شاهد قراءة في ” محطّة كون – النورماندي.. لـ” حميد عقبي ” في مقياس الفنون الجميلة
أ. د. درية فرحات | الجامعة اللّبنانيّة
السّينما والأدب
السّينما هي فنّ صناعة التّصوير المتحرّك ، وتعدّ من أكثر أنواع الفنّ شعبيّة، والسّينما هي الفنّ السّابع وذلك لفنّ استخدام الصّوت والصّورة سوية من أجل إعادة بناء الأحداث.
والقصة هي تتبّع تفاصيل حدث أو أحداث…سرد حدث أو أحداث. إذًا القصة هي مجموعة من الأحداث يرويها الكاتب/ القاص وهي تتناول حادثة أو عدّة حوادث، تتعلّق بشخصيات إنسانيّة مختلفة، تتباين أساليب عيشها وتصرّفها في الحياة، على غرار ما تتباين حياة النّاس على وجه الأرض.
قد نسأل أنفسنا ما الحاجة إلى التّعريف بفنين نعيش معهما في حياتنا اليومية؟
إنّ التمعن فيهما جاء انطلاقًا مما وُسمت به المجموعة القصصية ” محطّة كون- النورماندي” للكاتب والمخرج والرسّام حميد العقبي. فقد أضاف الفنان العقبي عبارة “قصص سينيمائية قصيرة”، وهنا نتساءل هل من علاقة بين السينما والقصّة؟ وبتعبير أكثر شمولية هل من علاقة بين السينما والأدب؟
قد يتبادر إلى البعض أنّه لا علاقة بينهما، وتنتهي الإشكاليّة. لكن نجد أنّ العلاقة بينهما قائمة، أوّلًا فالسّينما فنّ، والأدب فنّ، أي أنّهما ينتميان إلى الفنون الجميلة المتعدّدة التي حرّكت مخيّلة الشعوب على مدى الزّمن. ولن ندخل في تفاصيل هذين الفنين وعلاقتهما بالفنون الأخرى من رسم وموسيقى وغيرها، إنّما نستطيع الانطلاق من أنّ الأدب قريب إلى السّينما لأنّهما يشتركان بالسّرد، وتحاول السينما التّعبير عن السّرد عبر الحركة، والأدب /القصّة عبر اللفظة.
وهنا نبحث في العبارة قصص سينيمائية قصيرة، فكيف برز ذلك في هذه المجموعة؟
بداية احتوت هذه المجموعة على ست قصص قصيرة، الأولى بعنوان “محطّة مدينة كون” وكانت هي القصّة الأكبر حجمًا في هذه المجموعة، وعليها سنفصّل الحديث.
هذه القصة تنفتح على “حمودي” الواقف كعادته في محطّة القطار ومن خلال ما يراقبه البطل تتوالى أمامنا المشاهد المتحرّكة، فنرى حركة المسافرين ونسمع الأصوات حتى صوت طقطقة الأحذية على رصيف المحطّة، ونشعر بالحركة الدّائمة ومشاهد متقطعة، تنقلنا من حال إلى آخر، لكنّ المكان هو نفسه محطّة القطار.
نعيش في هذه القصّة على عرض سريع لتصوير سينيمائيّ وهو عبارة عن صور للحركة من خلال العرض السريع لصور متقطعة، وما هذه الصّور إلّا مواقف ينقلها “حمودي” بطل الرّواية وعبرها نتعرّف عالم اغتراب الجالية العربيّة في فرنسا التي تظلّ حلم كلّ باحث عن الحرية والكرامة، خصوصا مع كثرة الحروب والاضطرابات في المشرق العربي ودول أفريقية كما يذكر حمودي. وتظلّ مسألة العلاقة بين الشّرق والغرب عالقة في أقلام الكتّاب، يعبرون عنها ويسردون الحكايات، ينقلون نظرة الشّرقي عن الغرب، وهنا تنقلنا هذه الحكاية إلى نظرة الغربيّ أيضًا عن الشّرق، بل لعلّنا نلمح تشابهًا بين النّفوس فحتى في فرنسا تتمنى لوسي لو باعت البسكويت عوضًا عن الورق لوجدت من يشتري منها، وكأنّنا نجلد أنفسنا عندما نقول إنّنا شعب لا يقرأ.
ومن المشاهد التي ينقلها لنا البطل مشهد من يبحث عن المال في فرنسا، ومن يبحث عن الآمان، ومن يبحث عن تأمين أوراق تسمح له بالحصول على أوراق ثبوتية تمنحه الانتماء إلى تلك المنطقة.
إنّ قراءة أحداث هذه القصّة أو المشاهد المتقطعة ليوم حمودي في المحطّة تجعلنا نتلمّس التّأثير المباشر للسينما من خلال البحث البحث المنهجي عن الاستمرارية في الحكي وإعادة تركيب الأحداث بواقعيتها. إضافة إلى اعتماد تقنية الوصف الخارجي مع ترك المتلقي إلى تأويل سيكولوجية الشّخصيّات، وهنا يدخل الحوار في تسهيل ذلك.
ومن الأمور التي برزت في هذه القّصة تأثرًا بتقنيات السينما ما له علاقة بالمونتاح المتناوب، وقد برز من خلال سرد قصتين أو أكثر لا توجد بينهما علاقة تزامنيّة سوى العلاقة السّببيّة أو التّيميّة، وهنا برزت لنا حكايات العديد من الشّبان العرب الذي جمعهم هو المكان أي المحطّة والسّبب هو معرفتهم مع حمودي، وطبعا بالتّوازي مع التّعارف إلى شخصية لوسي الفتاة الفرنسيّة.
أمّا الحركة التي تنتج من تتابع اللقطات بطريقة مستسلسة فهو ما يكسب العمل الإيقاع وتسلسل الأحداث بحسب السرد يعطي القصّة انطباع الحركة، وهو ما تحقّق في قصّة “محطّة مدينو كون”، واللافت أنّ كلمة محطّة تشعرنا الحركة الدائمة، وإذا كان المشهد السينيمائي ينقل لنا حركة القطار، فإنّ وسيلة التّعبير في القصّة قد تكون عبر الوصف أو عبر التّعبير عن الصفير “يسمع صوت صفارة الكمسري، يصبح من السّهل سماع قدوم القطار، يزداد الإيقاع الصّوتيّ والصّوري نشاطًا” ص 9.
وما يربط هذه القصص بالسّينما هو التّعامل مع السّرد بطريقة متقطعة متفرقة بصورة شذرية، يشبه لغة السّينما، وكما هو معروف فإنّ أهم كلمة بالسيناريو (قطع إلى هنا)، وهو ما نتلمّسه في القصة حيث يصل (حمودي) إلى لحظة يقطع فيها المشهد لينتقل إلى مشهد آخر.
واللافت في هذه القصّة أنّها كتبت نفسها، فالسّارد أو الرّاوي يختم القصّة بعبارة ” يستقلّ حمودي حافلة متّجهة لوسط المدينة، ينزل قرب حانة هادئة يدخلها وينزوي في زاوية، يستخرج من جيب معطفه دفترًا صغيرًا وقلمًا يغوص في عالم الحكايات ويحاول البدء بكتابتها”، مفارقة مدهشة تؤكد هوية هذه المجموعة بأنّها “قصص سينيمائيّة قصيرة”، فالقصّة كتبت نفسها، القصّة تحرّكت أمامنا عبر الحركة/ السّينما لتتحوّل إلى اللفظ/ القصّة.
ولم تكن قصص المجموعة بعيدة عمّا رأيناه في القصّة الأولى منها، فإنّ الفنان الشّامل حميد العقبي ينقل لنا في هذه المجموعة مشاهد من المآاة الي يعيشها الناس في وطننا العربيّة، وينقل الجهل ويصوّر مآسي الحروب المؤلمة، والنّزاع بين الشّهوة والجنس من ناحية والفكر من ناحية أخرى.
وإذا طالت قصّة “محطّة مدينة كون”، فإنّ الكاتب في قصص أخرى وخصوصًا في قصّة “لحظة فزع” يقدّم لنا مشهدًا قصيرًا وسريعًا لكنّ فيه الكثير من العبر والأبعاد السّيكولوجيّة للطباع الإنسانيّة وإلى ما نعيشه من إرهاب، وتزييف للجقائق، وهي صرخة لرفض الفكرة التي تطارد العربي وترسمه بصفة الإرهاب، وما الإرهاب الفكريّ إلّا في وضعه بصورة نمطيّة محدّدة.
وفي الختام نقدّم التّحية لحميد العقبي الذي جمع الفنون الجميلة في شخصه محاولًا ترك بصمات الإنسان الأربعة أي بصمة العين وبصمة اللّسان وبصمة الإصبع وبصمة القلب، فجمع الفنون المستندة إلى الحواس جميعها عبر التلقي بالعين والتلقي بالأذن.