ضلالة هداية (١٨)

رضا راشد | الأزهر الشريف

بون شاسع بين استدلال العلماء؛ بحثا عن الحق في طوايا النصوص وخبايا الأدلة، واستدلال أصحاب الأهواء؛ تحقيقا لأهدافهم. خطأ في المنهج يستلزم حتما خطايا في النتيجة:فالعالم الحق يستشعر في نفسه كونه مُوَقِّعا عن رب العالمين في كلامه، فلا يزال الصدق منهجه، والحق قبلته، والشرع بغيته؛ لهذا لا يألو جهدا في استقصاء كل نص صحيح ورد في المسألة التي يبحث عنها، حريصا كل الحرص على أن لا يَنِدَّ عنه شيء منها، ثم لا يزال يرجع النظر في الأدلة: كرة بعد كرة، نظرا مجردا من شوائب الهوى، منقادا للدليل إلى ما يقوده إليه دون تأبٍّ أو جماح؛ لأنهم يؤمنون أنه ” من اللازم لفهم السنة النبوية فهما صحيحا: أن تجمع الأحاديث الصحيحة للموضوع الواحد، بجيث يرد متشابهها إلى محكمها، ويحمل مطلقها على مقيدها، ويفسر عامها بخاصها، وبذلك يتضح المعنى المراد منها ولا يضرب بعضها ببعض “[كيف نتعامل مع السنة النبوية: معالم وضوابط، د/ يوسف القرضاوى١٠٣]، أما أهل الأهواء:فإنهم يحددون وجهتهم أولا أين تكون؟ ثم يجتلبون ما يجتلبون من الأدلة التي تذهب بهم إلى ما أرادوا، ويتغافلون عما يتغافلون من الأدلة التي تعاكسهم في أهوائهم؛ فلا غرو إذن أن تجد في كلامهم سوء الفهم وسوء القصد، باعتماد بعض النصوص دون بعض غافلين أو متغافلين عن أن “الاكتفاء بظاهر حديث واحد دون النظر في سائر الأحاديث وسائر النصوص المتعلقة بموضوعه كثيرا ما يوقع في الخطأ ويبعد عن جادة الصواب”.[المرجع السابق ص ١٠٨]

وهذا ما كان من محمد هداية: رأى الحديث المروي في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:” لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه”، فطار به فرحا؛ توهما أنه يخدمه في إنكاره للسنة، ونسي في غمرة الفرحة والنشوة التي انتابته أنه منكر للسنة، وأن مجرد استدلاله بالحديث إقرار منه بحجية الحديث إقرارا ينقض عليه أساس بنيان منهجه، فيخر عليهم سقفه من فوقه.. هذا إن عددنا محمد هداية مفكرا مجتهدا، وإلا فهو مقتفٍ أثرَ من قبله من القرآنيين حذو النعل بالنعل، فما يردد إلا ما لاكته ألسنتهم من قبل، وإن كان يحاول جاهدا أن يوهم أتباعه بغير ذلك.

ما علينا.. المهم أن محمد هداية في محاضرته بجامعة المنصورة استدل بالحديث السابق على إنكار السنة؛ بناءعلى ما توهمه (جهلا) أو أوهمه (هوى وسوء نية) من أنه الحديث الوحيد في هذا الباب، فلما راجعته إحدى الحاضرات في أن هناك أحاديث أخرى تفيد الإذن بكتابة السنة رد عليها مستهزئا قائلاٌ: “بتقولى ايه يا حاجة، مفيش الكلام ده ” هناك حديث واحد وهو ” بلغوا عنى ولو آية”.

ولقد كان بودنا أن نسلم للدكتور محمد هداية بما كان يتمنى – لا بما وجد – من ألا يكون هناك أحاديث أخرى صحيحة تعارض ما استدل به، لولا أن الحق يأبى علينا ذلك، والحق أحب إلينا منه بل لا مفاضلة أصاا إلا إذا كان أفعل التفضيل على غير بابه كما قال الشاعر: {فشىكما لخيركما الفداء}.

فبكل أسف، ثبت ثحة ما ادعته تلك السيدة (التي هي من العوام) وانتفى ما حاول أن يدعيه محمد هداية. فهناك أحاديث كثيرة صحيحة أذن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه بالكتابة .
(^) فقد روى أبو داود والحاكم وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال، قلت يا رسول الله: إني أسمع منك الشيء فأكتبه .قال: نعم .قلت: في الرضا والغضب ؟ قال: نعم؛ فإني لا أقول فيهما إلا حقا”.
(^) وروى البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال:”لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص؛ فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب.”
(^) وروى الشيخان أن رجلا من أهل اليمن اسمه أبو شاه سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لمكة عام الفتح، وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب له شيئا مما قال، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:” اكتبوا لأبي شاه”.
(^) كذلك من المعلوم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث بكتب إلى رؤساء الشعوب والعشائر يدعوهم فيها إلا الإسلام بعد فتح مكة وكان يختمها بخاتمه ..كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب لولاته وعماله كتبا بين لهم فيها بعض أحكام الزكاة .
إلى غير ذلك من الأحاديث.

التوفيق بين أحاديث النهي وأحاديث الإذن

تعارض ظاهر – كما ترى- بين الحديث الأول وما يفيده من النهي عن الكتابة والأحاديث الأخرى التي تفيد الإذن في الكتابة..فما العمل إذن ؟

إن أصحاب النفوس المريضة – في مثل هذه الحالات – يتسارعون في استغلال هذا التعارض في الظاهر؛ ذريعة لإنكار السنة كلها دون أن يكلفوا أنفسهم شيئا من معاناة تدبرها للجمع بينها، بما ينفي عنها تعارضها، مع أنهم هم أنفسهم ينتهجون هذا المنهج في تسويغ تناقضهم، فهذا هو محمد هداية يتخلط تخبطا شديدا في موقفه من الصلاة: يؤمن أولا بأنها خمس، ثم ينكر صلاة الظهر والعصر والمغرب مدعيا أن الصلاة المفروضة اثنتان فقط، ثم يتراجع فيعترف بأنها خمس ، ثم يتراجع عن تراجعه في أحدث ظهور له منذ أقل من شهر (في بث مباشر عبر تطبيق الزووم مع مذيعة تونسية من خلال قناة الفيروز التى تبث من شتوتجارت بألمانيا )فيعلن أنها اثنتان فقط ..ومع ذلك ما سمعنا أحدا من أتباعه يتوقف -ولو للحظة- أمام هذا التناقض الفج، بل التخبط، بل بالعكس يحاولون جاهدين تسويغه بأن العالم المجتهد من الطبيعي أن يخطئ!!

فهلا أنصفوا السنة من أنفسهم، فجمعوا بين هذه الأحاديث كلها؛ حتى يتسنى لهم استخلاص الحق من بين ثنايا النصوص؟! هيهات هيهات أن تجد إنصافا من صاحب هوى أو بدعة إلا إذا أثمر الشوك عنبا .

ما علينا منه هؤلاء مرة أخرى،فقد انكشفت سوءتهم، وظهر للقاصي قبل الداني عورتهم.

فماذا عن قول الموقعين عن رب العالمين من أهل الحق والعلم والصدق؟
لقد كانت لهم اجتهادات عدة في الجمع بين هذه الأحاديث.
(١) قالوا إن النهي كان أولا خشية اختلاط الحديث بالقرآن، ولا سيما مع تفشي الأمية وقلة ما كان لديهم من القرآن وقتئذ بما يخشى منه التباس القرآن بالحديث عند البعض..فلما نزل معظم القرآن وأُمِنَ على المسلمين اللبسُ بين أسلوبي القرآن والحديث ارتفع الحظر .فكأن النهي نسخ بالإذن .
قلت: ويعضد ذلك كون أحاديث الإذن كلها أو جلها مما كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم

(٢)ومنهم من قال: إن النهي كان خاصا بمن لا يؤمن عليه الخلط بين القرآن والحديث أما من أمن عليه ذلك فأذن له .

(٣) ومنهم من قال: إن النهي كان عن التدوين لا عن الكتابة. والفرق بينهما كبير.فالكتابة عمل فردي يقوم به المرء لنفسه استذكارا للحديث لا يضيع منه .أما التدوين فهو عمل رسمي تقوم به الجماعة أو الدولة من خلال مؤسساتها الرسمية ويشترك فيه الجميع ..أما الأول (وهو الكتابة) فقد كان ، وأما الثاني (وهو التدوين) فقد اقتصر في العهد الأول على القرآن الكريم..وتأخر في شأن السنة حتى آخر القرن الأول على يد عمر بن عبد العزيز عندما كلف الإمام الزهري بذلك .

هذا هو موقف العلماء الربانيين من هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض. فأما عن القرآنيين: فبعضهم -كمحمد هداية- أنكر هذه الأحاديث أصلا؛ وبعضهم اعترف بها وهم كارهون ثم وقفوا منها موقفين: الطعن فيها بعدم صحتها ، أو القول بأن أحاديث الإذن كانت اولا ثم نسحت بأخاديث النهي ..وفي كل تراهم يلقون الأقوال على عواهنها بلا تثبت ولا دليل .

بهذا انتهى بنا الكلام عن تفنيد إحدى شبهات إنكار السنة عند محمد هداية.. وإلى الملتقى مع تفنيد شبهة أخرى إن شاء الله
[ملحوظة
رجعت في ذكر أحاديث الإذن وبيان آراء العلماء في التوفيق بين أحاديث النهي والإذن إلى كتابي:
(السنة ومكانتها في التشريع للدكتور مصطفى السباعي)
(الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض للدكتور عبد العظيم المطعني) ]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى