قراءةٌ في مجموعة ” لملم حروفك ” للشاعر سعيد جاسم الزبيدي.. عتبات النصّ وبنية الترتيب
عباس أمير| ناقد من العراق
abbasameir@gmail.com
ولعل لملمة الشاعر حروفه أشدّ وطْأ من (لملمته أجزائه). وكلما استحنّه الشوق وجد نفسه يغادر (بيته الأول ذا سقف من جذوع)، فكل نصّ جديد بعثرةٌ أخرى لمشاعر الشاعر، وموضع من مواضع الشوق الذي يصعب عليه التخلّص منه إلا بنصّ جديد يعمل على لملمة ما أسهم الواقع في بعثرته وشتاته. وهكذا، تبدو غربة الشاعر دافعا حثيثا للبقاء والديمومة ومزيد من التجارب. وما بين الماضي والحاضر يجد الشاعر نفسه بين أن يتمسك بماضيه من جهة وأن لا يتخلى عن حاضره من جهة أخرى، فهو على حرفٍ، بين جرحٍ لم يندمل، وجرحٍ ما زال يُنكأ؛
تلفّتَ الجرحُ نحوَ الجرحِ يسألُهُ
أنَّى لثالثِ جُرْحٍ بين أجفاني
///
غدًا يُلَملِمُ أجزاءً مُبعثرةً
يُدْني عليها حياءً فضلَ أردانِ
وتتمكّن مشاعر الاغتراب من الشاعر حتى يبلغ مرتبة أن يجد نفسه غريبا عن نصّهنفسه، فضلا عن شعوره بالغربة من واقعه. فضرر الغربة لم يقف عند الشاعر بل تجاوزه إلى نصّه نفسِه؛
لم يَعُدْ حرفي سوى مجمَرةٍ
يصطلي فيها أحبَّائي وضيفي
///
إذْ أضرّتْ فيه ما أحسبهُ
غُربةً ما بين إجحافٍ وعَسْفِ
///
لوّنتْهُ ما محا صورتَهُ
باهتَ المعنى وتعقيدًا برصْفِ
ولعلّ في انصراف الجمهور عن الشاعر (السبعيني)، الذي يعاني غربة المكان والزمان والذات، ما يكشف عن مفصل جديد من مفاصل تلك الغربة على مستوى الانسجام مع الأنا الفردي، بعد الاستيئاس من الانسجام مع الأنا المجتمعي؛
لَمْلِمْ حروفك أيّها الرّجلُ
عمَّا قليلٍ سوف ترتحلُ
///
وَدَعْ هنا الأوراقَ ليسَ بها
إلّا خطوطٌ، ليتها جملُ
///
لم تلحظِ الجمهورَ منصرفًا
عمَّا بها، ما عاد يحتفلُ
///
لمْ يُستَفزّ لأَنَّةٍ صدرتْ
لمْ ينتفضْ لدماء من قُتِلُوا
وهنا، وبالاستعانة بالوقف على عناوين النصوص، (سلامًا لا وداعًا، كيف أرجع؟، الشمعة السبعون، هموم عربي مسافر، قيلولة الحرف، ردًّا على السبعين، ما وراء اضطرابي، حاصروني، حصارٌ ثانٍ، حصارٌ ثالث، على ضفاف الوداع، “قد كان”، أَأنتظر أم ينتظر، لمْلِم حروفك ثانيةً، ما أتركه بعدي)، تتكشف لنا المجموعة عن توَقان كلّ نصٍّ من تلك النصوص إلى غائب قريب ينازع ذات الشاعرقراره النفسي فيصرفه عن حاضره، ويعدل به إلى ماضيه بكل كينونته الزمانية والمكانية، فيضيق فضاء الحاضر وتُختَصَر عتبات نصوصه في قصائد الشاعر المهداة لأفراد عائلته.
وهكذا يبدو أن محرضات الشعرية في مجموعة (لملم حروفك) لا تقف عند الحنين إلى الماضي المفقود بل تتجاوزه إلى الخوف من فقدان الحاضر نفسه. والشاعر هاهنا على حرف، بين ماضٍ قضى وحاضر ما عاد يكفي لأكثر من (قيلولة حروف). وهو بين هذا وذاك (يلملم حروفه) مرّتين، وفي قصيدتين متعاقبتين تحملان العنوان نفسه، وعبر نوعين شعريين تعبيريين؛ الحرّ والعمودي. أما بقية النصوص فتدور في فلك هاتين القصيدتين، في الوقت الذي يمتدّ أثر القصيدتين إلى أربعة وستين نصًّا تشتمل عليها المجموعة، بواقع أربعة نصوص بعد نص (لملم حروفك ثانية)، وستين نصّا قبل نصّ (لملم حروفك). وفي هذا ما يكشف عن طرف الزمان الذي يتحسّسه الشاعر فيبدي به ترتيب النصوص وتسلسلها، وكأنها ردٌّ البنَى الشعرية ومعادلها الموضوعي أو منعكسها اللغوي على ترتيب عمره وتسلسل السنين القافلة بالسبعين؛
دَلَفَتْ بيَ السبعونَ زَحْفا
وسقَتْنِيَ الأيّامُ صِرْفا
///
عاثتْ بذاكرتي غِوىً
تجتاحُها محْوًا وعَسْفا
///
كم أوهنَتْ منّي الخطا عَنَتًا، وجَرتْها لمنفى
ولعلّ في مجيء نصّ؛ (لملمْ حروفك) الذي انتصّ عنوانا للمجموعة في هذا الموضع من مواضع النصوص، إشارة إلى طَرَف العمر وشفيرهِ. وإنما الحروف التي شرع الشاعر في لملمتها مرّتين، ليست حروف تهجٍّ محايدة بل حروف نابضة بالغربة والحنين من جهة ما قبل النصّ؛ (لمْلمْ حروفك)، وضاجّة بالعزف على أوتار الرّحيل، من جهة ما بعد النصّ العقيب؛ (لملم حروفك ثانية)، حتى أننا إذا توقفنا عند النص التالي لنصّ (لملم حروفك ثانية)، وجدنا الشاعر في نصّ (ما أتركه بعدي)، ينوء بحمل هذا الغاطس النفسي والوجودي؛
إنّما يعقُبُني من بعدِ حتْفي
قلمي الساكنُهُ شعري وحرفي
///
فهما إرثي إذا حلَّ غدٌ
بهما يذكرني أهلي وإلفي
///
فإذا أبقيتُ حرفًا ناطقًا
تشهدُ الغُربةُ عمَّا كنتُ أُخفي
///
أكلَتْ منِّي شبابي وغدَتْ
نحوَ شيبي، واستبدّتْ حيثُ حتفي
///
لا غدٌ، لا مستراحٌ قبلَهُ
غيرَ دامي الأمسِ قد هَروَلَ خلفي
وهكذا، كلّما ضجّتْ حروف السنين بصياحها المفزِع وهي تسوق المشاعر قسْرًا، ضجّ الشاعر بانكسارات حروف الهجاء، وهي تتذوّق مرارة الخديعة النفسية، ليقول، في البيت الأخير من النصّ؛
سوف لنْ تُغْنِيَ عنّي أحرُفي
كنتُ مخدوعًا بها أيّامَ نزْفي
وأما جهة ما قبل النصّ؛ (لمْلمْ حروفك)، فتؤكّد الفاعلية النصيّة لذلك التعاقب النصّيّ، الذي جعل (لملمة الحروف) طَرفالما قبل (اللملمة) وما بعدها. وما نصّ (أأنتظر أم ينتظر) إلا الطرف الآخر للبنية التعاقبية الدالّة التي تضع القارئ في مناخات تلك الرؤية الاغترابية القلقة والمثقلة بالهموم والانكسارات التي تضبط مسارات المجموعة. فالنصّ في نسق تناظري مع النصّ الذي يجيء عقيب نصّ (لملم حروفك ثانية)، وهو يوطّئ لما لمرتقاه التأويلي، بقوله هاهنا؛
ما عدتُ أنتظرُ المساءْ
لا أغنياتٌ لا لقاءْ
///
بل أهجرُ الكتبَ التي
كانتْ تقاسمُني الغطاءْ
وإذْ، (لا أغنياتٌ ولا لقاءْ ) في نصّ (أأنتظر أم ينتظر) ثمّ تكشّف خديعة الحروف في نصّ (ما أتركه بعدي)؛
سوف لنْ تُغْنِيَ عنّي أحرُفي
كنتُ مخدوعًا بها أيّامَ نزْفي
فإن تلاحم مفاصل الرؤيةالشعرية أمرٌ واضح، لمن يتتبع إصرار نصوص المجموعة على رثاء ذلك الزمن الخاضع لحتمية السير الحثيث نحو الحوافّ النفسية. يقول في مفتتح نصّ (لملمْ حروفَك)، حيث يتوسط النص ذينك النّصّين؛
لملمْ حروفَك،
قالت السبعون؛
أيَّاميَ التي زارتْكَ منذُ عرفتَها،
كانتْ ضيوفَك!
///
إنّي تجاوزتُ المدى مُذْ ستةٍ هلّا
رفعتَ بها كفوفَك، لتعدَّها منك الأصابعُ أم ستودعُها رفوفَك؟
///
لملمْ حروفَك!
من بعدِ سبعين انقضتْ،
لا تنتظرْ إلّا حتوفَك!
وعلى هذا فإجابة التساؤل القلق (أأنتظر أم ينتظر) الذي علا النصّ الموطَّئ لهذا النصّ، صارت واضحة، وبدا أن العمر لا ينتظر؛
لملمْ حروفَك!
من بعدِ سبعين انقضتْ،
لا تنتظرْ إلّا حتوفَك!
عتبة العنوان هذه؛ (لمْلمْ حروفك)، تتلوها عتبة أخرى، عتبة؛ (لمْلمْ حروفك ثانية)، التي تتناصّ مع سابقتها، لتؤكّد مؤدّى الانتظار المرّ الذي يلوّح النصّ بعدميّته، بين طرف (الياء) والطرف الآخر، طرف (الراء) من (ينتظر) الذي وقف عنده الشاعر في نصّ (أأنتظر أم ينتظر)، ليقول؛
يجري بها صوتُ الحروفِ
مُوقِّعًا ألفًا، لياءْ
تترى بها صُوَرٌ نديَّاتٌ
مخبَّأةٌ لراءْ
///
شرقتْ بها منِّي اللّهاةُ
فغادرتني في جفاءْ
وفي ما تحت عتبة العنوان المتناصّ، يقول؛
لملِمْ حروفَكَ، أيُّها الرجلُ
عمَّا قليلٍ سوفَ ترتحلُ
///
ودِّعْ هنا الأوراقَ ليسَ بها
إلّا خطوطٌ، ليتها جُمَلُ
///
قد كنتَ تنوي أَنْ تخطّ بها
بعضَ الوصايا، أم سترتجلُ
///
ماذا تُؤَمّلُ؟ وانقضتْ حِقَبٌ
كادت ْ بها (السبعون) تشتعلُ
///
قدْ نلتَ! حتى لم تدعْ وَطَرًا
إلا وعقبى ذلكَ الوشَلُ
وما بين زمان مضى وزمان يمضي، تتكوّن صياغة النصوص وتتكثّر تناصّاتها الداخلية، وتتوالى مظاهرها، وتنتفي الحدود الفاصلة بين حروف اللغة وحروف العمر أو (سبعينه) وتتداخل بِنَاها وتتعدّد أصوات الشعراء والأصدقاء والأبناء، وتنتظم عتباتها على موجبِ ترتيب (السنين السبعين)، ما يجعلنا نرى إلى الشاعر وهو رهين الأرشيف (السبعيني) بكل أساه وزخمه العاطفي وقلقه النفسي وتشظّياته الاجتماعية.