الرّمادُ الذي استحالَ جمراً..! في ديوان د.سجال الركابي؟!

د. وليد جاسم الزبيدي/ العراق

   التقديم/ للأزمات ايجابيات أحياناً، ومنها ما فعلتْهُ (جائحة) كورونا بالبشرية، حيث أقعدتنا في بيوتنا، وجعلتنا نبحثُ في ذواتنا وأوراقنا، وما تأخرنا من تحقيقه وقراءته، ورسم ما يمكن أن يكون في المستقبل، وهكذا وجدتني بين مجموعةٍ من الكتب والإصدارات التي لم تصلها يدي، وكان من بينها المجموعة الشعرية للشاعرة د.سجال عبد الوهاب الركابي( مَنْ فزّزَ الرّماد؟!) الصادر عن دار ليندا للطباعة والنشر والتوزيع- سوريا، ط1، سنة 2019م. وقد احتوت المجموعة على (49) نصّاً، ووقعت في ( 111) صفحة من القطع المتوسط.

ونحن نبحرُ مع الديوان، سنجدُ أكثرَ من محطة، نتوقّفُ عندها لنستمتع ويفيض عبقها :

  • محطة الموروث: وأقصدُ ما تضمنهُ الديوان من إشارات قرآنية، ودلالات دينية لديانات أخرى، وأمثال، وحكم، وموروث شعبي، وأسماء شخصيات ودلالاتها.

آ/ الدلالة القرآنية والدينية:

(لستُ يسوعاً/ لكنني اصطفيتُكَ/ أحد الحواريين-ص17). إشارة الى المحبة والسلام، وعمق الرابطة بين الحواري ويسوع. و (تكشفُ خيطَ البهتان البُهتان من الخيط الأبيض ص32) إشارة الى الآية في سورة البقرة –الآية: 187، ((حتّى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود..)). و (أنا الموءودة-ص39) إشارة الى سورة التكوير- الآية: 81((وإذا الموءودة سُئلت)). و (سأعتصمُ بجلمودٍ يقيني من التصدّع –ص35) إشارة الى سورة هود- الآية: 11((.. سآوي الى جبلٍ يعصمني)). و(تتوجّعُ وهناً على وهن –ص39) إشارة الى سورة لقمان- الآية : 14((حملتْهُ أمّهُ وهناً على وهن..)). و قول الشاعرة (ثلاثاً سويّا –ص42) وهي إشارة الى سورة مريم- الآية: 10،((..قالَ آيتُكَ ألاّ تكلّمَ الناسَ ثلاثَ ليالٍ سويّا)). و قول الشاعرة(لا البحرانِ يلتقيانِ..ص50)، وهي إشارة الى سورة الرحمن- الآية: 19((مَرَجَ البحرين يلتقيان)). 

وقول الشاعرة (آناءَ الليل.. وأطراف القصائد..ص55) وهي إشارة الى سورة طه- الآية: 130،((ومن آناءِ  الليل فسبّح وأطراف النهار..)). وقول الشاعرة( خضراءُ لونُها يسرّ الناظرين..ص56) وهي إشارة الى سورة البقرة- الآية: 69(( فاقعٌ لونُها تسرّ الناظرين)). وقول الشاعرة (لا هيتَ لك..ص58) وهي إشارة الى سورة يوسف- الآية: 23(( وقالتْ هيتَ لك)). وقول الشاعرة ( أهشّ بها /..ولي بها بعض مآرب أخرى- ص81) وهي إشارة الى سورة طه- الآية: 18(قالَ هي عصاي أتوكؤا عليها وأهشّ بها على غنمي ولي فيها وآربُ أخرى)).

ب/ الموروث التاريخي والأدبي:

قول الشاعرة (يا منْ ابكى / جميلَ بثينة.. كُثيّر عزّة-ص 53) وهي إشارة الى شعراء عشّاق وحبيباتهم ( أما والذي أبكى وأضحكَ..)، و قولها( لمَنْ ستقرعين أيتها الأجراس..ص74)، وهي إشارة الى رواية أرنست همنغواي(لمنْ ستُقرع الأجراس). وقول الشاعرة( جلستُ ودرويش وخوليو,ص31)، وهي إشارة الى الشاعر الفلسطيني محمود درويش، و(خوليو اغليسياس) المغني الإسباني الشهير.

ج/ الموروث الشعبي والغنائي والسينمائي:

قول الشاعرة في عنوان نص( إشربِ الماءَ و…عجّلْ!/ص9)، وهي عبارة تردّدها المآذن في ليالي شهر رمضان. في إشارة الى رقصة تقول الشاعرة (دوران فلامنكو-ص 11)، وهي اشارة الى حركات ودوران راقص الفلامنكو مثلما هي حركة الأفكار في الخاطر.

قول الشاعرة (صاح الديك بالبستان.. ص 44) ، وهي إشارة الى أغنية من الأغاني الشعبية منذ العصر العثماني يرددها الأطفال (صاح الديك بالبستان.. الله ينصر السلطان). وقول الشاعرة (يا نبعة الريحان ووشم الكبرياء..ص55) وهي إشارة الى أغنية عراقية قديمة( يا نبعة الريحان حنّي على الولهان). قول الشاعرة( هو فضولٌ يقتلُ قطّة/ص14)، أشارت الشاعرة الى ذلك في الهامش مقولة المفكر ستيفن كوفي (لسنا بشر في رحلة روحانية بل أرواح في رحلة بشرية). وقول الشاعرة (تناسل الشيخ جيكل والحرامي هايد..ص73) إشارة الى الفيلم السينمائي دكتور جيكل وهايد الذي حاز على جائزة الأوسكار سنة 1932، وإشارة تناسل عصور الفساد واللصوصية. وقول الشاعرة (أجل وحيدة..(غريبة من بعد عينك)/ص80) إشارة الى المطربة العراقية(وحيدة خليل) وأغنيتها (غريبة) التي تفيض بالحنين والألم.

وقولها (إفرِدْ جناح الهوى/ وطِرْ بي../ص90) وهي كلمات لأغنية وردة الجزائرية (لولا الملامه يا هوى لولا الملامه ،لافرد جناحي عالهوا زي اليمامه واهرب من الدنيا الفضا). وقول الشاعرة (لمّا بلغَ الزّيفُ الزّبى/ ص93)، وهي إشارة الى المثل العربي القديم (بلغَ السّيلُ الزّبى) هو من الأمثال العربية القديمة التي تقال في الأوقات التي تصل فيها الأمور إلى حد لا يمكن السكوت عليه.

 وقول الشاعرة (ألا من نصيرٍ ينقذُ اخضرار بصرتي./ص 100) وهي إشارة الى مقولة الى الامام الحسين بن علي (ع):((الا من ناصر ينصرنا الا من معين يعيننا)) في معركة الطّف.

 

  • محطة التصوّف:

تبدأ محطة التصوّف وعطره من الإهداء(إلى أرواح من ضوءٍ تستفزّ الفصول./ص3). وقول الشاعرة (أرقبُ غموض التكايا/ ودوران الأردية المبهرجة/ ص19). وقولها (دورانُ مُريدٍ بتبتّلِ الذهول../ص21)، وقولها(الروحُ في هذيان/ مزّقَ طوق الظنون/ ص21) . وقول الشاعرة(شغوفٌ بك../ حدّ الحلول/ ص47) ، الحلول احدى نظريات المتصوفة، وهي اثبات لوجودين، وحلول أحدهما في الآخر، كما في قول الحلاّج (أنا الله).

 

  • محطة أسطرة النّص:

لقد أدخلتِ الشاعرةُ الأسطورة برموزها ومسمياتها في نصوصها، في العناوين وفي المتن، ومنها على سبيل المثال: (التهمَها تنينُ وداع/ ص6)، وقولها (غرّدتْ أفروديت../ص16)، الأسطورة اليونانية آلهة الحب والجمال. وقول الشاعرة (أورفيوس/ هاتِ كفّكَ لئلا تغرق/ص24) إشارة الى كاتب وموسيقي أسطوري إغريقي. ثم نجد عنوان كبير لأسطورة (إيهِ زوربا.. أخشى الخُسران/ص31) النّصّ بأكملهِ إشارات أسطورية. وقول الشاعرة (..تنافسُ دراكولا/ في اجتثاث العقول/ ص54)، وهي إشارة الى شخصية أسطورية رومانية. وقول الشاعرة (وأنت كولمبس.. ص64)، إشارة الى الاكتشافات. وقول الشاعرة ( تتوّجُني ..عروسَ بحرك/ص79) إشارة الى عروس البحر الأسطورية. وقول الشاعرة (فلا ينفد خنجر بروتوس/ ص90)، إشارة الى رجل السياسة الذي اشترك باغتيال يوليوس قيصر، وعبارة قيصر المشهورة(حتّى أنت يا بروتس..!!؟).

 

  • محطة رحلة الحواس:

نصوص المجموعة الشعرية مكتنزة وثرية باللغة الشفافة الرقيقة الموحية والتي تقارب حواسنا كلّها، بل هي محاكاة للحوّاس وهذا ما نقرأهُ ونتلمسهُ ونحسّهُ ونسمعهُ ونشمّهُ وننظرهُ في قولها (الوقتُ ضرير/ ص5)، و(النورُ آزفٌ على الرحيل/ ص5)، و(النسيان ديدنُ رفاقِ الدرب/ص6)، و( هلاّ نثرتَ حنانَ آسٍ/ص7)، و( فاحتارَ البرحي أن يخفي حلاوته/ص9).

 

  • محطة رحلة الظمأ:

في هذه المجموعة يغيبُ المكان في النصوص ، ويظلُ الزمان يأخذ مساحةً من الكم والتمدد والانزياح، لكنّنا نجدُ في بعض النصوص تشرقُ فيها البصرة، بكل تفاصيلها حيثُ ترافقها صورُ بونورامية للنخل والنهر والعطش وتفاصيل الطيبة البصرية المحببة. وتتجلى أعلى صور الظمأ والبحث عن الماء في نصوص مختلفة منها ( إشرب الماء وعجّلْ/ص9) ، و( ظمأ الفراتُ/ترنّحَ دجلةُ/ تفطّرَ شط العرب/ ص18)، و (كلانا عَطِشٌ/ منذُ قرون/ ص23).

  • محطة اللغة:

لغةُ الديوان، لغةٌ صافيةٌ، نقيّةٌ، وتشكيل المفردات محكم، وفيها موسيقى داخلية تجري في النّفْس قبل العبارة، وميزةُ النصوص التكرار، نجد أنواع من التكرار، من خلال قراءتنا المتواضعة. والتكرار هو ظاهرة لغوية عرفها شعرنا ونثرنا العربيين منذ القدم، وهنا استخدمتهُ الشاعرة تعبيراً عن العامل النفسي، والانفعالي الذي تحدّدهُ ضرورة الاستخدام في هذا الموقع أو ذاك في الصيغة والعبارة. وللتكرار أثرٌ كبيرٌ في البناء الفوقي للكلمة ، والبناء التحتي في موسيقى الصرف، وهنا في هذا الاستخدام أرادت الشاعرة فضلاً عن البناء اللغوي والاختيار للمفردات والصور ومواضيع مختلفة أن تزيدَ ابداعاً لونياً آخر في ذات المتلقي ، باستخدام التكرار الذي يجعل أوتار موسيقية تتناغم هارمونياً في البناء الدلالي والمعرفي للنّص. وقد جاء التكرار على صيغٍ مختلفة منها : آ/ التكرار الحرفي: يؤدي التكرار اللفظي، لحرف من أصل الكلمة الى الارتقاء باللفظ موسيقياً، وقيمة نغمية، لها دلالتها وتأثيرها في الذات الشاعرة ، وثم في ذات المتلقي، وتزيد من ربط الأداء بالمضمون، والتكرار الصوتي للحرف يبرزُ الجانب الدلالي والنّفسي للنّص، فضلاً أن هذا التكرار يُبعدُ النّص وجو المتلقي من الرتابة والسكون الى أجواء أخرى تفتح آفاق التأويل والتفسير. ومن أمثلة التكرار الحرفي ، قول الشاعرة (تعووود/-تكرار الواو ثلاث مرات- ص14)، و(سأزيييييحك/-تكرار الياء أربع مرّات- ص15)، و (اش..شش/ -تكرار الشين مرّتين-/ ص29)، و (إيّااااكَ/ -تكرار الألف ثلاث مرّات-/ص53)، و (أتُرااااكَ/-تكرار الألف ثلاث مرّات/ص79)، و( آآآهٍ/- تكرار همزة الوصل ثلاث مرّات-/ص79)، و (فأذووووب../تكرار الواو ثلاث مرّات/ص85).

ب- تكرار الكلمة:  وتكرار الكلمة، عنصرٌ مؤثرٌ في مَوْسقةِ النّص أولا، ويكون لهُ قيمة سمعية ، ويُعدّ أكبر قيمةً من تكرار الحرف، وتكرار الكلمة لأهميتها الدلالية والنفسية في ذات الكاتب وأثرها في ايصال المعنى، ومرةً تأتي للتوكيد، وأخرى للتحريض، وأخرى للزجر والوعيد ، ومرةً أخرى يأتي التكرار إزالة اللبس والابهام. وهذا ما نقرأهُ في نصوص الديوان، على سبيل المثال: (تلك التي لكَ.. ولكَ.. ولكَ/ ص10)، و(أغدقني.. أغدقني/ص13)، و(تبهتُ.. تبهتُ/ص27)، و(تتبعُها أخرى وأخرى/ص32) .

ختام القراءة: ديوانٌ تتنوّعُ فيه الموضوعات والصور، والموسيقى، زاخرٌ بلغةٍ شفيفة شاعرة، وفيه نصوص تستحق أن تكون لها دراسة لوحدها لجمالها وثرائها، مفعمة بالرومانسية والوجد، على سبيل المثال(يا أغنيتي)، و(أرسمُكَ في الهواء)،و(اعترافات شجرة شبوي)، و(لكَ أعيشُ مرّتين). وهناك ومضات شعرية كتبتها الشاعرة في الصفحات ( 56، 57، 62، 68، 69، 81، 82، 83، 84، 93، 94، 101) تركتها الشاعرةُ بلا عنوان، وفسحت الفرصة للمتلقي كي يضع عنواناتها. نصوصٌ تحتفلُ بالجمال والأسطورة التي وظّفتها بصورة متقنةٍ مع استخدام للموروث بأشكاله وهذه إشارات لثقافة الشاعرة ومرجعياتها. كما هناك نصوص فيها آيات العطش، وآيات الجمال، ونصوص ثورة المرأة الموءودة، في نص الأنا المتضخمة (أنا.. المنحورة أعلاه) وهي تمثل روح الثورة على كل ما يسيء للمرأة على مختلف العصور، والمرتبطة بقيود كلمة (ما يصير)..!!

نصوصٌ مشحونةٌ بالثراء البنائي والبلاغي وبموسيقاها التحتية والفوقية، يحتاج الى أكثر من وقفة ودراسة.. تحية الى الشاعرة د. سجال عبد الوهاب الرّكابي التي أمتعتنا برمادها الذي أوهمتنا بهِ فكانَ جمراً….!!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى