سماء وسبعة بحور.. في البلدة العتيقة يجري إنتاج الثقافة المكافحة
سعيد مضيه | فلسطين
ناجي الناجي يكتب سيرة حياته مستظلا بقضيته الوطنية . يتعمق قليلا في الماضي، بداية نضوج الأنياب الافتراسية للحركة الصهونية، حيث يلمّح لمنبته الاجتماعي. خلال تأمله في الماضي يلملم الروائي الفلسطيني معالم تراجيديا شعبه المشتت. في فصول سرَد بلغة الغائب. من ذكريات التنقل مع الوالد والأسرة فصلٌ عن زيارة الى صوفيا عام 1988. في هذا العام أخذت تتساقط الدول التي ادعت الاشتراكية ومنها بلغاريا وصلت الوالد مهاتفة من صديقه عامر يدعوه لحضور ندوة تضامن . لم يتحمس الوالد للحضور: “لم أقل اني غير مقتنع، بل أقول إنها كرش الماءعلى جواد ظمآن، ضرورية لكنها لا تغني عن ريّه”. وصلوا وقد بدات الندوة وصوت الخطيب يصخب . شاهد زياد صبيا مجايلا يبدي سخرية من كلام الخطيب. شارك زياد ملله ، وعرف انه ابن ذلك الخطيب: “لاعليك هو رجل طيب وودود لكنه يكون بهذا الأداء فقط عندما يأتي الى هنا” . الصبي وجيله يتمردون على جيل الآباء؛ النظام البائس في بلغاريا مسح ذكرى جورجي ديمتروف المناضل الشيوعي الشجاع، الذي هزم النازيين في محكمتهم ببرلين! للجيل الجديد طقوسه يمارسها “تقليدا اسمه النيستيناري، في الماضي كانوا يعتقدون انه يطهر الأرواح من الشر والأذى… عند الغروب يسيرون على الجمر… الآن أصبحنا نحتفي به كل عام..”. انفضاض الجيل الفتي نذير الانهيار العظيم!
وتحط به الترحالات عام 1990 في تونس ، بلد الياسمين. زياد يركل الطابة فتصدم رأس فتى يجلس مع فتيان وفتيات . يندلق الشراب من كأس كان يمسك بها . ضحك الجمع وغضب الفتى ونهض يُسمِع زيادا كلمات نابية لم يفهمها زياد، لكن تبينها من ذهول الفتيات . تدخلت سماح و زملاء الفتى .. تحول الخصام الى صد اقه … إذ عرف الفريق انه فلسطيني ،” في ثوان كان زياد محور حديث المجموعة، يوجهون له السؤال لالتقاط اللكنة..”.
مع أطفال زملاء في مدرسة من اللاجئين الفلسطينيين الذين القت بهم المنافي على شواطئ تونس، “بعدت جغرافيا فلسطين …لكن البلاد لم تغب، بقيت حاضرة في ملصقات الشباب ومطبوعات قمصانهم، في مجسمات خشبية صُقلت على حدود خارطة تلتحف علما وكوفية .
في ساحة المدرسة خطف المكبر استاذ مختار ، مدرس الجغرافيا: “تم قصف تل ابيب بعشرين صاروخ سكود”. عم الهتاف أرجاء المدرسة ، سيما الصفوف الابتدائية ، في أذنه مباشرة همست فداء التي تقف خلفه في الطابور: لماذا لا تحتفل ؟ لنفس السبب الذي لا يجعلك تحتفلين. ضحكت : انا لا أصدق أستاذ مختار ، فهو كاذب من راسه حتى اخمص قدميه، وانت ما هو سببك؟
– تقريبا للسبب ذاته.
قالت سماح :” سمعت متحدثا يقول انكم عائدون “. ابتسم . ” نعم يقولون ذلك منذ سنوات … ذمة نشرات الأخبار مثل ذمة الأستاذ مختار! “
وفي العام 2000 تطأ قدم زياد ، كما يبدو، للمرة الأولى أرض مصر؛ يحل زياد ضيفا على صديقه طارق بجامعة القاهرة. وطارق” يمارس اللامعقول بتلقائية شديدة ، فالأمور معه تسير بيسر يشكك المرءَ في ماهية المنطقي والمستحيل في بلاد لا تعترف بحدود، يجرش اكبر كارثة بطرفة يستدعي تلقيها حصافة وفطنة ورصيدا من الخيال والأغنيات.
“السخرية يا صديقي هي سلاح قليلي الحيلة ، حشيش الفقراء ومخدر المهمشين ، هي ما يهون الطرائق والبلايا ، ويصيّر الشدائد هباءً… السخرية تراكم أنينا لا أحد يعلم وقت بوحه”.
أخذ طارق صديقه الى “مصر التي لا يعرف أسرارها سوى من نما من طينها ، تلك الأرض التي سكانها شجر يثمر ويظلل ، لم يُرِه نجوم أغلفة المجلات بل السكان الأصليين الذين لم تقو المحاكاة على مجاراة تجعيدة في جبين عجوزهم ، او التماعة سن ذهبية في في فم كادحهم ، او نكتة فبسمة دلال على شفتي أميرته…!!”
كثيرا ما “تدخّل طارق لفض إشكالات زياد المنهمك في الشرح والتحليل ونفض الغبار عن التاريخ المضلِّل والمضلَل… ‘لا ترهق نفسك ، من لا يعلم حكايتك لا يعلم حكايتي’..” حقا فجذور مكابدة الفلسطيني هي جذور مكابدة العربي داخل حدود الوطن المترامي والمتهالك تحت وطأة الأنظمة الأبوية التابعة.. وقد تكون سطوة التابع أشد إيلاما.
يتجولان ويعودان الى الجامعة … هناك تهيأت المظاهرة ” وحناجر كل الرفاق – عدا أحدهم- تصدح هدارة:
” حنرددها جيل ورا جيل تسقط تسقط إسرائيل … يا فلسطيني يا فلسطيني أرضك ارضي ودينك ديني… يا جنين يا جنين نحن معاك ليوم حطين..”. يشد زياد طارق من كوفيته : هل يعرف رفاقك جنين ؟! شرب الرفاق من ذات النهر ، الا تذكر؟!” بديهة حاضرة تختزل .
///
تقصى الباحث حتى دخائل النفسية الاجتماعية للشعب المحتل؛ يريد تضمين خطابه وقائع متعينة كي لا تستمر حكاياته اكاذيب وتلفيقات. يمهد باعتراف صريح: “ما اكذبني ..؟!!! ما أكذبني ؟!!!” . أخجل من غربتي القسرية التي أدت الى أن أتحدث عن البلاد كما يتحدث مناديب شركات السياحة عن بلاد لم تطأها أقدامهم!”.. وكل إجاباته “ما هي إلآ تراكم سماع أحاديث الكبار والصغار”، وبذا فهو تواق للاطلاع المباشر وفحص معلوماته المتراكمة عن طريق السماع على محك الواقع . كانه بهذا السرد يوجه المشورة لكل من يعمل في ميدان الثقافة والتثقيف أن يرد النبع، ولا ينأى عن الواقع والموضوعية !
في بحثه المتقصي يعود لنا الروائي بحمولات لا تقتصر على جرائم إسرائيل المباشرة ، بل تشمل أيضا الضغوط على الروح الفلسطينية تحت وطأة “اكبر سجن على الأرض” حسب تعريف إيلان بابه، سجن رهيب حشر الشعب الفلسطيني داخله محروما من الحقوق الإنسانية!
خيبة مع اول زيارة – الى بيروقراطية- تدير الظهر للواقع ، بدأ جولاته في صباح اليوم التالي لوصوله. … دخل مكتبه وكان يطلق ضحكة مصطنعة. رحب بي “بمفردات مبالغة”، يجلس خلف مكتبه المطل على سفح جبل …و مستوطنة من “كثرة ما تسمم بدني رؤيتها ، نقلْتُ المكتب وجعلتها خلفي”. أدار الظهر واستمرت المستوطنة في البقاء!! الرجل يدخن السجائر الإليكترونية “احببتها لأنها تسد حاجة الراس مع اختيار النكهة المحببة، ادلع نفسي كثيرا ، يوم بالبطيخ، يوم بالفراولة، يوم بالنعنع، تصور حتى ‘المارشملو’ صنّعوا منه نكهة؟!!”
“عدلت جلستي وتجاوزت تنظيراته، تحدث عن حلمين يراودانه : الأول “حلم كل لاجئ بأن يتيقن مما يسمعه خارج الوطن .. خارطة الوطن ليست سرابا. .. والثوب المطرز هو زي الأمهات والجدات، وأن الزعتر لسد الرمق لا للحنين ، وأن الميرمية علاج لا نوستالجيا”.
الحلم الثاني وردده في كل لقاء : باختصار تجميع إبداعات شابات وشبان عن حيواتهم كي تروج بالخارج. الاستجابة جاءت مخيبة؛ بعد ذلك التقى نخبا مطلعين وفي مراكز عليا لم يلبوا رغبته، علما ان معهدا متخصصا موجود غير بعيد؛ لكن في البلدة القديمة ، التي لا تطأها أقدام ذوي الشأن والنفوذ!! فرضية غائبة.. رعاية الإبداعات وتعهد عناصر الصمود وتوحيدها وتنظيمها وإخضاعها لإدارة عانية .
شارفت رحلة التقصي على الانتهاء.. في جلسة تناول القهوة مع أصدقاء.. هبط فجاة ، الشاعر زكي ، الجاد والعملي ونقدي التفكير .. هاوي “الاشتباك عبر القصيدة والنص والمقالة… فضّل العديد شطبه من حيواتهم طلبا للسلام النفسي”. خاصية أخرى للركود.. نفور من النقد ومن الاختلاف، هدوء الموات يحالط الحياة الاجتماعية رغم التحديات الجسام!
سأل زكي: “أتابعتم أخبار اليوم؟…. اليوم كارثة جديدة، غرق مركب كامل امام ساحل جزيرة كوس يقل مهاجرين من مخيم اليرموك. الحديث يدور حول أربعين غريقا ومفقودا…
“انتفضتُ على حين غرة… اتصلت بزوجتي وطلبت منها متابعة الخبرعلى الإنترنت وتزويدي بالأسماء حال نشرها .” لاحظ مجالسوه اضطرابه وتساءلوا إن بقي أقارب له بالمخيم. الاهتمام والقلق مقتصران على الأهل !!
…” كنت آمل الحصول على نصوص لفتية وفتيات لأستطيع نشرها وتوزيعها.. بحثنا في كل مكان ولم نفلح. .
“حدق زكي في فنجان قهوته قبل ان يحتسي ما به رشفة واحدة… نهض مستحثا إياي. قم …مشوار صغير. وصلنا بعد دقائق من التنقل بالسيارة، ترجلنا في أحد أحياء رام الله القديمة. بدراية تامة تنقل زكي بين الأزقة… وقف امام بيت حجري قديم. هل سمعت بهذا المكان من قبل ؟ دخلنا البيت… اعرّفك على الشاعرة هالة، أردف بلهجة خبيثة : يبحث عن نصوص لفتية وفتيات ، جال العديد من المدائن في البلاد ولم يجد!
“أخرجت هالة كتبا وجرائد وملصقات كثيرة ، وشرحت بإسهاب حول ورشات الكتابة الإبداعية للكبار والصغار، وكتب عديدة للأطفال… قلبتُ بعض ما ناولتني، وتفحصت سريعا الكتب. أدهشني مستوى ما قرأت، وتنوع جغرافيا الكتاب وذويهم…قدمت لي نحو عشرين كتابا من أعمال المؤسسة ، أكثر من نصفهم بأقلام يافعين…
“خرجنا من الباب فشدني زكي مجددا : مشوار آخر… سرنا لدقائق بين الحارات الضيقة حتى وصلنا بوابة معدنية لبيت حجري قديم. بالمبنى الشاب رمزي اشتهر في الانتفاضة الأولى عازف كمان ، تدرب على آلات عدة ووصل فرنسا وعاد يعلم الأطفال .
” صعدنا الى الطابق العلوي حيث مصدر عزف اوركسترالي به حوالي اربعين فتى وفتاة أمام مايسترو ثلاثيني… يتغلغل صوت كل آلة بين الجموع كخيط غرزة في ثوب مطرز. اومأ المايسترو بطرف عينه وواصل قيادة العزف…
خرجا، و”سألت زكي: الديك إمكانية الاتصال الدولي؟ نعم ، أثمة أمر ضروري؟ اتصلت بأمي في القاهرة :
” أتذكرين يحيى؟ – من يحيى ؟ -جارنا في اليرموك..
“آه نعم أذكره.
“أتذكرين اسمه كاملا ؟
“لا لا ، بلى ابوه كان مدرس اللغة العربية في مدرسة الأونروا، كان اسمه اسماعيل وهم من عائلة العلمي.
“تفحصْتُ مجددا القائمة على هاتفي. يحيى اسماعيل عبد الرحيم العلمي.
“وجمت، ولم أسمع حديث زكي المنهمك في الشرح والتحليل.
” قال زكي كان من الممكن ايجاد ضالتك بعناء اقل كثيرا مما بذلت…!! أطرقت مجددا.”
///
في باب العامود.. بعد المرور بالأقصى وكنيسة القيامة ..”رن هاتفي، حماتي تتصل ويأـي صوتها عميقا هامسا: وددت إخبارك بشيء. هل تعلم ان بينك وبين يافا ساعة إلا ربع بالضبط؟ من القدس الى يافا لاحواجز.. على فكره، لكن إن طلب أحد تصريحك وعلم أنه لا يشمل الداخل قد يسبب الأمر لك إشكالا كبيرا ، الحبس او ألإلقاء على أول حاجز للضفة، وربما مضايقة مرافقتك وتعطيل التصريح فيما بعد.
بعد تمنع وتعداد العقبات والمخاطر رضخت سلمى للإصرار . طلبت من سائق نقلهما الى يافا والبقاء معهما طوال الرحلة. “أعلمْتُه أننا لا نود السير في طرق يكون بها استعلام أو تحقق من الهويات ، بدا انه معتاد على الأمر.” سألوه عن اسمه وأجاب سهيل او أبونظمي . بعد ان عرج بهم على العباسية واصلت السيارة الطريق الى يافا. سالَت سلمى: أيوجد مكان محدد تود زيارته؟
” نعم العجمي والمنشية وكذلك اود رؤية سينما أبو اللو والحمراء ومسرح يافا ، ايضا كنيسة القديس بطرس، وطبعا البحر والميناء والبلد القديمة..”
نظر سهيل الى ساعة السيارة: للأسف الوقت داهمنا ، وعلينا ان نعادر خلال ساعة على الأكثر!!!” لم تكن يافا في التاريخ كغيرها من المدائن، بل شكّل اسمها منارة حضارية حقيقية لا في فلسطين فحسب بل في المنطقة ككل. بها صناعات وعلامة ‘جافا’ التجارية للبرتقال المصدرالى العالم…وهي مركز إشعاع ثقافي صدر بها اربعون صحيفة ومجلة، وبها مطابع، وفيها انطلقت إذاعة الشرق الأدنى وبرز منها موسيقيون وحضر اليها من مصر الممثلون والمفكرون والشعراء.
” جُلْت بعيني يمينا ويسارا ، قالت سلمى : يؤرق بصرك تلك المباني الشاهقة الحديثة؟
“لا اراها .
“كف عن الرومانسية!
اقسم انني لا اراها ، المشهد هنا طارد لزوائده… أرى البحر والحجر…. كل حجر هنا قلعة ، وكل حرف ضاد مِعْول، ما تبقى من بشر ومبان ، من بيوت وجوامع وكنائس وأديرة ، من مسارح وأبراج ، من سير وحكايات من أطباق الحمص وروائح الفلافل ، من سلالات الأسماك الوافدة والمهاجرة ، كل ما كان هنا قبل الطوفان هو شاهد وحكم سيدلي بما لديه في زمن ما..
سالمس البحر .. خلعت حذائي ورفعت بنطالي ، مسست رمل الشاطئ واقتعدته: انا ابن صاحب البحر ، اتيتك من حيث غادرك..