بوحُ النّاي

هند خضر | سورية

قبلة موسيقيّة يطبعها العازف على أطراف النّاي ،تستلقي غضّة على بدايات الّلحن ،يلتقط النّفَس ويتشبّث ببوّابة الموسيقا دون استراحة ،يطلق العنان لأفكاره ،يسرح مع خياله بعينين مغلقتين ،خاشعاً في حضرة الالتياع و دامعاً في حضرة الأنين ..
الدّنيا على موعد مع اختباء الشّمس في خاصرة السّماء ،عقارب السّاعة تتقدّم دون أن تأخذ بحسبانها حالة قلوب مهجورة كشطآن حيث لا وميض ولا شراع ..
باب وظلّ يدين باردتين ،تحت النّافذة المبلّلة بدموع الورد جلس عازف يحمل في حقيبته ناياً ،عندما بدأ بالعزف أصدر مع موسيقاه وجعاً لا يرحم ،أطلّت معه مدى على شرفتها الغافية على رفوف الزّمن ،لقد سرقها لحنه من نفسها حتّى أنّها لم تشعر إلّا وقد انهمر دمعها مع أوّل بحّة لصوت القصب ،أنصتت إليه وقلّبت أحزانها بين كفّيها وتجدّد ذاك الجرح العميق الّذي أورثها ذبحة في القلب بعد رحيل والدتها فوجدت نفسها مضطرة للعيش مع زوجة أبيها ..
مدى من عمر الزّهور ،فيها من حنين الغيم ،هطول المطر وعبق الرّياحين ،نسمات الرّبيع تلفحها لتحنو وتعطف على حالها ،لقد عانت ما عانته من الظّلم في الوقت الّذي يُفترض أن تعيش فيه أجمل أيّامها إلى أن ظهر لها هذا الموسيقيّ الحالم ..
أضحت تنتظره كلّ يوم كي تعانق وصوله بذراعيها ،نبضات خافقها تنذرها باقترابه ،بضعة تأمّلات تتزامن مع معزوفته تُحدث اضطراباً في خلاياها ،تسافر معها إلى أمكنة خالية من البشر إلّا منهما ،لقد نطق لسان النّاي وباح لها بما يخفيه صاحبه وهذا ما جعل خيول انتظارها بيضاء ..
العازف العاشق يرسل موجات حبّه للفتاة الّتي استحوذت على تفكيره وألحانه عبر أثير الرّغبات ،نهض عن المقعد الّذي كان شاهداً على حكايتهما ،رفع نظره قليلاً وقال :
مدّي يدك لي لأصعد إلى فضائك فتنقشع غيوم حزنك
مدى :تعالَ إليّ ليحاصر عطرك عالمي فأستنشقه حتّى تثمل أنفاسي وأستعيد وعيي كليلٍ يشكو من العتمة وفجأة تلقي النّجوم بظلّها المتلألئ المضيء على وجهه الكرويّ ..
العازف :سيكون وجهك ملهماً لأصابعي كي تعزف على إيقاعه نغماً فريداً عابقاً بالشّغف ..
مدى :لطالما قذفتني أمواج الحياة على شواطئها وألقت بي في القاع لهذا ستكون كفّك هي خشبة نجاتي من هذا التّيهان …
ثمّة أحلام جاثية على الأرصفة،تجمّدت من الصّقيع ، تحتاج من يحتضنها لترسو على ميناءالدّفء ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى