قراءة نقدية في مجموعة “شقائق النّعمان” للأديبة رحاب يوسف

أ‌. محمد موسى العويسات | القدس

على مائدة الأدب الهادف.. قصص اجتماعيّة إنسانيّة للتغيير والإصلاح

مجموعة قصصيّة للكاتبة رحاب يوسف، قدّم لها الدكتور الأديب ناصر أبو عون، تضمّ المجموعة خمس عشرة قصّة أو لوحة فنّيّة، مستوحاة من الواقع الاجتماعيّ والفكريّ والسّياسيّ والتربويّ الذي يعيشه الشّعب الفلسطينيّ، وتعيشه الكاتبة نفسها، لذا تحسب مجموعتها هذه على الأدب الواقعيّ، وتبدو فيه الكاتبة ناقدة أو ثائرة على الواقع وداعية للتّغيير، وقد أبدت الكاتبة في مجموعتها هذه قدرة فائقة على اختيار أو التقاط العناوين المتنوعة من حياة الناس، وكشف الكثير من القضايا المستورة التي أغفلها كثيرون من الكتاب، أو عالجوها في أدبها بفنّيّة يغلب عليها التّصنيع والتأنّق اللغويّ والتصويريّ والرمزيّ الذي يذهب بساطة العرض ويلفت عنها النظر فيذهب تأثيرها في نفس القارئ. تبدو الكاتبة في لغتها الفصيحة البسيطة السّلسة تتقصّد الوصول إلى القارئ العاديّ، في أسلوب سرديّ يميل إلى الحكاية، غير مغرق في الخيال أوالتصوير، أو صناعة الشخصيّات أو الأحداث، أو حتّى النّهايات، بل استغرقت الكاتبة في نقل الواقع المعيش بقصدين: التوثيق والدّعوة للتغيير، لذا كان الاتّجاه التربويّ والقيميّ بارزا، وممّا ميّز هذه القصص هو التصوير النفسيّ البسيط والدقيق للشخصيّات، فمعظم شخصيّات هذه القصص الخمس عشرة تظهر من خلال حوارات النّفس، والصّراع الدّاخليّ. ومعظم هذه القصص تنتهي بحلول واقعيّة متوقّعة، بل هناك من القصص من كانت نهاياتها مفتوحة. والكاتبة استطاعت ببراعة أن تجعل الخيط الذي تنتظم فيه هذه القصص أو معظمها هو الاحتلال وقضيّة المرأة، ففوق أنّها تصوّر بشاعة الاحتلال وجرائمه إلا أنّها رسمت شخصيّاتها مقاومة غير مستسلمة، ومثال ذلك قصّة ليلة مثلجة في القدس، وبطلتها فاطمة، فهي قصّة واقعيّة ومتكرّرة، وكانت فاطمة فيها تمثّل شخصيّة المرأة المقدسيّة التي لا تخشى ولا تستسلم. في قصّة (اللّيل لوني)، تتناول الكاتبة قضيّة التّمييز العنصريّ، أو التعامل على أساس اللون، وموضوع هذه القصّة موضوع عالميّ وهو في محسوس ملموس في العالم الغربيّ وبخاصّة أميركا، ولكن هل يخلو المجتمع الفلسطينيّ من مثل هذه الحالات؟ وبصراحة وأسى أقول: إنّه لا يخلو من مثل هذه العنصريّة، فإن لم تكن في اللّون، كانت في أمور أخرى، لذا لم تكن القصّة نشازا في السّلك الذي نظمت فيه القصص الأخرى، ومن اللافت للنظر أنّ الكاتبة قد صورت نفسيّة تلك المرأة المضطهدة للونها تصويرا دقيقا، وجعلت الحلّ أو النهاية غريبة جدا.


في قصّة (مجنونة قطعة الحلوى) تتناول الكاتبة قضيّة فتاة من ذوي الحاجات الخاصّة، يستغلّها رجل دنيء، وتُحمّل فيها الكاتبة أمّ الفتاة المسؤوليّة، بل تشير من طرف خفيّ إلى تفكّك أسريّ سرّه الأمّ، وتبدو الكاتبة متأثّرة جدا بالحادثة، ذلك بأن اعترضت السّرد بفقرة تميل إلى لغة الخطابة: ” أعترف لكم يا سادة…. “، وتختم القصّة بفقرتين، جاءتا على غير النهج الفنّي المعروف للقصّة القصيرة، فيهما الاستدراك والأسف للحادثة، وفيهما الجانب الوعظيّ، وتعلن في الأخيرة خوفها على الأجيال القادمة. وهذا يؤكد أنّ القصّة حادثة وقعت حقّا، والكاتبة مالت إلى أسلوب الحكاية والتوثيق، وتقصد الإصلاح والتغيير. وفي قصّة (في آخر الزّقاق) تناولت الكاتبة قصّة عقوق الوالدين، صفيّة العجوز التي هجرها ابنها، ثمّ جاء ليُودِعَها ملجأ العجزة، فتفقد حنان ابنها وذكرياتها معا. وأرادت الكاتبة فوق استنكارها للعقوق الوالدين، أرادت أن تلفت الانتباه إلى مسألة مهمّة جدا في حياة آبائنا هي أهمّيّة ذكرياتهم وبيئتهم التي عاشوا فيها، وما لها من أثر في نفوسهم عند الكبر. في قصّة ( زيارة إلى سجن مجدو)، بدت القصّة حقيقية، وصوّرت معاناة أهل الأسرى في أثناء زياراتهم لأبنائهم المسجونين، وهذا جانب مهمّ، ومن الحصافة أن يفرد له قصّة قائمة بذاتها. وكانت قد أبدعت في القفلة التي جاءت على لسان حفيدها:” تركتني مع جرح غائر في أعماقي سأخيطه بمقاومة المحتلّ”. أمّا قصّة شقائق النعمان التي سمّيت المجموعة باسمها فقد تناولت قضّيّة حسّاسة ذات شُعَب كثيرة منها: حياة الفتاة الرّيفيّة ومشاركتها في العمل، وتعليمها، وبساطتها الفطريّة، وسوء المعاملة لها في مدارس المدينة. وممّا يلاحظ أنّ القصّة أو الحكاية بدت بسيطة سلسة، أحداثها متوالية بعفويّة، وكأنّ شخصيّة الفتاة اقتضت من الكاتبة ذلك. وفي قصّة (الشبرة الحمراء) تعرّضت الكاتبة لقضيّة جهل بعض المعلّمين أو خطئهم في معاملة الأطفال، وأثر ذلك على نفوس الأطفال. وكذلك تناولت الكاتبة في قصّة (مراهقة على باب المدرسة) قضيّة نسويّة، تدور حول انخداع فتاة بشاب وتركها لمقاعد الدراسة، ثمّ يؤول الحبّ إلى الفشل الذّريع فاضطرت زمرّدة إلى العودة لمقاعد الدراسة بعد انقطاع ثلاثة أعوام كانت فيهنّ مخطوبة لذلك الشّاب المخادع. بدت الكاتبة في القصّة ناصحة للفتيات بالالتزام بالأخلاق والتعقّل والتنبّه لحياتهنّ العاطفيّة والتّعليميّة. ومالت في هذه القصّة إلى الانتصار و تقصّدت النّهاية الجميلة، وكأنّني بها لا تريد لهذه الفتاة المزيد من الألم، وقد يكون في هذا إسقاط نفسيّ غير مذموم من الكاتبة.
لم تنس الكاتبة غزّة وحصارها فنقلت لنا حادثة مقتل ثلاثة صيادين على أيدي جنود البحريّة المصريّة ذلك في قصّة (من أطلق الرّصاص)، وتبدو القصّة توثيقيّة، وفيها الدّفق المشاعريّ المتعلّق بقضيّة شعب واحد في معاناته، والإشارة إلى بشاعة الحدث عندما يكون اعتداء من الإخوة المعوّل عليهم في نصرتنا ويستنكر منهم حصارنا. وفي قصص أخرى تتناول الكاتبة قضايا المرأة المظلومة بالطّلاق كقصّة (المطلّقة)، أو المظلومة بهذا الاحتلال الغاشم الذي يحرمها ابنها الذي طالما تعبت وكابدت في رعايته وتنسئته وتأمّلت أن تراه رجلا كقصّة فيأتيها فجأة شهيدا كما في (بائعة اللّبن). وفي (ضمّة مريميّة) تعالج أو تكشف الكاتبة حالة نفسيّة شاذّة لبعض الأبناء في الجامعات وقد تكون في الحياة العامّة، هي الخجل من آبائهم واحتقار مهنهم الشّريفة، ذلك بفعل الخضوع للفوارق الطبقيّة بين شرائح المجتمع أو النّظرات الفوقيّة المقيتة التي قد يلقاها بعض القادمين من القرى إلى الجامعات أو المدينة. ولا يفوت الكاتبة أن تتناول الخيانة الزوجيّة عند اختلاط الرجال بالنّساء في بعض المؤسّسات، وتضع نهاية مؤلمة لهذه الخيانة، ولا تخلو القصّة من شطحات خياليّة المقصود منها التّشنيع والتّنفير. وختمت الكاتبة مجموعتها بقضيّة عقوق الوالدين في قصّتي (في غرفة منعزلة)، وفي قصّة (اللّعنة الأولى) التي تتناول الكاتبة قضيّة اضطهاد الأمّ من قبل زوجة ابنه وأبنائه، مع عجز الابن عن الانتصار لأمّه.
وهكذا نكون أمام نمط قصصيّ يميل إلى أسلوب الحكاية الواقعيّة، ابتعدت فيه الكاتبة عن الإغراق في الخيال أو الرّمزيّة، وقد تألّقت فيه الكاتبة في تشخيص نفوس شخصيّاتها وعقلياتهم، في لغة توصيفيّة بليغة دقيقة، تعدّ من السّهل الممتنع، لم ينقصها الجانب البيانيّ ولا التصويريّ الجميل، فقد كانت حاذقة في جلب الاستعارات الرّائقة، التي وسمت لغتها باللّغة الشّاعريّة. وظهرت الكاتبة في مجموعتها هذه ذات رسالة تربويّة واجتماعيّة وأخلاقيّة مرموقة. وختاما أرى بل أنصح أن تقدّم هذه المجموعة لأبنائنا الفتيان والفتيات، فكأنّي بها قد صيغت لهم، ذلك للغتها وما فيها من قيم زاخرة. فإن كنت واصفا الكاتبة فليس بأقل من وصفها: مربّية تقصّ للأجيال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى