دراسة في تداوليات الخطاب.. استعادة الأصالة، والحضور التجريبي للذات في خطاب محمد الشحات الشعري
د. محمد سمير عبد السلام | أكاديمي وناقد مصري
يواصل الشاعر المصري المبدع محمد الشحات – في خطابه – الاتجاه إلى العمق الداخلي للذات، والبحث المتجدد عن حالة تناغم كوني، وتجسيد تعددية القوى الداخلية للذات المتكلمة عبر الإحالة إلى علامات الظل، والأطياف التصويرية للغائب / الغائبين، والأثر الشعري لشخصيات؛ مثل الدرويش الذي يبدو وجوده نوعا من الاستثناء في السياق الثقافي الاجتماعي للنص؛ ومن ثم تؤكد تضمينات الخطاب الشعري عند محمد الشحات الإعلاء من الأصالة الروحية كنموذج يتم استدعاؤه من اللاوعي الجمعي، ويقع بين الذات، والآخر، والعناصر الكونية، والمراجع المكانية؛ مثل المسجد، كما يؤكد الخطاب اتصال الذات المتكلمة بالعالم الخيالي / الافتراضي البديل عن بنية الفراغ العبثي، أو الوحدة المهيمنة في سياق المتكلم، أو بحث الظل عن مزيد من الصور / الأطياف / النسخ المجازية أو التشبيهات في مواقف التأمل الفلسفية التي تميز مشروع محمد الشحات الحداثي في بحثه عن الذات من خلال محاورة علامة الظل وتجليها كدال للذات، والآخر، أو الآخر الداخلي المحتمل؛ وتتصل مثل هذه الموضوعات – في وحدة الخطاب الشعري – لتعزز من حالة النزوع نحو نوع من التحرر الجمالي البديل عن حتميات الوحدة، والغياب، والعلاقات الآلية الأحادية؛ ومن ثم نعاين ثراء العالم الاستعاري الافتراضي في ديوان متى ينتهي، وعودة التناغم الداخلي، والتعاطف الكوني في رجل مسكون بالزرقة، واتساع مدلول الذات، وتشبيهاتها المحتملة في ديوان ملامح ظلي؛ ومن ثم تبحث تأملات المتكلم الشعرية عن تكوين تصور دينامي فلسفي، وتصويري حول الذات، وتعددية قواها الداخلية في إطار العمق الداخلي، والعودة المتجددة إلى لحظة التأمل الأولى التي تؤكد بنية الحضور؛ وإمكانية إعادة تشكيل صور الذات الاستعارية في نسيج سردي دينامي تجريبي، يوحي بازدواجية الأدائي، والتأملي معا؛ وكأن الذات تعاين أطيافها، واستعاراتها البديلة في سياق ثقافي – اجتماعي يمكن توسيعه إدراكيا أحيانا من قبل المستقبل في حدث التواصل التداولي / الإدراكي وفق مقولات دان سبيربر، وويلسون حول إنتاجية الصلة في حدث التواصل؛ فالذات تمارس نوعا من المغامرة الأدائية مع الصور، والظلال، والأشياء، ولكنها مشروطة بالعودة إلى بنية الحضور، وتأكيد العمق الروحي من خلال أفعال الكلام، والحجاج التي تبدو خبرية أحيانا، ومتعلقة بالتوصيف الشعري للموقف التأملي الوجودي في حدث التواصل.
وأرى أن قراءة الدواوين الثلاثة وفق دراسة مكونات الخطاب تداوليا من خلال سياق التواصل، سوف تكشف عن دلالات التأملات الذاتية، وتحولاتها الدينامية عبر تغير السياق، وعلاقات القوى الثقافية، والبنى اللسانية، وأثرها في إنتاجية بنية الحضور، والتشكيل النسبي للعمق الذاتي المحتمل / التفسيري جماليا.
تتجلى تأملات الذات –إذا – من داخل تفاصيل مكونات الخطاب في موقف التواصل، وعلاقاته الداخلية، وديناميته، ودرجة فاعلية المتكلم، والمستقبل؛ ويؤكد كل من جورج يول، وجيليان براون – في كتابهما تحليل الخطاب – أن محلل الخطاب ينبغي أن يرتكز على المقاربة التداولية في تحديد السياق فيما وراء البنى النحوية، والدلالية التي كانت تميز الدراسات الكلاسيكية؛ ومن ثم يحدد محلل الخطاب المراجع، والافتراضات المسبقة، وتضمينات الخطاب، والحجاج، وصلة المشاركين بعناصر الخطاب، والتحديد النسبي لموقف التواصل، والتأثير الممكن لو كان ذلك الموقف مختلفا. (1).
يشير تصور جورج يول، وجيليان براون – إذا – إلى أهمية توصيف حدث التواصل من منظور تداولي دينامي للفاعلين، ولموقف التواصل ودلالاته، وارتباطه بدلالات مكونات الخطاب التي تنتج دلالات تضاف إلى الحدث اللساني ضمن المقاربة التداولية؛ ومن ثم تتجلى شخصية الدرويش من داخل غرابة تكوينها في الموقف اليومي، بينما يمنحها الخطاب فاعلية جديدة، تتعلق باستعادة الأصالة في ذلك الموقف اليومي النسبي نفسه، وفي تأكيدها لحالة التناغم الكوني، وتحويرها لمنظور الآخر، أو تجليها في ذلك الآخر بصورة تأويلية للمستوى الأعمق من الوجود.
وقد توسعت الدراسات التداولية للخطاب في قراءة أفعال الكلام وفق متواليات، أو تسلسل لفعل الكلام، والاستجابة المحتملة، واتساع مواقف التواصل، ووسائطه؛ وسيزار فليكس براسديفير – في دراسته تسلسل أفعال الكلام ضمن كتاب تداوليات الخطاب، تحرير: كلاوس ب. شنايدر، وآن بارون، ودي جروتر موتون – أن أفعال الكلام لا تقوم فقط على نوايا المتكلم، وقوة الفعل، وإنما هي طبقا لغوفمان تأتي كمتوالية ضمن إجراءات الكلام في الموقف، وقد تتسلسل في ثنائيات مثل التوجيهات، والاستجابة حسب المشاركين، وسياق الأفعال، والاستجابات اللفظية، وغير اللفظية، ومكان التواصل، ويؤكد أن ممارسة الخطاب نفسها هي حدث تواصلي يتجلى كسلسلة من أفعال الكلام. (2)
لأفعال الكلام، وتأثيرها، وتجلياتها في الموقف، والكلام – إذا – دلالات ضمن تطور الخطاب، والعلاقة الدينامية بين المتحدث، والمستقبل، وتوالي الأفعال، والاستجابات، ودرجات تأثيرها في حدث التواصل؛ إذا تأملنا استدعاء الذات المتكلمة لشخصية الدرويش – في خطاب محمد الشحات – سنكتشف أن هذا الاستدعاء يوحي بتوقع حدوث قوة فعل الكلام في المستقبل؛ ففعل الكلام التمثيلي / التأكيدي لأصالة الدرويش في الموقف اليومي، يستدعي تفكيك مركزية العلاقات الحتمية الآلية في العالم الداخلي للمستمع، ويتضمن مشتركا ثقافيا يقوم على نموذج الأصالة الروحية في اللاوعي الجمعي، أو دفع المستقبل لاتخاذ موقف نشط إيجابي يقوم على الانحياز للأصالة، أو حب التعاطف الكوني؛ ومن ثم المشاركة المحتملة من إنتاج فعل كلامي تعبيري / ذاتي ينحاز لتلك الأصالة في الموقف الفعلي / النسبي.
يقول محمد الشحات في قصيدة فرحة ضمن ديوان رجل مسكون بالزرقة:
“بدأَ الدرويشُ يُنَظِّفُ
أسوارَ المسجدِ
ويُسقطُ ما عَلِقَ به
من زبل حمامٍ
لم يتخيلْ فرحتَه
كانَ يقبلُ
ما ينثُرهُ مِنْ حَبٍّ
علىَ طولِ السُّوُرِ
لكى يتمَكَنُّ كلَّ السِّربِ
بأنْ يلتقطَ حبُوبًا تكفِيِه
وحينَ يَحِسُّ
نفاد الحبِّ يعصِرهُ الحُزْنَ
ويَهْبِطُ قُرْبَ السُّوُرِ
ليَجْمَعَ مَا سَقَطَ
ويعودُ لكى يَنثُرُه
عادَ العّلاَّفُ لمسكنِهِ مُبْتهَجًا
جلسَ إلىَ زوجَتِه
وهِىَ تحُاولُ أنْ تجمَعَ
مَا أسْقطَهُ الأطفالُ مِنَ الأكْلِ
فتذكرَ مَا يَفعَلَهُ الدرويشُ
وأحَسَّ براحةِ نفسٍ
فقرَّرَ
إذا مَا مَرَّ عليه الدرويشُ
يُعطِيه حبوبًا تُكفيه”(3).
تتأمل الذات المتكلمة – إذا – دلالات قصة الدرويش، والعلاف عبر تكرارها، أو استعادتها من الذاكرة؛ لتحقق غرض الخطاب في المستقبل في سياق موقف التواصل الأول؛ وهو فعل السرد الشعري، وتمثيلاته التي تؤكد وجود افتراض مسبق لسلوك الدرويش، أو وجو مبرر لتصرفه البعيد عن آليات السلوك اليومي التي تتصل بتبادل المنافع؛ ومن ثم لا يوجد مبرر لمراقبة العلاف للدرويش إلا بافتراض وجود مبرر منطقي لسلوكه رغم غرابته؛ ويؤسس المتكلم – في الخطاب – تكرار القصة؛ لينبه المستقبل إلى أصالة لذة الاكتشاف الأولى لحجة فاعلية الأصيل داخل اليومي؛ والتي تؤكد مسلمة تلك الأصالة في العالم الداخلي لكل من المتكلم، والمستقبل، والدرويش، والعلاف في موقفي التواصل؛ أما موقف التواصل الثاني فيقع بين مرجعي الشارع، والمسجد، وبين كل من العلاف / المراقب، والدرويش / موضوع المراقبة، والفاعل الآخر؛ وتزداد – في بنية الخطاب – مساحات حضور المسجد؛ لتؤكد انتشار الأصالة الروحية في اليومي بصورة تستنزف هامشيتها، وغرابتها الأولى، كما يرتكز الخطاب على تكرار دورات إطعام الحمام؛ ليؤكد دائرية الوجود الداخلي، والإعلاء من اللانهائي ضمن بنية اليومي نفسه في تضمينات الخطاب، واستلزاماته؛ وتؤكد مثل هذه التضمينات أيضا زيادة الكلمات الدالة على التناغم الكوني، وقابلية انتشاره من ذات الدرويش إلى الآخر / الآخرين؛ مثل (فرحة – بهجة – راحة نفس) في مقابل ورود الحزن لمرة واحدة مؤقتة، تؤكد البنية الآلية للأحداث اليومية الظاهرة في الشارع؛ والتي تعكس أيديولوجيا السائد في مقابل الهامشي الذي يتجل كفاعل خفي في المشهد اليومي؛ وقد تكررت إحالات الزمن المضارع – في الخطاب – في أفعال الدرويش، وعلاقته بالحمائم، بينما اقترن الماضي بقصة العلاف إلى أن قرر يعطي الدرويش الحبوب في بنيتي الحضور، والمستقبل؛ ومن ثم يتضمن خطاب الحكي تكرار دورات الوجود وعبورها من الداخل إلى الآخر، والعناصر الكونية في موقف التواصل.
أما تسلسل أفعال الكلام في الخطاب؛ فقد جاء في مجموعة من الثنائيات المتوالية؛ فتمثيلات حكاية الدرويش تقترن بالتحوير التدريجي في وعي العلاف باتجاه الاستجابة لقوة فعل الكلام؛ وهي استجابة توحي بالتطور المعرفي الروحي من خلال الآخر، أو استجابة الحب / الراحة الداخلية؛ وهي أقرب إلى فئة التعبيريات من الأفعال الكلامية؛ ومن ثم يبدو الآخر فاعلا في موقف التواصل اللساني التداولي؛ وينسج الخطاب ثنائية أخرى وهي بهجة الدرويش؛ وهو يمسك بالحبوب، أو حين يعيد نثرها على السور؛ وهي تنتمي لفئة التعبيريات التي تتعلق بحب التكرار الدائري للخبرات الروحية الداخلية في مرجع المسجد، وتتشكل الاستجابة بفعل كلامي تعبيري آخر يبدو في قرار العلاف بأن يشارك في حدث التكرار الكوني بمنح الدرويش حبوبا أخرى في المستقبل.
وتنتقل الذات إلى الاستعادة الجمالية للآخر من خلال العالم الخيالي الافتراضي، أو الطيفي؛ وهو عالم انعكاسي، يبدو فيه الحائط مثل لوحة، أو شاشة سينما، أو مرآة تعيد تشكيل جلسات المودة، والأصالة القديمة بين الأصدقاء في ديوان متى ينتهي؛ يقول محمد الشحات في قصيدة متى ينتهي:
“ليس يحق لأقدامك السير فى الطرقاتِ
ولا فى التجول بين ربوع المدينةِ
فاجلس ببيتكَ وانظر الى حائطٍ
لم تعره اهتمامكَ يوماً
فصاحبه
عِوضاً عن صحابكَ
وارسم على وجههِ
شارعاً
ومقاهي وبعض الحوانيتِ
وارسم نوادي
وحافلةً إثرَ حافلةٍ تتقاطرُ
فوق الطريق الطويلْ
وإذن نلتقي بالصحابِ
وفى كل يوم اذا ما صحوتْ
أرتدى حُلةً للخروجِ
وأقطف من شرفتي وردةً
وأخرج للشارع الحائطيِّ
وأمرحُ”(4)
يروي الشاعر – في موقف التواصل الأول إذا – حديثه مع صاحبه عبر هاتف؛ وينصحه صاحبه – في المكالمة التليفونية – بأن يقوم بهذه الاستعادة الشبحية لجلسات الماضي مع الأصدقاء، ويستجيب المتكلم للنصيحة بأن يعبر الحائط، يستنزف بنية الانفصال – الاتصال الملتبسة الأولى التي تجلت في وسيط الهاتف؛ فالذات تقوم بفعل التخييل كاستجابة ضمن المحادثة الهاتفية في موقف التواصل التداولي الأول، بينما نجدها في الموقف الثاني تتواصل مع الأصدقاء الافتراضيين / الخياليين المنعكسين على الحائط؛ ومن ثم فالمرجع المكاني الأول هو المجتمع بمدلوله الواسع، وما يتضمنه من وسائط تكنولوجية لا تحقق بنية التواصل الإنساني الأولى في وعي، ولا وعي المتكلم، بينما يتشكل المرجع المكاني الثاني – في حدث التواصل التداولي – في مستويين؛ هما المنزل أو الغرفة، والمستوى الثاني هو الفضاء الافتراضي الممكن أو المرجع الممكن فيما وراء الجدار، وانعكاساته؛ ومن ثم ينحاز الخطاب الشعري إلى عبور اليومي باتجاه الجمالي، وتحقيق أكبر قدر من الصلة مع الماضي في فعل التخييل المقترن بالمرح المؤجل، والانفصال المؤجل معا؛ ويمكننا قراءة ذلك السياق الجمالي المحتمل الآخر من خلال منظور كل من دان سبيربر، وويلسون في دراساتهما المنهجية المتعلقة بالتداوليات الإدراكية؛ فالمتكلم يمنحنا القدرة على إنتاجية السياق من داخل تكرار الإشارة إلى أفعال الرسم، والتخييل؛ ومن ثم تتناظر المقاهي الممكنة، والشوارع الممكنة، والمدن الممكنة، والأشخاص الافتراضيين؛ وقد يعيد مستقبل الخطاب إنتاج مثل هذه الشوارع، والمقاهي من داخل آثار مقاهي نجيب محفوظ، والشخصيات الروائية، والسينمائية، ومدن فان جوخ ليلا؛ فالسياق يفترض – على المستوى الإدراكي – تضاعف الانعكاسات الفنية / الواقعية المحتملة بين صور الوعي، واللاوعي، والواقع.
ويفترض الخطاب وجود جلسات قديمة بهيجة دون أن يذكر تفاصيلها، ولكننا نلمح أثرها في الانعكاسات الجمالية؛ ومن ثم تؤكد تضمينات الخطاب التحول السيميائي الدينامي للذوات، والأشياء، والمراجع المكانية إلى أطياف بديلة؛ ونعاين – على مستوى القواعد النحوية – تكرار المفاعيل / الموضوعات؛ مثل الشوارع، والمقاهي، والأصحاب؛ وكأن الخطاب يشير إلى التضاعف التصويري / الإدراكي المستمر، والتحولات الطيفية المستمرة أيضا؛ والتي تستنزف صلابة الجدران، وحالة الانفصال الملتبسة الأولى؛ ويفترض الخطاب وجود علاقة ارتباط بين الصورة، والذكريات الواقعية؛ لهذا ينسج حجة استدلالية تقوم على تكوين مشاهد جمالية بديلة للماضي من داخل الصورة، وفعل التخييل؛ وعلى مستوى آخر يؤكد حجة أخرى خبرية تقوم على وصف تفاصيل المشهد الخيالي الذي كان قد بدأ في التشكل كظاهرة في وعي الصديق، ثم احتل مساحة المرجع المكاني للمتكلم في حدث التواصل الثاني مع الأطياف.
أما أفعال الكلام فقد تسلسلت في مجموعة من المتواليات التي تتعلق بفئة التوجيهات في نصيحة الصديق، وتحقق لازم فعل الكلام في الاستجابة / التسليم بالأمر، وإنجاز فعل التخييل في الغرفة، وكذلك بين التمثيلات للموقف الخيالي، وتغير نظرة مستقبل الخطاب إلى الجدار؛ فيبدو مثل شاشة للسينما تذكرنا بحديث دريدا عن السينما بوصفها موقعا للأطياف، ولعبها التمثيلي، وتتحقق فئة التعبيريات بين كل من الصديق، والمتكلم، والمستقبل في الانحياز النشط للفعل الجمالي في الواقع.
ويواصل محمد الشحات تأويل الكينونة من داخل سردية علامة الظل التفسيرية، ومحاوراته الأدائية مع الظل بوصفه تجسيدا للذات، والآخر معا؛ ويذكرنا بالتأملات الحداثية حول الذات، وتعددية قوى النفس، ولكن في سياق ذاتي أكبر؛ ومن ثم فهو ينحاز لوجود الظل داخل فضاء الذات الأوسع بين حركتي التناغم، والاختلاف، أو الانشقاق؛ يقول في قصيدة محاورات مع ظلي ضمن ديوان ملامح ظلي:
“حين جلست على شاطئ نهري
لمح الظل ملامحه فوق الماء
فقاومني كيما يهبط،
وارتسمت في عينيه طيور الفرح
فغافلني
كيما يسبح فوق الماء،
فأشفقت عليه،
وحين اهتز الموج،
وضاع الظل،
فعدت”(5).
يربط الخطاب الشعري هنا بين ثيمات التنازع الداخلي، والانحياز للذات / التكوين رغم ذلك الاختلاف؛ فالظل يسبح داخل الذات، وانعكاساتها، وتشبيهاتها على سطح الماء، والمتكلم يشفق على الظل من الغرق، ويعود؛ وهو ما يوحي – في تضمينات الخطاب – بأن الظل ينشق، ويحاور، ويقوم باللعب الجمالي / الأدائي للحظات، ثم يعود للتناغم مع ضمير المتكلم الذي كان أكثر تكرارا في النص؛ ويتضمن الخطاب أيضا فرضية أخرى تؤكد تضاعف لحظات الحضور، وتمثيلاتها الخفية في المشهد اليومي؛ ومن ثم ثراء مدلول الذات؛ فموقف التواصل مع مستقبل الخطاب هنا ينطوي على ذات تتأمل أمام مياه داخلية أو خارجية؛ أي ينطوي المشهد على ذات تعاين انعكاسات القوي الداخلية عبر وسيط الظل؛ ومن ثم يعاين مستقبل الخطاب نوعين من المسند إليه هما الذات المتأملة، والظل الذي يمارس فعل الإغواء الجمالي للصور على سطح المياه ضمن حلم يقظة يتراوح بين الاختلاف، والعودة إلى بنية الصوت الشعري الأولى؛ تشير القواعد – إذا – إلى تكرار الفاعل التجريبي، والفاعل الأول، وعلاقاتهما المتنازعة، المتناغمة معا في سياق المشاهدة الداخلية الإدراكية في حدث التواصل؛ وأرى أن الحجة – في ملامح ظلي – هي حجة خبرية بالدرجة الأولى؛ لأنها تتصل بوصف ظاهرة تحدث في الوعي، وتتجلى بصورة فريدة مؤقتة؛ مثل نغمة موسيقية، أو تشبيه، أو طيف؛ ويمكن لمستقبل الخطاب أن يستنتج حجة استدلالية أخرى تقوم على تأكيد الخطاب للتعددية الداخلية وفق التصور الفرويدي؛ ومن ثم يمكن رؤية الظل ضمن حجة استدلالية تؤكد فرضية التعددية، والعلاقة بين الأنا، والهو في هذا السياق النسبي المحدد، وفي هذا السياق الذي يقبل الاتساع إدراكيا بأن ينقل الظل نفسه في ذوات أخرى ممكنة، ومراجع مكانية ممكنة أخرى في موقف التواصل.
وإذا تأملنا طريقة تسلسل أفعال الكلام – في النص – سنجدها تراوحت بين ثنائية التمثيلات السردية، واستجابة تطور الوعي معرفيا بإشكالية حضور الظل كظاهرة، وثنائية التعبيريات المتعلقة بالانحياز للتناغم، أو الانحياز المؤجل إلى الظل، وتوقع استجابة مستقبل الخطاب استجابة نشطة إيجابية نحو الذات، وإنتاجيتها للظلال والتشبيهات التي تتراوح بين حضورها الداخلي، وتجليها المحتمل كآخر.
هوامش الدراسة:
(1) Read, Gillian Brown and George Yule, Discourse Analysis, Cambridge University Press, 1983, p27, 35.
(2) Read, J. César Félix-Brasdefer, Speech act sequences in Pragmatics of Discourse, V3, Edited by Wolfram Bublitz, Andreas H. Jucker and Klaus P. Schneider, Walter de Gruyter GmbH, Berlin/Boston, 2014, 340: 345.
(3) محمد الشحات، رجل مسكون بالزرقة، دار الأدهم بالقاهرة، سنة 2020، ص-ص 11، 12.
(4) محمد الشحات، متى ينتهي، دار الأدهم بالقاهرة 2020، ص-ص 55، 56.
(5) محمد الشحات، ملامح ظلي، الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة 2021، ص6.