضع القاعة الكبري للميديشي في خدمة المكتبة وأن تفتح أبوابها للعامة وأتحدت عن مكتبات أخرى هامة مثل ميديشي ولوراننيه وكانت توضع نسخة من أي كتاب يتم طبعة بإيطاليا دخل أرشيف المكتبة
تم بعد ذلك اختيار المنطقة المجاورة لكنيسة سانتا كروشي لنقل المكتبة منذ عام 1911 وانتهت في عام 1935 وهو مبني رائع من أندر المباني المعمارية، لكن موقعه بين الكنيسة ونهر أرنو العتيق قد ثبت خطأه فيما بعد عندما تعرضت المدينة للفيضانات في عام 1966 وأصبحت المكتبة رمزا حزينا في العالم فقد لحقت أضرار كبيرة بالتراث الثقافي للمدينة، وغمر الماء الجزء الداخلي من المبنى بالكامل حتى ارتفاع 6 امتار وخاصة مجموعة ماجلياشيني الثمينة إلى جانب ملايين الكتب والمخطوطات والتي تم إنقاذها “جزئيا من قبل” ملائكة الطين.
الزائر للمكتبة الوطنية بمدينة فلورنسا يمكنه أن يلاحظ على المدخل لوحة قديمة ذكر بها فضل ملائكة الطين وهم ذلك الكم الهائل من المتطوعين الذين أتوا من كل مدن إيطاليا ومن جميع أنحاء العالم من أمريكا وانجلترا وألمانيا وغيرها من البلدان التي أرسلت الدعم لإنقاذ المكتبة.
و في ظروف سيئة انقطعت الكهرباء عن المدينة،قام العمل العشوائي تحت أخطار الفيضان و انهيار الجسور، إلى جانب برد نوفمبر القارس إلى أن تم استيعاب مدى خطورة ضياع الإرث الثقافي والفني للمدينة.
الوضع كان قاتما وأكثر من كارثي، فقد غطى الماء و الطين فلورنسا وضواحيها بصورة محزنة، وبدأ التعامل فورا لوضع حلول لمواجهة الكارثة وإنقاذ المكتبة في عملية غير مسبوقة للإنقاذ وإنشاء أكبر مركز ترميم في العالم.
كان الهدف الأول حماية الكتب والوثائق من التعفن عن طريق خطوات أولية منها: استخراج أطنان الكتب من الطين ونقلها إلى أماكن آمنة والتجفيف عن طريق استعمال نشارة الخشب ومسحوق التلك ولب الورق والتجفيف في الهواء العادي ثم ترحيل الأوراق إلى الأماكن الفارغة والأفران والحانات للتجفيف رغم صعوبة التنفيذ بسبب نقص المعدات والكهرباء.
ارسل المتحف البريطاني الفنييون للتعاون مع الإيطاليين، فتحت مختبرات للترميم، فكان تحميل المجلدات على الشاحنات إلى مناطق التجفيف بعد تنظيف الأوراق من الطين وتصويرها وعمل فهارس بالكتب التالفه إلى جانب وضع تشخيص أولي لكل مجلد من خلال رموز معينة طبقا لحالة الكتاب وإن كان بحاجة لاستبدال المجلدات التالفة بأخرى ثم الترقيع و الخياطة والتجليد وتوجد في المكتبة إحصاءات بالمجموعات التي تم إنقاذها وإعادتها إلى الأرفف بسلام .
تقول إحدى شهود العيان: مانويلا سينابو كانت الكهرباء مقطوعة والمياة قد غمرت كل شيء وكان الجميع يعمل علي ضوء الشموع لرؤية الكتب، والطلاب الذين حضروا في البرد القارس مغمرون بالماء المرتفع لعمل جسر يمررون الكتب بينهم لنقلها إلى أماكن آمنة وكانوا يعرضون حياتهم للخطر الشديد بسبب البرد وتلوث المياة التي بدات تحمل جثث الحيوانات الميتة من المزارع القريبة ومع هذا استمر العمل للحفاظ على المتاحف والكنائس والمكتبات ومحلات الأشغال اليديوية .
من شهود العيان أيضا الصديق “السيندرو لاسروا ” صحفي وكاتب فيورنتيني يقول: بدا التضامن لإنقاذ المكتبة و عمل إحصائيات بجيش المتطوعين الذين انهمكوا في العمل مع إعطائهم تطعيمات ضد الأمراض، إلى جانب متابعتهم والتأكد من عودة المجلدات إلى أماكنها بعد الانتهاء من ترميمها ومازالت فلورنسا تحمل بين جنباتها تلك العلامات والمقاييس المنقوسشة على الحوائط لتشير إلى أماكن وصول الماء، لتذكرة العالم بهذه الملحمة وكيفية تجنبها في المستقبل مع وضع خطه بالمواد المستخدمة والتعرف على أحدث التقنيات الدقيقة للتدخل في حالة الكوارث والطوارئ مع تطوير طرق الترميم والمعالجة.
تتمتع فلورنسا بتاريخ طويل بين الفن والآدب فمن يعيش بها لا يملك إلا أن يقع اسيرا بين أحجارها حيث رائحة “جوتو, لوكا سينيورللي, بوتتشيللي, رفائيللو، ومايكل انجلو, وليوناردو دافينشي ودانتي الجيري، وبوكاتشو ، والسندرو مانزوني وغيرهم “.