في دعوى النسخ

د. خضر محجز | فلسطين
مقدمة:

لا نتناول في هذا المنشور مسألة النسخ في الشريعة ـ وإن كانت قد مضت وانقضت وتوقفت أبداً ـ فهي لدينا ثابتة، بعدة نصوص؛ من مثل قول صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها” (صحيح مسلم).

لكننا نتناول ما يُقال له نسخ في آيات القرآن الكريم، المستقر بين أيدينا، ونتعبد اللهَ بتلاوته.

أولاً: في المنهج:

لقد قيل ـ بغير الحق ـ إن ثمة آيات كانت في القرآن، ثم نُسخت. وهذا باطل، بدليل أنه يناقض التواتر. فمن المتواتر القطعي عند كافة المسلمين، أن هذا المصحف الذي بين أيدينا، يحوي بين دفتيه كامل القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم. فلو قال قائل بأن ثمة آيةً ناقصة، في هذا المصحف، لأجمعنا سوياً ـ على اختلاف فرق المسلمين ـ على رجمه بالكفر، ولكان يستحق ذلك قطعاً.

لقد استقر الأمر ـ من حيث المبدأ ـ إذن، على اليقين بأن هذا القرآن غير ناقص، ولا مبدلٌ فيه شيء. فكيف نرد هذا التواتر القطعي بخبر آحاد، يقول بأن ثمة آيةً كانت هنا ثم زالت؟

أفيجوز ـ منطقياً وعقدياً ـ مواجهة هذا المتواتر القطعي، بخبر الواحد الظني؟ أم يجوز أن يفتروا على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فيقوّلونه كلاماً، زعموا إنه نص آية الرجم، التي أنساها الله رسوله، “المنسوخ حرفها، الباقي حكمها”؟.

لقد افتروا على الله كذباً إذ قالوا بأن “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة” كان يوماً من كلام الله في القرآن. فليت شعري، أولو بصق شخص على هذا الكلام الزريّ الركيك، أيكون قد كفر؟

لا شك ألا أحد يستطيع الزعم بذلك. وفي المقابل نحن نعلم أن لو قال شخص بأن كلمة: (قل) الواردة في آية “قل هو الله أحد” ليست من القرآن، لأجمعنا على رجمه بالكفر.

إذن، فالذين قالوا بأن ثمة آياتٍ منسوخةً في الترتيل هم قوم مبطلون، لأنهم لم يستطيعوا إثبات ذلك بالدليل القطعي.

ثانياً: تحول منهجي:

والآن دعونا نغادر منطقة القطعي إلى الظني، لنقول بأن من الممكن أن يُقال بأنه ربما كانت آية هنا، فأنساها الله رسولَه، ونزعها من قلبه، ومحاها محواً، فصارت في حكم أنها لم تكن.

فإذا قد تقرر ـ منطقياً ـ استحالة معرفة آية منسوخة، بناء على أن الرسول نسيها، فكيف يقول عاقل بأن عمر بن الخطاب ذكرها؟ ألا ترون التناقض الفج؟ أَيُنسي اللهُ رسولَه قرآنا، ثم يبقيه في قلب أحد آخر؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.

فما العمل مع أناس يحتجون بالقرآن لإبطال القرآن؟ ماذا نقول لأناس يحتجون بقوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة/106).

والجواب على ذلك من وجهين:

1ـ الوجه الأول بالنظر إلى مناسبة النزول:

فالحقيقة أن هذه الآية نزلت في سياق التمهيد لتغيير القبلة، من القدس إلى مكة. حيث يقول الله بعد ذلك: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة/115)

فالآية دليل. والقبلة آيةٌ من آيات الله (دليل) يستدل بها القلب على مكان الاستقبال، أو جهة التوجه في الصلاة والدعاء. والقبلة كالشريعة يمكن تغييرها، إذ يأمر الله عبده بالتوجه إلى القدس، ثم يغيرها إلى مكة، ليمتحن قلوب المكَلَّفين: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ (البقرة/143).

لقد كان النبي يحب أن يستقبل مكة، ويقَلِّب وجهه في السماء، في انتظار أن يستجيب الله لنداء قلبه، فأراد الله أن يفعل، فهيأ السامعين ـ من المؤمنين والمعاندين اليهود بالمدينة ـ لذلك؛ بالتأكيد على أن الأمور كلها بيد الله، وأن الآيات من عند الله، يبدل فيها ما يشاء ويثبت ما يشاء: فمن آياته أن خلق آدم من تراب، ثم بدل ذلك بأن خلق أبناءه من بعده من زوجين اثنين، ثم بدل ذلك حين خلق عيسى من امرأة دون بعل… إلخ

2ـ أما الوجه الثاني من وجوه استدلالنا، فبتأمل واقع أحوال التنزيل العزيز في حياة الرسول:

فقد كانت تنزل الآيات على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنها ما يُحكمه الله ويديمه وهو الغالب، ومنها ما يستبدله بغيره فيمحوه من قلب رسوله، ويثبت مكانه ما هو خير منه. فالله يبدل آياته كما يشاء: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (النحل/39). وببدل في قلب رسوله ـ وحده ـ منها ما يشاء: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ـ قَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَر.ٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (النحل/101).

ولا يعرف أحد ما محا وما أثبت. وقد انقضى كل ذلك بوفاة الرسول وانقطاع الوحي.

فالله يُنسي ما يشاء ويُثبت ما يشاء. ولا علاقة للآية بأحكام التشريع المستقرة الآن، بعد أن أتم الله دينه وكتابه.

لا علاقة لكل هذا المثبت الباقي الذي نؤمن به، ولا لذاك المنسي الممحو؛ بالأحكام الشرعية، بل إن علاقته متصلة فقط بإطلاق المشيئة الإلهية، وتأكيد تنزهها عن أي تحكم خارجي.

لا شيء يحد من إطلاق المشيئة أبداً. ولقد أفك من قال بوجوب شيء على الله.

ثالثاً: التدرج في التشريع:

لقد تمسك مدعو النسخ بما هو ثابت من تدرج القرآن في التشريع، زمن التنزيل العزيز: فالكل متفق على أن الخمر لم تحرم مرة واحدة: فقد نهى التنزيل العزيز في البداية عن شهود الصلاة للسكران، ثم بين ـ فيما بعد ـ بأن في الخمر والميسر إثماً ومنافع، فرجح الإثم فيها، لكنه لم يحرمها. ثم نهى عنها في آخر الأمر نهياً جازماً.

ليس في الخمر وحده كان الحال هكذا، بل كذلك في القتال، الذي كان محرماً ثم مباحاً ثم واجباً… وهكذا.

من هنا يمكن فهم أن كثيراً مما يسمونه نسخاً، ليس كذلك، بل هو تدرج يناسب أحوال المجتمعات المختلفة، مع دخولها في الإسلام أول مرة.

فلو دعا داعٍ أهل أوروبا إلى تحريم الخمر، أو إلى الختان؛ فلسوف يأبون الاستماع إليه في الغالب، ولن يكون عند الله إلا أحمق مأزوراً. ولكن عليه أن يرغبهم في حب الله ورسوله، ويتكلم معهم عن جمال الدين السماوي، فإن صدقوه وآمنوا دعاهم إلى الصلاة… لا أن يهجم عليهم بضرورة الصلاة في جماعة، عند كل صلاة، فيرغبون عنه وعن دينه، كما هو واقع الحال في الغرب. ولننظر كيف فهم رسول الله طبيعة هذا الدين فأفهمها:

قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لمعاذِ بنِ جبل، حين بعثه إِلى اليمن:“إِنَّكَ ستأتي قوما أهلَ كتاب. فَإِذا جئتَهم، فَادْعُهم إِلى أَن يَشهدوا أَن لا إِلهَ إِلا الله، وَأَنَّ مُحمدا رسولُ الله. فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخْبِرْهم أنَّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات، في كُلِّ يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فَرَضَ عليهم صدقةً، تُؤخَذُ من أغنيائهم، فتردُّ على فقرائهم. فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإِيَّاكَ وكرائمَ أموالهم، واتَّقِ دعوةَ المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حِجَاب” متفق عليه.

والآن يجب القول بأنهم حمقى، أولئك الذين يسلطون بعض القرآن على بعض بالنسخ. فلقد قيل كثيراً ـ بغير حق ـ بأن منع الإكراه في الدين منسوخ بآيات الجهاد، خصوصاً بالآية التي يسمونها “آية السيف” التي تقول: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة/5)

هذا والله أعلم.

اللهم اجعل هذا منك ولك وفيك.

وصل اللهم على نبينا محمد وآله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى