قراءة في ديوان «الليل سيترك باب المقهى» للشّاعر الإماراتي الكبير محمّد البريكي

 عبد العزيز الهمّامي | شاعر وناقد تونسي 

اللّيل سيترك باب المقهى هو الدّيوان الحدث الذي صدر سنة 2021  للشّاعر الاماراتي  العربي  الكبير محمّد عبد الله البريكي  مدير بيت الشّعر بالشّارقة  وكما يقال  فانّ هذا الاصدارالرّاقي و المتميّز ملأ الدّنيا وشغل النّاس وليس أدلّ على ذلك  نفاد طبعـتة الأولى في وقت قياسي منذ ظهورها بالأسواق والمكتبات الوطنيّة  والمعارض الدّولية حيث سرعان ما أعيد طبعه من جديد . وهو في تقديري من أجمل الاصدارات الشّعريّة التي زخرفت السّنة المنقضية وتوّجتها بباقة متفرّدة من القصائد البديعة التي تشدّ  القارئ شدّا لتستحوذ على حواسّه وذائقته الأدبيّة  سيّما وأنّ الدّيوان حمل في  طيّاته نصوصا عالية الجودة مبنى ومعنى و لغة وصورا وايقاعا و دفع بشاعرنا الى التّعبير عن وفائه للحياة التي فتحت له بابا للعروج الى سماوات القصيدة . 

وللتّذكير فانّ الأعمال الأدبية الثريّة والمتنوّعة للشّاعر والاعلامي محمّد عبد اللّه البريكي هي في حدّ ذاتها  تشكّل رصيدا مهمّا وثمينا للمدوّنة الأدبيّة العربيّة ويكفي أن نقف على  مجموعاته الشّعريّة الثّلاث  بيت اَيل للسّقوط و بدأت مع البحر وعكّاز الرّيح  الى جانب اصدارته الأخرى المتعلّقة بالشّعر النّبطي حتّى نتأكّد من الموهبة الفذّة لهذا الرّجل الذي أعطى الكثير  من جهده ووقته للثقافة العربيّة  وتحوّل اليوم الى ظاهرة شعريّة لافتة على واجهة الشعر العربي الحديث .

 ورد الدّيوان في 138 صفحة من الحجم المتوسّط وتضمّن 28 قصيدة جمعت بين العمودي وشعر التّفعيلة وقد ارتأى الشّاعر أن يضع على صفحة الغلاف الخلفي هذا المقطع الجميل الذي يختزل رحلة المرء في هذه الحياة الفانية وذلك بأسلوب الحكماء الكبار وعلى طريقته المبدعة حيث يقول: 

اِلَى الدُّنْيَا ابْنُ اَدَمَ سَوْفَ يَأْتِي 

غَرِيبًا 

ثُمَّ يَتْرُكُهَا فَقِيرَا

فَعُمْرُ الاَدَميِّ 

كَخَطِّ رَمْلٍ 

مَحَتْ رِيحُ الفَنَا مِنْهُ السُّطُورَا

وَمَا مَوْتُ الكَرِيمِ 

سِوَى صُعُودٍ

لِيُكْمِلَ نَحْو قِمّتِهِ المَسِيـرَا

 

ولا شكّ فانّ محتوى الديوان بكل رؤاه ومضامينه الحداثيّة يدفعك الى اقتحام تخومه  وعبور محيطاته الوسيعة  ويدعوك الى حرّيّة التأويل ويمنحك فرصة الدّخول الى أيّ غرفة تريد ويحرّك في ذهنك شهوة الاجتهاد الجميل لمعرفة مقاصد شعره بداية بعنوان الكتاب الذي قد يحمل للكثيرين عديد المفاهيم والمعاني ويضعهم في مقاربة انطباعية أمام الوجه الاَخر لصورة اللّيل الذي ربّما يرمز الى السّواد والضّجر وطول الوقت أو بمفهوم أعمق الى  قلق الذّات ورغبتها في مقاومة أوجاع هذا الظّلام الجاثم  حتّى يغادر باب المقهى الذى قد يرمز هو الاَخر  الى الحياة في حراكها وحيويتها وضجيجها ونشوتها. يقول شاعرنا عن هذا اللّيل المرعب الذي يتربّص خلف الأبواب في قصيدته احتفاء بما تبقّى:

