يوميات كورنيش الاسكندرية.. العشاء الأخير! (١٦)
محمود عبد المقصود | نائب رئيس تحرير الأهرام
انتابتنى فى هذه الليلة مشاعر غريبة لم تصادفنى من قبل وأنا أجلس بجوارها.. تراكمت أمامى حينها كل السيناريوهات التى يمكن تحدث لأمى إلا سيناريو واحد فقط هو سيناريو رحيلها فعلى الرغم من مرضها الذى نهش جسدها الطاهر لأكثر من عشر سنوات إلا أننى عشت عمرى كله رافضا لمجرد مناقشة هذه الفكرة المؤلمة!
وخشيت فى تلك الليلة أن تنتبه أمى لحالى فتنشغل بى فقررت أن أغادر مجلسها دون أن تشعر ولكنها كعادتها دوما تستشعر كل الأمور بشفافية فريدة فراحت تشير لشقيقتى التى أقامت معها أن تأتى لي بالعشاء وهنا لململت نفسى وقلت لها بشرط أن نتناوله سويا.. ووافقت أمى ولسان حالها يقول أكل إيه يا نور عينى؟ واستسلاما لطلبى قالت لشقيقتى: هاتي لي كوب لبن .. الأمر الذى أثار دهشتى وعزز من الشعور الغريب الذى يتسلل إليّ.. فأمي رغم نشأتها فى خير الريف إلا أنها تلفظ اللبن وكان حياؤها وخوفها من زوال النعمة يمنعها بالتصريح بذلك وإذا اضطرت قالت إن اللبن مبيحبنيش!
وبالفعل ارتشفت بعضا من الكوب وأعطته لشقيقتى وقالت لها كلمة غريبة لم انتبه لها فى حينها حيث قالت: أنا كده أخذت رزقى كله والحمد لله.. واقتربت منها وقبلت يدها وانصرفت لمنزلي الذى قضيت فيه أسوأ ليلة فى عمرى كله فلم تغفل عيناى لحظة بينما تداعت أمامى شخوص كلها رحلت عنها منذ حين من الزمان.. جلست يومها على سريري ولم أنم بينما تحوم من حولي سحابة سوداء تحجب عنى بصيص الضوء الذى أحرص علي إنارته فى شقتى أثناء النوم حتى رفع المؤذن صلاة الفجر.. ولكننى لم أجد بداخلى أي رغبة للنزول للمسجد وصليت بصحبة زوجتي وأثناء التسبيح رن تليفون منزلنا ووقفت أمامه لحظات أخشى رفع السماعة فتقدمت زوجتي واستمعت قليلا وقالت: (إحنا جايين حالا).. لم أسال زوجتى ولم تخبرنى هي.. وارتدينا ملابسنا ولفت نظري أنها اصطحبت معها سمعاعتها الطبية وجهاز ضغط الدم!! فقلت لها هو لسه؟ فقالت لي قول: يا رب.
وهرولت لحجرتها متقدما زوجتي ثم انتبهت وأفسحت لها المكان؛ بل إننى تركت الغرفة احتراما لأمى التى منعها حياؤها رغم طول مرضها أن تكشف عورتها أمامى أنا وشقيقى فخشيت أن تتأذى أمى حية أو ميتة، وبعد لحظات سمعت زوجتى تنطق بالشهادتين.. فاندفعت نحوها أقبلها وأحتضنها لاستكشف مخلوقا ملائكيا غير ذلك الذى أنهكه الألم.. فالنور يشع من وجهها الذى اكتسى ببراءة وسكينة غير عادية.. وفى تلك اللحظة وجدتنى أكتشف بداخلى إنسانا آخر تماما لم أعرفه من قبل.. حيث وجدتنى أخرج من حجرتها بثبات وعزيمة وكأنى اكتفيت منها وقررت عدم الدخول عليها ثانية ولم تذرف عيناى دمعة واحدة
وخرجت فى التراس أرتب لها مراسم دفنها.. التى تمنتها يوما أثناء سفرى للخارج.. عندما سألتها مافيش حاجة نفسك فيها يا أمى؟ قالت نفسى تحضرنى!! وكانت تلك الجملة التى جعلتنى أقدم استقالتى وأعود إليها.. وتحقق لأمى ما تمنت حتى سلمتها معززة مكرمة إلى أبي!
وعودت لمنزلها واتجهت لغرفتها.. أتحسس سريرها.. أشتم رائحتها.. أبحث عن بقاياها.. أفتش عن سبحتها.. أحتضن ملابسها.. وسرعان ما انتابتنى حالة هيسترية من الصراخ والبكاء حتى إن شقيقاتى انشغلن بى أكثر من انشغالهن بفراقها.. فانتبهت.. وجففت دموعي كلها إلا دمعة واحدة مازالت محبوسة فى صدري لم تفارقنى منذ رحيلها حتى يومى هذا!