الرسالة السامية

 

طاهر العلواني | مصر

ماذا عليك إذا ألقيت سمعَك للنقل والخبر، واتّبعتَ آثار مَن قضى نَحبَه مَمّن غَبَر، وأوردتَ عقلَك على فيض حياضِهم، ونزّهتَ روحَك في أفنية رياضِهم؟! فلتجدنّ الجِلدَ من ريحها باردا، والنفسَ بنسماتِها رَطبة، واللسانَ في رحابِها منطلقا، والقلمَ من مدادِها جاريا، فقد بيّضوا وجوها كانت مسودّة، وفتّحوا عقولا كانت منسدّة، ولن تجدَ عندهم إلا السبيلَ إلى الخير، والرغبةَ في المعروف، والعطاءَ على السَّعَة، والمواساةَ إلى الكَفاف، وإذا أسرعتَ إليهم لم يُبطِئوا عنك، فتُصيبُ مَليحَ الألفاظ بحسام سريجي، وترمي بالمعاني عن قوس عُطل، فعند الكرام تجدُ خيرَ نائل، وتُكفى معرّة السائل، دونَ عُبوس المُكرَه، ومنّة المُبغِض، وإذا طلبتَ بهم الخيرَ وجدتَ أعلاه وكُفِيتَه، وإذا اتقيتَ بهم الشرَّ تخيّرتَ الأجدرَ بأنْ يُفِيتَه، فإنهم أعلم الخلق بربهم، وأخشاهم له، وأقومهم بطاعته، وأبعدهم عن معصيته، ذللوا السبلَ بكل ممهدٍ حتى عفَتْ مزالُّ الأقدام، وأناروا شموس المعارف وقد حالت دونها حُجُبٌ تنقطع من أدناها طامحاتُ العقول، ألا ترى أن اللهَ خلقَ لرسالته صفوةً، ثم جعل هؤلاء العلماء أمناءَ على وحيه، حُفّاظًا للرسالات بعد أنبيائه؟ فكانوا المصطفَين بعدهم، تناسختهم كرامُ الأصلاب إلى طاهراتِ الأرحام، فأنَسْ عندهم بالحق وصفوته عن وحشة الباطل وكدره.

هم القوم سبق معروفُهم إليك قبل طلبك إياه، فأتاك والعرضُ وافر، والوجهُ بمائه، فوالله لقد كادَ الإحسانُ يكونُهم، لولا ما تمّ منهم وما نقص منه، ورُبّ يومٍ سِرتَه إليهم حتى قبض الليلُ البصرَ وأذهبَه، خيرٌ لك مما طلعتْ عليه الشمسُ فارتدّ بصيرا.

وتَوَقَّ أن تكونَ كمن أنبته العلمُ، وحصدَه سوء الأدب؛ فإن المحسنَ راجٍ والمسيءَ خائف، وإنما فؤادُك بحرٌ، ما ألقمتَه التقمَ، ولتصمَّ أذناك دون سماع الخنا فيهم، ولينحبس لسانُك دون التكلم به، فذاك قرينُ لؤم ونذيرُ شؤم، لا يبخلُ عنك بالمعرّة ما جُدْتَ عليهم بالسوء.

أهِن نفسك عندهم وإن كنت كريما في قومك، ولا تبقِ لغدٍ عملا ما استطعته في يومك، فخُذْ من ساعة نشاطك لوقت كسلك ومن فرخِ روعك لاشتغال بالك؛ تجد رونقًا عند الاستماع، وحلاوة في القلب، وسلامة من الفُحش، والمنطقَ الشريفَ، والمعانيَ البسيطة، فذاك أقومُ لتصريفها وترصيفها، وأحكَمُ لتأليفها وتركيبها، وأبهى لانتقائها وتهذيبها، وأسلمُ من التعقيدِ الذي يستهلك المعاني، فيعود شريفُها وضيعا، ويشينُ الألفاظ حتى تهوي إلى بئر معطلة لا وارد لها ولا صادر عنها، فلا يكونُ أحدٌ يفضلُك ولا أحد تنزل إليه؛ فأنت مطّرَح في أمرك كله; يدَعُ الناسُ المبالاة بما تقول وتفعل؛ إذ بخلت عند لسانك أعالي الألفاظ، وشحّت في عقلك كرام المعاني، ولو كنت إلى حاتم تُنسب، أو ابن أبي صفرة المهلّب، بل اختر من لفظك الأولى بتمجيده وتقديسه، ولينطلق معناه في بحبوحة من فراديسِه; فإن فعلتَ أبهيتَ حُلّتَكَ إزارَها ورداءَها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى