راهنُ اللُّغة العَربيّة في الجامعات الغَربيّة، المرجعيات والغايات

د. أمل سلمان حسان | ناقدة وأكاديمية – العراق

الحمدُ لله الذي علمنا البيانَ، وأرسلَ لنا خير الأنام رسول الهُدى مُعلّم النَّاس الخير وفصيّح الكلام، عليه أفضل الصّلاة وأتمّ السَّلام .                                               

أما بعد:

 أجمع الدارسون على أن مطلع الألفية الجديدة، وتحديدا بعد أحداث سبتمبر ٢٠٠١م   شهد انتقالا لافتا للانتباه للإقبال على تَعلم اللغة العَربيّة من لَدن غير العرب وغير الناطقين بها ولا سيّما في عدد من الدُّول الغربية والشَّرقية من مثل ، فرنسا وأميركا والصين وروسيا وغيرها ، وإن ذهب بعضهم  إلى أن تدريس اللغة العربية في الجامعات الغربية ليست مسألة جديدة ؛ لأن بدايات تدريسها  يعود إلى أيام المسلمين في الأندلس حيث كانت الدُّول الأوروبية في ذلك الوقت تستقدم منّهم المعلمين لتدريس  العربية ، وبقية العلوم والفنون الأخرى التي كانت الحضارة العَربيّة في الأندلس قد عرفت فيها الرّيادة مثل ، الفلسفة والفيزيا والرياضيات والموسيقا وغيرها ، حيث كانت مدارس قُرطبة تستقطب الوافدين من الشّرق والغَرب .

ففي فرنسا مثلا ، يُعد الملك فرانسوا الأول في القرن السادس عشر ،أول من دعا إلى تعلم العربية وتعليمها ، بعد ذلك واصل المستشرقون اهتمامهم باللغة العربية مثل شارل بلا وغيره ، ممن اهتموا  بدراسة الكتب العربية المترجمة  من مثل كتاب كليلة ودمنة ، وقصص ألف ليلة وليلة  وكتب الجاحظ ورسائله وغيرها من الكتب الأخرى ، ومع بداية استقرار العرب المسلمين في الغرب وولادة الجيل الثاني والثالث من أبنائهم ، ودخول الآف الغربيين في الإسلام بدأ العالم الغربي يهتم بالحضارة العربية الإسلامية ليس من باب الفضول في معرفة الآخر ،هذه المرة ، بل لأن الحضارة العربية والإسلامية قد أصبحت إحدى أهم مكونات شخصية الآلاف من مواطنيه إن لم نقل الملايين.

 والملاحظ أن المقاصد والغايات التي تقف وراء اهتمام تعلم اللغة العربية وتعليمها في الجامعات الغربية تختلف من دولة إلى آخرى ومن مجتمع لآخر ، بل ومن فرد إلى آخر ، وهي يمكن توزيعها على أسباب علمية بحتة او أسباب سياسية  أو دينية أو اقتصادية ، ففي أميركا مثلا ، تشير دراسة أجرتها ، جمعية اللغة الحديثة MLA   إلى أنّه عقب أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ م مباشرة تصاعدت وتيرة إقبال الأمريكيين على تعلم لغة الضاد ، إذ بلغ عدد المسجلين لدراسة اللغة العربية في الجامعات الأمريكية والمعاهد عام ٢٠٠٩ ، ٣٥ ألف طالبا ، وهو تحول عميق وملحوظ حقق أعلى نسبة مئوية ما بين اللغات الآخرى ، مقارنة بعدد المسجلين عام ١٩٩٨، فاحتلت بذلك اللغة العربية المرتبة الثامنة في الترتيب العام للغات الأكثر إقبالا عليها في المؤسسسات العليا الأمريكية بحسب معطيات هذه الجمعية .

