ما دلالة (فيه) المتأرجحة في قول ربنا: (ذلك للكتاب لا ريب [فيه] هدى للمتقين)
عبد الله جمعة | الإسكندرية – مصر
من وقتٍ لآخرَ – كأي مسلم – أفتح كتاب الله أتلو بعضًا من آيِه مستأنسًا.. ولكنَّ بي آفةً لطالما عذبتني وأخذتني عن إتمام التلاوة في أكثر الأوقات، فكلما هممتُ بهذا العمل أجد دماغي تدور عند كل معنىً أو مُرَكَّبٍ فتبدأ الأسئلة فيالطفو والدوران لتأخذني بعيدًا فأوقف التلاوة وأظل منشغلاً في البحث عن جواب لكل سؤال ثار في تلك الدماغ المُرْهِقَة .
فجر الأمس فتحتُ الكتاب وقلت في نفسي سأبدأ التلاوة من أول سورة البقرة حتى أخلص من آفتي التي منعتني من إتمام تلاوته مذ وعيتُ عليه؛ إذ ذلك المفتتح قد تلوته كثيرًا ولن أجد فيه ما يشغلني فاستعذتُ بالله وسميت باسمه وبدأت فوقعت عيني على تلك العلامة التي طالما شغلتني واستوقفتني في الآية الثانية (ۛ) والتي تتكرر مرتين؛ إحداهما قبل شبه الجملة (فيه) والأخرى بعده “ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)[البقرة].. وهي علامة يعرفها كلُّ دارسٍ قواعدَ التلاوةِ مؤدَّاها وجوب السكوت عليها في أحد الموضعين على ألا يقف القارئ في الموضع الآخر . ما هذا بجديد ! ولكن السؤال الذي ألح وظهر هو (لماذا)؟ لماذا أسكتُ وجوباً على أحد الموضعين – ولي حرية الاختيار – مع وجوب وصل الموضع الآخر؟ وامتدت (لماذا) إلى “لماذا هذا الموضع من القرآن تحديدًا؟” كنتُ سابقًا قد تناولتها صوتيًّا من خلال ما يسميه القراء بالسكتة الصوتية أوما يصطلحونه بـ”سرقة النَّفَس”.. ولكن السؤال (لماذا) لا يفارقني!. أغلقت كتاب الله بعد حيرة طويلة كالعادة وسيطر عليَّ ذلك السؤال حتى بزغ نور الصباح وهممتُ بالذهاب إلى العمل.. ارتديتُ ملابسي وتوجهتُ لعملي ولكن جسدي كان يسعى في اتجاه و رأسي تسعى في اتجاه آخر وكأني لا أرىٰ أمامي سوى تلك الآية وتلك العلامة .
ظللتُ طوال النهار منشغلاً بين زملائي الذين يتوافدون عليَّ يحادثونني ولكني لا أكاد أسمع منهم شيئًا . انقضى يوم العمل وهممتُ بالانصراف وخرجتُ إلى الشارع لا أرى أمامي سوى تلك العلامة ولا شيء سواها.. وقفتُ أنتظر وسيلة مواصلات فأقبل “ميكروباص” يعيدني إلى بيتي، ركبتُ خلفَ السائق مباشرة فلاحت أمامي المرآة فوق رأس السائق أنظر فيها فأرى وجهي شاخصًا وفوق المرآة كفٌّ كتب عليها المعوذتان، علقها السائق تتأرجح يمينًا ويسارًا فنظرت إليها وإذ إنني أرى شبه الجملة (فيه) تنزل منزل تلك الكف وتتأرجح محلها يمينًا ويسارًا وعلى يمينها “ذلك الكتاب لا ريب” وعلى يسارها “هدىً للمتقين” و”فيه” تتأرجح بينهما . وحين تتحرك ناحية اليمين أقرأ “ذلك الكتاب لا ريب فيه” وعلى اليسار “هدىً للمتقين” وحين تتأرجح إلى اليسار أقرأ على اليمين “ذلك الكتاب لا ريب” وعلى اليسار “فيه هدىً للمتقين” فقلتُ في نفسي: هذه الـ “فيه” المتأرجحة لها فعل سحر في تنويع المعنى وتغييره تغيير اكتمال لا اختلاف .
هل السر في حرف الجر (في) … ؟ . نعم !
إن (في) حرف الجر يطلق عليها النحاة “حرف جر ظرفي يفيد اشتمال الظرف على المظروف”.. فإنك إن قلتَ “قرأت في الكتاب” فإن ذلك مغاير تماماً لقولك “قرأت الكتاب”؛ ففي الجملة الأولى قد اعتبرتَ الكتاب ظرفًا ومحتواه مظروفًا وقد أخذتك (في) لتجول في تفاصيل المظروف شيئًا شيئًا لم تترك شيئًا وأما في الجملة الثانية فإنك قد قرأت الكتاب جملة لا تفصيلا وكأنك قد ألممتَ به إجمالا دون الخوض في تفاصيل جزئياته .
عدتُ إلى الآية مُعْمِلا فيها تلك الدلالة وما زالت (فيه) تتأرجح؛ فتارة أتلو “ذلك الكتاب لا ريب فيه – هدىً للمتقين” وتارة أخرى أتلو “ذلك الكتاب لا ريب – فيه هدىً للمتقين” …
في التلاوة الأولى تأرجحت (فيه) إلى اليمين فأصبح نفي الريب عن الكتاب تفصيلا أي نفي الريب عن كل شيء فيه حتى أصغر وحدة التي هي الحرف مع انتزاع التفصيل عن جملة اليسار “هدىً للمتقين” فأصبح الكتاب – جملةً – هدىً دون أن تدخل في تفصيله بما يفيد أن ذلك الكتاب قادر على إحداث الهدىٰ حتى قبل أن تدخل في تفاصيل محتواه.. وفي التلاوة الثانية تأرجحت (فيه) إلى اليسار فاحتال نفي الريب عن الكتاب جملةً من قبل الخوض في تفصيله وانتقل التفصيل إلى جملة هُدَىً وكأن المدلول أن كل تفصيلة في هذا الكتاب لقادرة على إحداث الهدى.. وكانت النتيجة أن هذا الكتاب لاريب فيه جملة وتفصيلا ثم إن الهدى الذي فيه هو هدىّ جملة وشتفصيلا.. لتتكامل التلاوتان فتؤكدان نفي الريب وتحقيق الهدى يقينًا لا يقبل أيَّ مستوىً من مستويات الشك.. وأين موقعها؟ في مفتتح سورة البقرة وأنت على أعتاب الكتاب وكأن الله يُؤَمِّنُكَ بأنك داخل إلى كتابِ لا تتملكك أية شبهة فيما ستجد فيه.