من أدباء العصر

د. علي زين العابدين الحسيني | أديب وكاتب أزهري

توطدت صلتي بأكابر الثقافة في العصر الحاضر من خلال قراءة ما وقفت عليه من منجزاتهم، وما أنا ببالغ حق الثناء عليهم وإن أطنبت وتأنقت، يكفي أنهم أثروا حياتنا الأدبية بكثيرٍ من الأعمال الجليلة، ولهم تأثير مباشر أو غير مباشر على كل من جاء بعدهم، لا أملك إلا نقل صورة مختصرة عن أدبهم مما عرفته في كتاباتهم، قد يسميها البعض إظهار ما تميز به كل عَلَم، وقد يعدها آخرون من قبيل النقد، وأياً كانت التسمية فهي كتابة عن استحياء موجزة نظراً لطبيعة المقالات وما يستلزمه المقال من عدد كلمات لا يتجاوزه.

المنفلوطي

أحد كبار “الرواد” الذين أقاموا صرح الأدب العربي المعاصر، “حجة الله في الإنشاء” في الوقت المعاصر، فيض الشعور، عفو البديهة، سليم الذوق، قويّ الحافظة، يتلمس ألوان البديع، رسائله وقصصه داعية إلى الفضيلة، ناطقة بالأخلاق الرفيعة، مات منذ سنين ولكن أدبه بقي حياً .. وسيبقى، قرأت له وانشغلت بكتبه زمناً حتى صرت أتحسس صدق مشاعره بين سطور كلماته، وأميل في كتابتي القصصية إلى أمثال “عبراته”.

الرافعي

أحد أساطين العصر، منزلته سامقة، وشخصيته أصيلة، وأفعاله نبيلة، وآثاره إبداعية باقية، عميق الفكرة، جزيل العبارة، متوقد الذكاء، متمرد الطبع، رأس مدرسة نثرية فريدة، مهمته الأساسية في كتاباته إعلاء شأن القيم، وتجسيد الفضائل، والاعتزاز بالعربية، تصوره وتصويره عربيان خالصان، حمل على كتفيه أعباء أمة بأسرها في ردّ شبهات المعترضين على العربية وفنونها، يكاد وحي قلمه أن يكون وحياً منزلًا!

مي زيادة

لم تتح الحياة الأدبية أن تنكر ظاهرة الآنسة “مي زيادة” في تاريخ الأدب العربي المعاصر، الأديبة الكاملة، نابغة الشرق، وزعيمة أديبات العرب، طموحة القلب، بارزة الشخصية، نبيلة العاطفة، عذبة الروح، تجمع حولها المختلفون رأياً وتفكيراً، هي خير دليل على أن الثقافة الهادفة تجمع ولا تفرق، اجتمع في صالونها مصطفى الرافعي وعباس العقاد ومحمد رشيد رضا ومصطفى عبد الرازق ومحمد حسين هيكل وإبراهيم المازني وخليل مطران وأحمد لطفي السيد وغيرهم على اختلاف مشاربهم وتعدد توجهاتهم، في عهدها عاش رواد الأدب زمناً خصباً بالنشاط الثقافي، والعلاقات الإنسانية، والتعددية المجتمعية.

أحمد حسن الزيات

خريج مدينة “المنصورة” بلد الشعر والأدب، بزغ أدبه من بلاغة الأزهريين وثقافة الفرنسيين، ذو أسلوب واضح، ينحو في كتاباته منحى الجاحظ، وسار في نفس المدرسة على اختلاف في أسلوبهم أربعة: المنفلوطي، والرافعي، والمازني، وطه حسين، ويشبه أسلوبه الناصع أسلوب المنفلوطي، رائد مجلة “الرسالة” وعميد كُتّابها، و”رسالته” هذه معتنيةٌ بالأدب والثقافة، ناشرة لأعلام العصر ورواده، بقيت أنفاسه الأدبيّة في كتابات “تلميذه النجيب” محمد رجب البيومي، وبواسطة أستاذنا البيومي تعلقتُ بالزيات وكتاباته وعقليته، ومارست العكوف على نصوصه، وبه يتصل سندنا في الكتابة والإنشاء، فقد أخذت عن أستاذنا رجب البيومي أحد “خريجي” مدرسته، وهو أخذ عن أستاذه أحمد الزيات، وهو عن سيد بن علي المرصفي ومصطفى المنفلوطي وغيرهما من رواد عصره.

عباس العقاد

عبقرية ناقدة ثائرة، ذو بصر شديدٍ بضروب المعرفة، قارئ نهم، كثير الاطلاع، بارز الشخصية، متوقد الذكاء، سريع الفطنة، صادق المدح، لاذع الهجاء، عاش حياته مع الصراع، وبدأها بالصراع، رأس مدرسة “الديوان”، يعتد برأيه إلى حد العناد، تحامل في كتاباته على بعض الأدباء الفضلاء، وله في ردوده ميزة، أنه يواجه من يتصدى له علانية، ويدبر عمن يسئ إليه في الخفاء، شأنه شأن العربيّ الأصيل.

إبراهيم المازني

أديب مرح، فكه، خفيف الظل، ذو فيوضات معرفية، وذكريات متعددة، يضمن النكت في كتاباته كما يرسلها في مجالسه، انتمى لمدرسة “الديوان”، ثم خلع عباءتها، وإن بقي الانتماء كامناً في نفسه، تتجلى في كتاباته فن “المقالات القصصية”، وهو من رواده المعاصرين، ينتزع كتاباته من وحي حياته وبيئته ومخزون الحافظة، يرفرف بجناحيه على أبناء جيله، وقدرته أكبر من إنتاجه، يربأ بنفسه أن يغشى مواضع الهلكة والخصومة بسبب لقمة عيشه، وإن اضطر لذلك يقاتل مُعارضه بالتهكم عليه والسخرية منه أكثر من معارضته بالحجة والبيان.

طه حسين

دائب في الإنتاج والإنشاء، وقبلهما كان دائباً في القراءة والبحث والمطالعة، متمرد الطبع، صعب المزاج، معتد برأيه إلى حد الاكتفاء بنفسه، حياته سلسلة متواصلة من الجهد وبذل النفس في سبيل فكرته، ولأسبابٍ كثيرة لا تخفى هُوجم من كثيرين، أصابوا الحق في بعضها، وتحاملوا عليه في أمورٍ، أشدها عندي ما سمعته عنه من أحدهم: أنه رجل لا يحسن الكتابة!!
في قصة حياته كفاح ذاخر بالقصص الملهمة، ولو كان غراً صغيراً لما التفت إليه كل هؤلاء بمدح أو نقد، في “أيامه” سرد عظيم للحكائين، يظهر فيها علو قلمه، وقوة تصوره، ودقة تخيله، لولا ما تواتر عنه من أنه فاقد البصر لما تخيلت أن رجلاً “ضرير البصر” يصف أشياء كثيرة بهذه الدقة المتناهية.

زكي مبارك

أديب مطبوع، جميل الأسلوب، كثير النقد، ذو أسلوب تحليلي، قروي النزعة، بارز الإنتاج، قوي الحافظة، صليب الرأي، كتاباته واسطة العقد، يعبر فيها عن الأصالة العربية، ويغترف من الثقافة العالمية، أدخل نفسه في معارك كثيرة وخصومات متعددة، فأرهق نفسه بتحميلها أكثر مما تحتمل، يعتز بنفسه ورأيه إلى حد المخاطرة، يعيش في السماء ويحلم بالمدينة الفاضلة، يتأثر قلبه بما يسمعه ويبلغه، فينفعل قلمه بسرعة وبقسوة، ويخرج من تقدير مجهوده الثقافي إلى حدّ التفاخر به.

توفيق الحكيم

رجل واع منذ نشأته الأولى، يتعامل مع الآخرين بأريحية فطرية، حياته متصلة بحياة إنتاجه الأدبي، قليل التقلب في الآراء، والتغير في الاتجاه.

محمد حسين هيكل

كاتب كبير وأديب ذواقة ممارس، واسع البال، رصين العقل، علمه أوسع من إنتاجه، اختطفته السياسة ولم يسترده الأدب منذ انشغاله به .. وا أسفاه!

محمود أبو الوفا

من شعراء، جماعة “أبولو”، عرف بمعريّ عصره، وشاعر البؤس، عمل عدة أعمالٍ قبل تفرغه لكتابة الشعر، منها بائعٌ للفول المدمس، وقهوجي، ووسيط الأراضي الزراعية، شهد ببراعته في الشعر أحمد شوقي وخليل مطران وحافظ إبراهيم، وفاق شيخ المعرة في مآسيه فلم يكن رهين محبسين كأبي العلاء، بل كان رهين عدة محابس، فقد بترت ساقه اليسرى صغيراً، وهو في سن العاشرة من عمره، وتوفي والده في اليوم الذي أجريت فيه عملية بتر ساقه، لم يحظ بحفاوةٍ كشاعر من الشعراء العظام.

سلامة موسى

محيط بكل شيء، وكتب في كل شيء، كتبه غنية، وثقافاته متعددة، إلّا أنه يؤمن بالغرب إيماناً مطلقاً يخرج في بعضه عن حد العقل، فيعتقد أن الغرب كامل في كل شيء، حتى اتهم بالتطرف في الرأي، له ميزة فضلى، وهي تراجمه للعلوم الغربية إلى العربية.

أحمد أمين

عاش طيلة عمره مصاحباً للمعرفة، حريصاً على الثقافة، جامع لمدارس عديدة، أزهري التخرج، ثم ذهب إلى دار العلوم والقضاء الشرعي، وانتقل بعدها إلى التدريس في الجامعة، وانتهى به المطاف إلى عالم الكتابة فأنتج الأعمال النافعة، صنيعة توجيه البيئة، وإلهام الفطرة، مثال الفكرة السليمة، والثقافة القويمة، والرجولة الكاملة، قطعة خالدة من ثقافتنا المعاصرة، كتبه أنيقة الأسلوب غزيرة المعاني، خير ما يوصى بها للناشئة المتأدبين.

كامل الكيلاني

عاش للقصة، وتفرغ لها، وحشد كلّ إمكانياته وجهوده فيها حتى أخرج قصصاً كثيرة تربو على المائة والخمسين، خير مثال على أن من أتقن فناً والتفت إليه بكامل اهتماماته أفلح فيه وصار رأساً من أربابه.

محمد رجب البيومي

أستاذي الأكبر مؤرخ الأزهر وأديبه، بحر العلوم والآداب، خريج مدرسة “الرسالة”، وأحد أركان الأدب المعاصر، صنيعة جهد الأعلام، يربط في كتاباته الشرق بالغرب، غرست في أعماقه الحضارة الإسلامية منذ صغره فاستولت على أفكاره، وامتزجت بمشاعره حتى أخرج لنا موسوعته، عليه تتلمذتُ، وامتشقت قلم التعبير والكتابة عن طريقه، وبفضل توجيهاته ومتابعته كتبتُ، فاتخذته منذ عرفته أباً روحياً لي، فيه فضيلة كبرى لم أرها في غيره أنه ينهض بغيره إلى المعالي كما ينهض بنفسه، فهو بحر متلاطم الأمواج في إفادة الآخرين، طيب القلب، وقور النفس، موطأ الأكناف، مصروف الهم إلى مشاريعه العلمية، لو ترك إلى حاله لما خرج من مكتبته ولا قام من قراءاته، كثير القراءة والكتابة على حد سواء، وافر الإنتاج، تجمع كتاباته بين الفائدة العلمية واللذة الروحية.

وديع فلسطين

زعيم الأدباء المعاصرين، وشيخ الصحفيين الكبار، مخزن معلومات الثقافة وأهلها، وربيب أدباء المشرق والمغرب والمهجر، أمثولة على صدق الوفاء، سمح المعاملة، رضي النفس، رقيق الطبع، لاحقه الظلم البين في شبابه وكبره، حاول طيلة عمره الفرار من التصنيف الحزبي ولم يفلح، يظهر لي أن معاملته السمحة وحبه للأدب والمثقفين على اختلاف آرائهم أوقعته في مشاكل كثيرة، يظل الرجل أعظم مَن عرفتهم وفاء بأساتذته وأصحابه وتلامذته، إليه المرجع والمآب في حل المشكلات الأدبية أو الاستفسار عن سيرة أدباء القرن الماضي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى