العصيان
يكتبها: محمد فيض خالد
ما إن تخط الشّمس بصمتها فوقَ أديمِ الأرض الرّمادي ، فتلوّنه بصُفرتها ، تتلألأ أشجار الكافور بحلةٍ ذهبيةٍ زاهيةٍ ، حتّى تدبّ الحَركة بينَ جَنباتِ الغيطان ، تختلط وقتئذٍ أصوات عائلة ” أبو العجول ” شيبا وشبانا كُلّ في فلكٍ يسبحون، يعقل وليدهم فنون الحياة مُبكِّرا ، فلا يجد أوان ذاكَ إلا البساط الأخضر ليحتويه، تتداخل ذراته خليطا يسري في دمهِ يُغلِّف كيانه حَانيا مُحتضنا ، عشرات الأسئلة تستفز عقول من حولهم تستجلي السّبب ، ما الذي يربط هؤلاء البشر كُلّ هذا الارتباط بالطبيعةِ ، حتى إجابة ” حسين الدكش” لم تغني شيئا :” إن هؤلاء سلالة رجلٍ ولدته أمه بين عيدانِ الذرة ” ، يراها البعض دعايةً في غيرِ محلها ، لا تثير نظرات الناس حفيظتهم في شيءٍ ، لم يجدوا فيها إلّا ما يجد الخبير بالدُّنيا المُتمرّس بآفاتها ، من استبدلَ بفراغهِ شُغلا ، وببهجتهِ أُنسا ، هناك وسط الحقولِ اليانعة ، تحت سقفِ ” الخُصّ” الذي ابتناه جدهم تدورُ رَحى الحياة في شرنقةٍ من الهُدوءِ السّادر ، تُمدّ الموائد عامرة بصنوفِ الزّاد، تتعاقب الأيدي تغبّ كؤوس الشّاي المطبوخ لذةً ونعيما، تهبُّ نسماتها المُسكرة نشوة للشاربين، وبلسما لمن وَجدَ في نفسهِ الجرأة من الجيرانِ ، لأن يُغَامر فيقتحم هذا العالم ، الذي ضُرِبَ عليهِ بسورٍ باطنه الرحمة وظاهره من قِبلهِ العذاب ، يتحاكى النّاسُ عن بُخلِ القوم المُفرط ، يتغنّى ” متولي شحاته” خفير الإصلاح حينَ يلعق طرف لسانه ، تتماوج مشاعره في صراخٍ ملتاع :” دول متخرش الميه من بين صوابعهم بخله تقلش يهود ” ، لم تكن لتعنيهم تلك النّعوت الفارغة، طالما جعلتهم في منأى عن جشعِ النّاس ، تجلّل وجه كبيرهم ” مفتاح أبو العجول ” غاشية من الفكرِ وهو يخلّل بينَ أسنانهِ :” الناس لو طالوك أكلوا مصارينك” ، هو أحد أولئكَ الذين عرفوا الحقل في صباهم الغَضّ ، تتراقص أمانيه في عينيهِ وهو يمسح ظهرَ عجله ” الطلوقة” يُحدِّثه كأخٍ شفيق:” يا حبيبي يا خويا” يذيعها بلا غضاضةٍ ، يتأفف حماه بنبرةٍ تخنقها عبرة ، يُكسِّر طرفه خجلا لمقالتهِ ، أصبحَ ثاني اثنين ثراءً في القرية غير أن بخله يتحاكى بهِ الرُّكبان ، قالوا :” إنّه لا يرجع من حقلهِ إلّا مع ظلمةِ الشّفق الرّمادية ، حين تمتلئ بطنه من خشاش الأرض “، توالت أجيال تنهب الأرض كدّا وسعيا ، تجوب البلاء طولا وعرضا ، لكنهم لم ينسوا أنّهم أبناء ” الملقة” الأوفياء ، عَادَ ” مصطفى أبو العجول ” من سفرهِ الطويل ، بعد عمرٍ قضاه في إحدى دول النفّط الكُبرى ، وما إن وطأت قدمه عتبة الدار ؛ حتى هرَولَ مُسرِّعا جهة الغيط ، طَافَ بالخُصِّ مُلبّيا ، امسك يد ” طولمبة ” المياه يشرب من ماءها شرب الهيم،افترشَ الأرض يداعب الحصى ، تنهّد من قلبٍ مقروح ، يقتلع نفسه من طيفِ الذّكرياتِ ، مُصفرّ الوجه زائعَ العينين ، همسَ بصوتٍ خافتٍ ملتاع:” الله يرحمك يا بويا مفتاح ” عَاد يلقن أبنائه فصولا مَن كتابِ الذّكرى ، ونتفا من مسيرة ” مفتاح أبو العجول ” زامت زوجته الحسناء ابنة البندر زومة الحانق ، تبدي امتعاضا لكلام الأخرق الأبله ، اعتدلت في جلستها تقول في تهكم:” رحم الله أبو العجول ، نحن أبناء اليوم يا حبيبي” ، هي الوحيدة التي حطّمت نواميس العائلة ، وتجاوزت بشجاعةٍ سياج اعرافها ، يحسدها بنات العائلة اللاتي قبعن سجينات ،على استحياء ٍ تبدي ” خديجة البيضة ” تمردها :” عائلتنا الوحيدة التي لا تورث البنات ، سامحهم الله “، في ابتسامة يخالطها المرار تُؤمّن اختها ” نفيسة “على كلامها .
كرّت الأيام تحمل في جوفها المفاجآت ، دفنت الكثير من عادات العائلة ، اعلنت الأجيال الشابة عصيانها صراحة ، ابتلعت كتل الخرسانة المسلحة ” الخُصّ” وحوض ” الطولمبة” وشيئا فشيئا بهتت حكايات ” أبو العجول” من ذاكرة الناس ، فأصبحت نسيا منسيا.