أَيّهَا اللَّيْلُ

يَامَنْ وَقَفْتَ عَلَى دَرْبِ أَحْلاَمِنَا

مِثْلَ غُولٍ

يُطَارِدُنَا فِي الحَيَاةِ

أَلاَ تَكْتَفِي؟ 

 

ومن هذا المنطلق ندرك أنّ النّصوص الواردة بالدّيوان تميّزت بطابعها الوجودي وبُعدها الانساني ولونها الفلسفي وذلك امتدادا مثمرا لتجربة شاعرنا التي تنبع من رؤيته العميقة لقضايا الانسان وهمومه وأحلامه وطموحاته . ونرى هذه الرّؤى القزحيّة كيف هي تتبلور من خلال التّوظيف الجيّد للتّراث واستحضار المواقف والأحداث وابراز الأنا في صور شعريّة مبتكرة وبمنأى عن نرجسيّة الكلام .

لأنّ شاعرنا يمنح الكلمة أجنحة كي تحلّق في البعيد ويضع رؤيته في دائرة الضّوء فهو يُمطر  نسغ الكلمات من ماء هواجسه و أفكاره ليعبّر عن ذاته المتوهّجة التي تحمل على كفّها مشاغل الكون وتطلعاته . وقد تجلّت عاطفته المتدفّقة في مختلف نصوصه التي تعبق بأريج الأدوات الشّعريّة من مجاز وتناص وانزياح وايحاء مما يؤكّد حرص الشّاعر على الاشتغال بكل مهارة على الجوانب الفنّية والابداعيّة للنّص الشّعري الحديث والمزج بين الواقعي والمتخيّل  ولأنّ الشّعر هوالذي يكتب الوجع الحقيقي للحياة ويَهِبُ للوردة لغتها الأخرى ويسقي شفاه الأرض العطشى  من نبيذ مفرداته فانّ قصائد البريكي نهلت من واقعنا المعاش ومن حياتنا الأليفة  حتّى كادت أن تستبصر الأشياء الغائبة وتكشف لعبة الكون وتناقضاته وتفتح نوافذه المغلقة .

ففي قصيدت ضفاف الحياة يقول الشّاعر:

مِثْلُ رِيشٍ يَسِيرُ

سَهْوًا لِضِفَّهْ

يَعْبُرُ النّاسُ فِي الحَيَاةِ بِخِفَّهْ

وَكَخَطٍّ عَلَى الرِّمَالِ غَرِيبٍ

تَقْصِمُ الرِّيحُ حِينَ تَلْقَاهُ نِصْفَهْ

هَكَذَا عَقْرَبُ الزّمَانِ سَيَمْضِي

مُضْغَةً كَانَ 

وَالنّهَايَةُ رَجْفَهْ

حَطَبُ الحُلْمِ فَوْقَ نَارِ الأَمَانِي 

فِي فَمِ الرِّيحِ سَوْفَ يَصْعَدُ رَشْفَهْ

ولكنّ شاعرنا يمضي على درب التفاؤل ممتطيا صهوة الفرح وحاملا أريج المحبّة للبشر متحدّيا مرارة الحياة واَلامها وطافحا بتأمّلاته  وقد تماهى في ذهنه طريق الخلاص وذلك من خلال قصيدته ويحدث الاَن التي يقول في مطلعها :

وَيَحْدُتُ الاَنَ أَنَّ الهَـمَّ  يُـضْنِـيـنَا

فَلْنَنْثُرِالعِطْرَ فِي البُشْرَى لِيُحْيِينَا 

•••

لِي أَنْ أُلَـوّنَ أَشْعَـارِي بِضَحْكَتِـنَا

فَالدَّمْـعُ لَيْسَ لَهُ وَقْـتٌ لِـيُـبْـكِـيـنَـا

•••

أَحْـلاَمُـنَا قَـدْرَ مَا نُعْطِي لَهَـا أَمَـلاً

وَقَـدْرَ مَا نَـبَـضَتْ أَشْجَـارُهَا فِيـنَـا

ويرتفع منسوب التّحدّي في هذا النّص معبّرا عن نفسيّة الشّاعر الملتحفة بالصمود والصبر والأمل  في اختراق لسياج الوهم والحرص على الرّغبة في التقاط الجمال والبحث عن طمأنينة العيش  من خلال هذه الأبيات 

يَاقَـلْبُ لا تَـبْـتَـئِسْ فَالرِّيـحُ طَارِئَةٌ

وَلاَ تُـصَـدِّقْ  بِأَنَّ  الهَــمَّ  يُـرْدِيـنَـا

 •••

أَرْوَاحُنَا صَنَعَتْ مِنْ صَبْـرِهَا سُفُـنًا

فَلاَ البِحَارُ وَ لاَ الأَمْـوَاجُ  تُـثْـنِـيـنَـا

•••

وَلاَ نَخَـافُ اِذَا الطُّـوفَانُ يَـصْـدِمُـنَـا

لِأَنَّ مَنْ أَرْسَـلَ الطُّـوفَـانَ يُـنْـجِـيـنَـا

ويشكّل ديوان الليل سيترك باب المقهى شرفة أخرى من شرفات الحداثة الشّعريّة في أرقى تجلّياتها وكأنّها  رسمت لغة فوق اللغة وأوقدت قناديلها في فضاء الكلمة وأطلقت طيورها نحو الأقاصي وأثبتت ذاتها في الزّمان والمكان فوردت القصائد يانعة ومورقة في شكل  وحدة رمزيّة متماسكة في بنائها الفني والايقاعي والتّشخيصي  فانهمر الابداع غزيرا يسقي الزّرع والضّرع وبدأ العزف على أوتار الحلم والذكريات من خلال هذا النّص منجل لا يقصُّ الشَّجر

أَيُّهَاالطَّيِّبون 

المُحِبُّون لِلعَـزْفِ وَ القَافِيَةْ

أَنَا أَتَسَكَّعُ حَوْلَ الحِمَى

وَأُصَبِّرُ جُوعِي بِصَوْتِ العَصَافِيرِ

أَهْرَبُ مِنْ لَهَبِ الصَّيْفِ

تَحْتَ ظِلاَلِ الحُرُوفِ

وَاِنْ كَانتِ الرُّوحُ طِفْلَةُ حَارَتِنَا

تَتَمَشَّى عَلَى جَمْرِ هَذَا اللَّهِيبِ

وَأَقْدَامُهَا حَافِيَةْ

الى أن يقول:

أَيُّهَا الطَّيِّبُون 

أَنَا ابْنُ الحُقُولِ

أَبِي مِنْجَلٌ لاَ يَقُصُّ الشَّجَـرْ

يُهَذِّبُ مَا يُزْعِجُ الدَّرْبَ وَ العَابِرِينَ

وَلاَ يَتَجَنّى عَلَى طَلَلٍ

نَبَضَتْ فِيهِ رُوحٌ 

وَغَنّى حَـجَـرْ

هذه قراءة سريعة بعض الشيئ  لديوان الليل سيترك باب المقهى الذي كان لي شرف الحصول من شاعرنا على نسخة منه  حيث لا مناص من التأكيد على أنّ هذا المنجز الشّعري الرّائق الجميل والذي أعتبره شخصيّا وساما اَخر على صدر الأدب العربي الحديث هو في حقيقة الأمر ترجمة وفيّة ونقيّة  لحواس الشّاعر محمّد عبد الله البريكي الّذي  أعتمد في كتاباته على عنصر الدّهشة والمفاجأة والغرابة  وقدّم رؤيته الثّائرة أحيانا والهادئة أحيانا أخرى  بشكل ابداعي متميّز من أجل  مطاردة  اليأس والقنوط والفشل والاستكانة  وتكريس ارادة الحياة لملاحقة الضّوء واقتناص الفرح  واستنهاض الهمم من أجل تجسيد وبلوغ عتبات الحلم حتّى لكأننا نشعر انّ صهيل حروف شاعرنا الكبير محمّد عبد الله البريكي  تكاد تضرب عُنُق الانكسار وتعيد فتح أبواب المجد الضّائع من جديد. كلّ ذلك استطاع شاعرنا أن يصوغه ويطرّزه بمقدرته الفنيّة في هذا الدّيوان ويضفي عليه تلك النّكهة الرومانسيّة الممتعة كي يكون في مرتبة عالية من السّحر والجمال. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى