قواعد الاقتصاد في مقدمه ابن خلدون (1)
د. إسلام إسماعيل أبو زيد | عضو اتحاد المؤرخين – مصر
وضع ابن خلدون أسس عدد العلوم الإنسانية،ولا سيما علم العمران البشري ,ومع ذلك،فإن إسهاماته الكبيرة في وضع قواعد علم الاقتصاد بما ذكره في مقدمته,يجعلنا نضعه في تاريخ ذلك العلم كواحد من رواده.
ويجد الباحث في الفصل الأول في “المقدمة”يشير إلى مزايا التخصص وتقسيم العمل باعتبارها شرطاً من أجل البقاء على قيد الحياة،ويوضح هذا المفهوم من خلال استعراض دقيق للمهارات اللازمة من أجل إنتاج مستوى الكفاف من الغذاء.
يوضح “ابن خلدون” أن قوة الفرد البشري المفرد غير كافية لتمكنه من الحصول على الطعام الذي يحتاجه,فلو افترضنا أن كل ما يحتاج إليه الإنسان للتغذية هو الخبز، فإن الأمر حتماً يتطلب القيام بالطحن والعجن،وهي العمليات التي يحتاج القيام بها إلى الأواني وأدوات معينة لا يمكن الحصول عليها إلا بمساعدة الحرفيين،مثل الحدادين.تابع “ابن خلدون” في شرحه للفكرة التي لم يطلق عليها بالمناسبة نظرية،قائلاً “حتى لو افترضنا أن الرجل يمكنه العيش من خلال أكل الحبوب غير الجاهزة،فإن الحصول على تلك الحبوب في الأصل يتطلب عدة أمور من بينها الزراعة والحصاد ثم فصل تلك الحبوب عن قشرتها,وبالتالي لا يستطيع الإنسان بمفرده الحصول على احتياجاته من الغذاء دون التعاون مع أقرانه.
قسم “ابن خلدون”الاقتصاد إلى ثلاثة أجزاء هي : الإنتاج والتجارة والقطاع العام،في حين أن أسعار السوق في نظريته شملت الأجور والأرباح والضرائب,وفي الوقت نفسه قام بتحليل سوق السلع والعمل والأراضي,وقد قاد هذا النهج المنظم “ابن خلدون”إلى وضع أسس نظرية القيمة بالعمل.
كانت فكرة “ابن خلدون”هي أن القيمة المنتجة ستساوي صفرا إذا كانت مدخلات العمل تساوي الصفر أيضاً،وهي الفكرة التي تنتمي بامتياز إلى الاقتصاد الكلاسيكي، رغم أنه تم تناولها من قبل “ابن خلدون”قبل فترة كبيرة من ظهور الاقتصاد الكلاسيكي كما تناول عدد من القواعد الأخرى …..
العدل أساس الاقتصاد:
يذكر ابن خلدون “العدل تُحْفظ به العمارة فالظُّلم يخلُّ بحفظها”،ويترجم الظلم في البلد من خلال “وضْع الضّياع في أيْدي الخاصَّة”،وكذلك يقوم المفسدون “بالعدوان على النَّاس في أموالهم”؛لذا فإنَّ ابن خلدون يُوجه نصيحةً فيقول”عليْنا أن ننزع الظلم عن النَّاس؛كي لا تخْرب الأمصار وتكسد أسواق العمران،وتقفر الديار،خاصَّة وأنَّ الشَّارع أشار في غير موضع إلى تحريم الظلم”.
يقوم ابن خلدون بالذَّهاب إلى أبعد من الحديث عن رفْع الظلم إلى المُدَد الزمنيَّة التي تستغْرِقها الدَّولة حتى تظهر آثار الظُّلم فيها،حيث يقول:”إنَّ نقْص العمران بالظُّلم يقع بالتَّدريج”،ويتوقَّف طولُ وقِصَر زمن الخراب “حسب كِبَر حجْم المِصْر”.
ويقول:”يقع الخراب بالظُّلم دفعةً واحدةً عند أخْذ أموال النَّاس مجَّانًا،والعدْوان عليْهم في الحُرم والدماء،ويقع الخراب بالتدريج”،بإحْدى الوسائل الثَّلاثة الآتية:
1- بذرائع باطلة يتوسَّل بها؛كالمكوس (الضَّرائب) المحرَّمة والوظائف الباطلة.
2- تكْليف الأعمال وتسخير الرعايا بها حيثُ يغتصبون قيمة عملهم.
3- التَّسلُّط على النَّاس في شراء ما بأيديهم بأبْخس الأثمان.
القوانين الاقتِصاديَّة عند ابن خلدون:
وقدِ اكتشف ابنُ خلْدون قوانين اقتِصاديَّة متعدِّدة،طبعًا استِنادًا إلى كتاب الله وسنَّة الحبيب المصطفى – صلَّى الله عليْه وسلَّم – وفقه الواقع،يُمكن أن تصنَّف في مجموعتين:
الأولى: تتضمَّن قوانين تعمل على تفسير نقْل المجتمع من حالةٍ إلى حالة أخرى، أو من مرحلةٍ إلى مرحلة.
والمجموعة الثَّانية: تتضمَّن قوانين تعْمل على تفسير متغيِّرات اقتِصاديَّة معيَّنة.
من أمثِلة النَّوع الأوَّل: القانون المفسّر لعلاقة العمران بالصَّنائع،والقانون المفسّر لعلاقة العمران بالعلم والتَّعليم.
ومن أمثِلة النَّوع الثَّاني: القوانين المفسّرة للأثمان،المتضمّنة في نظريَّة القيمة عند ابن خلدون.
وفائِدة القانون عند ابن خلدون يُحَدِّدها النَّص السَّادس،فالقانون مِعْيار للصِّدق والصَّواب،أو هو مِعْيار لتَمْيِيز الحقِّ من الباطل،والقانون عنده معيار لتمْييز الحقِّ من الباطل،وبذلك تكون له مرجعيَّة بالنسبة للماضي والحاضر،ولَم يسحب ابن خلدون مرجعيَّة القانون إلى المستقْبل؛والسَّبب في ذلِك هو إيمانه بأنَّ الغيب لله يُجريه وفْقَ إرادته.
موقف ابن خلدون من تدخُّل الدَّولة في الحياة الاقتِصادية:
يقِف ابن خلدون موقفًا متشدِّدًا من تدخُّل الدَّولة في الحياة الاقتِصاديَّة،خاصَّة في حالة الظُّلم والإفْساد والاحتِكار والتسلُّط،كما نُشاهِده عيانًا في هذا العصْر،من خلال مساعدة الدَّولة لأصحاب النفوذ المالي،والقضاء على أصحاب المقاولات الصُّغرى،الَّتي لا تتلقَّى الدَّعم من طرف الدَّولة،وبالتَّالي تتعرض للإفلاس.
لذا؛يؤكِّد أنَّ “أكثر الأحكام السلطانية جائِرة في الغالب؛إذِ العدل المحض إنَّما هو في الخلافة الشرعية وهي قليلة اللَّبث،فالسُّلطان والأمراء لا يتركون غنيًّا في البلاد إلاَّ وزاحموه في ماله وأملاكه،مستظلِّين بحكم سلطاني جائر من صنعهم”.
لكن ابن خلدون يرفُض تدخُّل الدولة المباشر في الإنتاج والتِّجارة؛لما يترتَّب عليه من أضرار اقتِصاديَّة،وأهم وجوه الضَّرر تتلخَّص في القضاء على ظروف المنافسة السَّائدة في السوق،واتِّخاذ الدَّولة وضعًا احتكاريًّا؛لقوَّتِها الاقتِصادية،واعتمادها على نفوذها وسلطانِها في البيع والشراء،واستِنْزافها رؤوس الأموال السَّائلة لدى المنتجين والتجَّار،ممَّا يقعدهم عن السعي للكسب والمعاش،وينتهي كلُّ ذلك إلى تقليص الجباية وانخفاض موارد الدَّولة،وهي نتيجة مناقضة للهدف المبتغى من وراء تدخُّل الدَّولة في النشاط الاقتِصادي.
فمن أعظم صور الظُّلم وإفساد العمران والدَّولة في رأي ابن خلدون:”التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان،ثمَّ فرض البضائع عليهم بأرْفع الأثْمان،على وجه الغصب والإكراه في الشِّراء والبيع”،فإذا تكرَّر ذلك فإنَّه يدخل على الرعايا “العنت والمضايقة وفساد الأرباح،وما يقبض آمالهم من السعي في ذلك جملة، ويؤدي إلى فساد الجباية،فإنَّ معظم الجباية إنَّما هي من الفلاحين والتجَّار،لاسيَّما بعد وضع المكوس ونمو الجباية بها،فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة وقعدَ التجَّار عن التِّجارة،ذهبت الجباية جملة،أو دخلها النَّقص المتفاحش”.
وهكذا يخلص ابن خلدون إلى أنَّ تدخُّل الدَّولة في الشؤون الاقتِصاديَّة “مضرٌّ بالرّعايا ومفسد للجباية”،ويرجع ذلك لأنَّ هذا التدخُّل يقضي على المنافسة ويدعم الاحتِكار ويضيع تكافُؤ الفرص،ويضعف الحافز الاقتِصادي لدى الأفْراد.
يتبيَّن لنا في الختام أنَّ ابن خلدون شخصيَّة شموليَّة في التَّفكير الاقتصادي؛إذ سعى من تجرِبته الميدانيَّة وتبحُّره في العلم الشرعي إلى الخروج بمواقف وتصوُّرات اقتِصاديَّة،أصبحت إحدى الرَّكائز الأساسيَّة لبعض القواعد النظم الاقتِصادية الحاليَّة.