وهذا ما ينطبق بشكل أو بأخر على حال اللغة العربية في الصين ، حيث يتزايد الإقبال على تعلمها ودراستها ، إذ كشفت جريدة الشرق الأوسط عن أن اللغة العربية تشهد اهتماما منقطع النظير من قبل الكثيرين من الصينيين ، بوصفها إداة تسهل العمل التجاري مع السوق العربية الخصبة والواعدة للاستثمارات الصينية ، حيث ارتفع حجم المعاملات التجارية الثنائية بين الصين والدول العربية إلى ١١٠ مليار دولار أمريكي، وهكذا فإن تكلم اللغة العربية صار محددا أساسيا لمثل هذه العلاقات الأقتصادية ، مما يفتح آفاقا زاهرة أمام كل صيني متمكن من اتقان هذه اللغة ، وقد صرح بذلك رئيس معهد القوميات ما شاو وو قائلا ” إن الإقبال على تعلم اللغة العربية في  هيئات التدريب المهني الخاصة ، علامة على تحول تدريس اللغة العربية من التعليم المسجدي إلى التعليم المدرسي وانتقال هدفه من الوفاء بمتطلبات المسلمين إلى تحقيق العائدات الأقتصاديةونحن سعداء برؤية ذلك ” . هذا الكلام ينسحب ايضا على حالة اللغة العربية في الجامعات الأوروبية التي يدرس فيها أعدادا كبيرة من المسلمين من مثل ، المانيا وبريطانيا وهولندا وبلجيكيا  وأسبانيا وإيطاليا وغيرها ، حيث تنتعش اللغة العربية بشكل ملحوظ تعليما وتعلما سواء لدى المواطنين من أصول عربية وإسلامية أم لدى المواطنين الأوروبيين والغربيين .والملاحظ أن هذا الاهتمام باللغة العربية لا يقتصر على المؤسسسات الإسلامية التقليدية فحسب ، بقدر ما يتعداها إلى مختلف المؤسسات الأكاديمية والتعليمية والبحثية والثقافية والإعلامية والإسلامية والغربية على حد سواء ، ومع إن الدوافع والغايات مختلفة ومتنوعة بحسب أهداف كل فئة وحوافزها ، إلا أن الدافع الأساس الذي يأتي في المقدمة عند الأقليات المسلمة تحديدا، هو الحفاظ على الهُويّة الأصلية والتحصين الذاتي ضد الغزو الفكري والتفسخ الأخلاقي والإكتساح الإعلامي للثقافة الغربية المهيمنة ، التي تسعى إلى إلتهام الثقافات الهامشية وصهرها في بوتقتها باسم الحداثة والعولمة والإندماج ، فاللغة تُعدّ من اكثر القضايا الثقافية والاجتماعية استجابة لمتغيرات الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية  وتطوراتها .

وهذا ما ينطبق على اللغة العربية على الرغم من أزماتها الداخلية إلا أنّها تمكنت بفعل قوتها وحيويتها من أن تستدعي انتباه اكثر من جهة أجنبية ، إلا أن هذا الاستدعاء ليس موحدا ، وإنما يتبلور بحسب المجال التداولي وقانون العرض والطلب والقابلية الثقافية والاجتماعية ، فإذا كان الأمريكي يقبل على تعلم اللغة العربية بغرض فهم شخصية الإنسان العربي واستيعاب تعاليم الدين الإسلامي ، ومن ثم صياغة استراتيجية سياسية وأمنية لمواجهة خطر الإمتداد الإسلامي ، فإن الصيني يفضل دراسة لغة الضاد تفاعلا مع قانون السوق والتجارة ولا سيما في زمن ما يطلق عليه مؤلف كتاب فخ العولمة ” ديكتاتورية السوق والأقتصاد ” ليس عشقا للغة العربية بحد ذاتها ، وإنما سعيا إلى الاستحواذ على الأسواق العربية الواعدة ، عن طريق آلية التوصيل اللغوي المباشر، في حين أن الأقبال على تعلم العربية لدى الأقليات العربية والمسلمة في أوروبا مرجعه الجوهري هو الحفاظ على الهُويّة الدينية والثقافية الأصلية واكتساب المناعة الذاتية اللازمة أمام الاكتساح الذي تمارسه الثقافة الغربية المهيمنة .

وهكذا فإن من شأن هذه المقصديات أن تميط اللثام عن جوانب مهمة من راهن تعلم  اللغة العربية في الجامعات الغربية ، ولاسيما في الدول التي تستقر فيها جاليات عربية ومسلمة ، أو الدول التي تربطها  علاقات سياسية واقتصادية وطيدة بالعالم العربي ، وذلك في زمن العولمة بصفة خاصة والعولمة الثقافية بصفة خاصة .

مراجع الدراسة

_ في الذكرى الرابعة لهجمات سبتمبر، الأزمة لم تكن للعرب الأمريكيين شرا مطلقا, د.يحيى عبد المبدي محمد

WWW.toqrir.org/indexcifm

_تعلم اللغة العربية في الغرب بين الاختصاص والسمسرة ، فرنسا انموذجا

إعداد د. عبد الحفيظ الخميري الفجر نيوز

WWW.turess.com

_ الاقبال على تعلم اللغة العربية ، موقع مقالات اسلام ويب

WWW.islamwed.net

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى