غبار السِّنين
يكتبها : محمد فيض خالد
باللهِ يا طير تعطيني جناحيني
لافرّ وانزل على روحي حبيب عيني
من حبني يوم حبيته سبوعيني
ومن حبني شهر حبيته سنتيني
صابح مسافر تسيبيني
لمين يا عيني
على وقعِ هذه الكلمات الرَّاقصة، وفي ساعةِ الغروب تعوّدت “بدرية” هدهدة ابنتها” نوال”، سرعان ما تَغيب في وجومٍ طويل ، كأنّما تتجرّع كؤوس الشَّقاء غصَصا، في شكايةٍ كئيبة ، تَتفلّت قليلا تحمل أنفاسها الملتاعة ، بسماتٍ رقراقة تغمر بها فتاتها؛ تسليةً عن محنتها .
مُذ رَحَلَ زوجها ” مدحت” وهي منكبة على أحزانها ،تُرسل الدّمعَ السّخين مُوزّعة البال لا تَستسيغ أطايبَ الدّنيا ، تهرع كُلّما احتَدّ بها الحَنين ، إلى صندوقٍ حوى أثرا للحبيبِ الرّاحل، أساور من فضةٍ، خواتمَ من عقيق ، صورا لهما ، حيث توطّن الحُبّ ورفّت السّعادة ، تطوفُ بتقاطيعِ وجهها الصّبوح ، الذي لم يفقد رصيدا من جَمالهِ تحتَ سياطِ الأحزان ابتسامة خافتة، ثم تُعاود مدامعها تَسحّ لهفةً واشتياق ، في شهقاتٍ عاتبة ، وكَأنَّ الموت قد أرخى جناحيهِ من هذهِ البَائسة المنكوبة في زوجها دونَ العالمين.
لا تَفتأ تتمثّلُ أمامها أحداث تلك الليلة الموعودة، حين هربت ” بدرية ” الغَجرية مع ” مدحت ” بيه ابن الأكابر بعدما شغفتهُ حُبا، افتتنَ بها حتّى سَدّ حُبّها عليهِ مسالِكه، جَمحت بهِ السَّعادة، ليطوف خلفها أفراحها وسهراتها، ما إن يراها حتى يتَبدّى زائغَ البصر مُرتَاعا، لا يمسك نفسه إلّا عن جهدٍ جهيد ، يوما بعد يومٍ اطمأنت إليهِ ، وانست إلى جوارهِ، تقول منبسطة الأسارير:” لم يكن من أولئك المترفين الذين اتخذوا القرشَ حَبائلَ يتصيّدوا بها البنات ، أو كلمات الولَه المعسولة خديعةً كي يقضي مأربه”، وفي أمسيةٍ صيفيةٍ شَخَصَ أمامها كالمحمومِ، تَضطرِبُ في جَوفهِ جذوة الحُبّ، وبعزيمةِ العُشاق قد فَرّقَ الهّلع نفسه ، فاتحها:” هل تقبلين الزَّواجَ مني؟!”، ساعتئذٍ انفكت مفاصلها ، لتجدَ نفسها مُلقاة بينَ ذراعيهِ، لا تملك من حِيلةٍ؛ غَير أن تُغامِر في سبيلِ الحُبِّ الصَّادق، أمّا عائلته ومنذ علموا بالحادثِ، كادوا كيدا، ائتمروا عليهِ وتنكّروا له ، ولسان حال الوجاهة السَّخيفة يُردِّد:” كَيفَ يرتضي ابن الحَسب هذا العار ، فيلطِّخ تاريخ العائلية الرَّفيع في الوحلِ؟”، تدريجيا انتظمت حياتهما بعدما انقشعت الظُّلمة، لكنّ تصاريف الزَّمن كانت تَؤَزّهما أزّا ؛ فكانا أحيانا نهب النّدم وتأنيب الضّمير ، بعدما عَجَزَ وهو المُوسِرُ عن إعالتها، فبدت الحياة أمامه كابوسا من الشّظَفِ والخشونةِ، لكن الله يختصّ برحمتهِ من يَشاء ، ارسَلَ عليهما يد والدته السّخية بعطاياها سِرا؛ بردا وسلاما ، بعد حينٍ رُزِقَ ب” نوال” ، حملها في أقماطها ووضعها بينَ يديّ والدته، عَسى أن يجدَ صَدرا حانيا ، يغفرَ لهُ ما سلفَ، لكن ماذا تفعل تلكَ العجوز ، التي أصبحت امرأة دانية الشيخوخة تتَنكّبها الأوجاع ، لحظتئذٍ أجابتهُ بصوتٍ محطّم :” يا بُنيَّ لا مَفرَّ من المكتوبِ، لابدّ من تطليقِ الغجرية “، عَادَ حزينا تتمدّد على شَفتَيهِ ابتسامة ميتة، قالت مغمومة :” لقدَ اغلقَ عليه بابهِ منكمشًا في زاويةٍ مظلمة ، تنطفئ نضارته كُلّ ساعةٍ حتى لاقى ربه”.
وقفت في النّافذةِ ، تمرِّرُ يدها فوقَ وجهها الطباشيري الباهت ، مُستسلمة لضوءِ الشَّمس الهزيل، تشيّع ” نوال” التي اتخذت وجهتها للجامعةِ، تقول في انكسارٍ :” ما جريرة هذه البَائسة مما جرى ؟!”، ثم رفعت شيئا بين يديها ، قرّبته من فمها تلثمهُ في تَشوّقٍ، لتَغيبَ ثانيةً بينَ حَشايا الذِّكرى ..