سعد الله ونوس والمتخيل المسرحي

د. الغزيوي أبو علي | مكناس – المغرب

يعد سعد الله ونوس من الكتاب والمنظرين البارزين في مجال المسرح في الوطن العربي، وهو من مواليد 1941 في “قرية حصين البحر” محافظة طرطوس بسورية، حصل على شهادة ليانس في الصحافة من جامعة القاهرة، ثم هاجر بعد ذلك إلى فرنسا، حيث حاز هناك على دبلوم الدراسات المسرحية من جامعة السوربون سنة 1968.
بدأ ونوس حياته الأدبية بمجموعة من الأبحاث والدراسات والمقالات النقدية، والأدبية. إذ ظهرت أول مجموعة من مسرحياته القصيرة تحت عنوان “حكاية جوقة التماثيل” وتعتبر مسرحية “ميدوزا تحدق في الحياة” أول عمل أدبي طرق به ونوس باب الإنتاج المسرحي سنة 1963، بالإضافة إلى عشرات المسرحيات التي تناولت الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية في قوالب وأساليب عديدة.
ولا يمكن دراسة المسرح العربي بسورية دون التطرق لكتابات سعد الله ونوس التي تعد علامة بارزة في تاريخ هذا المسرح لما تتميز به من صدق واهتمام بقضايا الإنسان العربي وهمومه، وارتباط وثيق بالواقع، ومحاولة تشخيص أزمات الواقع المعاش، والدعوة إلى تغييره نحو الأفضل، ذلك أن ونوس واحد من المسرحيين الذين جعلوا أقلامهم ومواهبهم وطاقاتهم الإبداعية في خدمة الجماهير من أجل توعيتها والخروج بها من واقعها المشحون بالتناقضات، وتعويضه بواقع آخر يكون فيه حرا وواعيا. من هنا كان الإنسان وصراعه مع واقعه الاجتماعي والتاريخي هو المحور الذي تدور حوله مسرحيات ونوس.
بعد هزيمة 67، دخل ونوس مرحلة في مساره المسرحي، فقد كان لها بالغ التأثير على سعد الله ونوس وكتاباته المسرحية بصفة خاصة وعلى المسرح بصفة عامة وكغيره من المسرحيين الذين انفعلوا وتأثروا لهذا الحدث المؤلم ولشدة حساسية المرحلة خرج ونوس من معالجة الإنسان في أحواله الداخلية كفرد إلى معالجة الأسباب الموضوعية التي أدت إلى الهزيمة، واستجابة لهذه الأحداث كتب ونوس مسرحية “حفلة سمر عن أجل 5 حزیران” و”لاشك أن سعد الله ونوس اكتسب أهميته ككاتب مسرحي من “حفلة سمر من أجل 5 حزیران” وقد وفر له ما رافق هذه المسرحية من ملابسات وأصداء في جو الهزيمة واليقظة القومية تقديرا خاصا فنظر إليه كاتبا يسعى إلى تسيير المسرح حيث، يطابق جرحه كفنان على جرج الأمة فيكون الوعي(1).
بعد “حفلة سمر من أجل 5 حزیران” مغامرة رأس الملوك جابر “سهرة مع أبي خليل القباني”، “الملك هو الملك”، “رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة”، بالإضافة إلى بعض البحوث والدراسات التي تتناول قضايا وشؤون المسرح منها “بيانات لمسرح عربي جديد”.
وتندرج بيانات سعد الله ونوس مع مختلف البيانات التي واكبتها أو جاءت بعدها وسعد جميعها إلى البحث عن صيغة أصيلة قادرة على خلق مسرح عربي الطابع قلبا وقالبا شكلا ومضمونا، والتي تمثلت في دعوة يوسف إدريس إلى مسرح السامر في مصر، ودعوة توفيق الحكيم إلى قالبنا المسرحي بالعودة إلى مسرح ما قبل السامر، وفي بيانات المسرح الاحتفالي في المغرب، وبيانات جماعة “السرادق المصرية” و”الحكواتي” اللبنانية، وفرقة “المسرح الجديد” التونسية وفرقة “فوانير” الأردنية، وفرقة “مسرح البحر” الجزائرية.
بوارق مشتتة تتظاهر في نص أو في ممثل، وفي أحيان نادرة في عرض مسرحي(2).
والسبب في ذلك، حسب سعد الله ونوس، يرتبط بطبيعة المناهج والدراسات التي قربت الظاهرة المسرحية وانطلقت من تعريف قاصر ومحدود للمسرح، مناهج لا تنحصر جغرافية اهتماماتها بالخشبة فقط ولا تتعداها إلا عرضا وبشكل ثانوي إلى الجمهور إذ تعتبره واحدة من مشكلات الحركة المسرحية لا أكثر ولعل هذا ما يفسر الخيبة لمعظم الحلول التي وضعت لهذه المشكلة”(3)، مما جعل هذه المناهج تقتصر فقط على دراسة النصوص الأدبية أو تتناول عناصر العرض المسرحي وتقييمها من خلال أحكام جمالية ومقاربة بهذا الشكل معناها جهل بطبيعة المسرح وما يؤدي هذا الجهل من تمويه المضمون الاجتماعي للمسر ح، والانحراف بالدور الذي يلعبه في الحياة الاجتماعية.
ومن خلال هذا النقد يرى ونوس أن المدخل الأساسي والصحيح لدراسة المسرح وبلورة قضاياه والبحث في مشاكله هو الجمهور.
يبدأ سعد الله ونوس بالجمهور فذلك في رأيه المدخل الأساسي والصحيح للحديث عن مسرح ثوري يشارك في خلق الوعي ومجاوزة المتعة والتفرج وهذا ما يبرر كون البيان الأول يحمل عنوان “البدء من الجمهور”، فالظاهرة المسرحية لا تقف عند عناصر العرض المسرحي والإخراج والديكور والإضاءة والملابس والموسيقى… “بل هي في أصلها وبأبسط أشكالها متفرج وممثل قد ينعدمان معا في احتفال أو يضلان الواحد منهما في مواجهة الآخر”(4) فالممثل والجمهور هي الخلية الأساسية في الظاهرة المسرحية وبدونها لا مسرح ولا ظاهرة مسرحية، أي أن المسرح يبدأ فعلا عندما يتوفر ممثل وجمهور يشارك ويجادل ويدخل وغياب أحد هذين العنصرين هو الذي ينفي ويلغي الظاهرة المسرحية.
إن العملية المسرحية لا تقتصر فقط على الخشبة فجغرافية المسرح تتجاوز إطاره العرض لتشمل الصالة والعرض بما يمثله من ممثلين وما ينعكس بينهما من جدل وحوار وتواصل.
“لذلك يرى ونوس أن عدم الاهتمام بالجمهور هو السبب وراء استمرار المشكلات والأزمات في مسرحنا برغم كثرة المناقشات والمؤثرات وما يصدر عنها من قرارات وتوصيات في حين يظل الجديد في المسرح يبرق كومضات متقطعة فحس لا تخلق تيارا أو تكرس اتجاها(5).
فإذا كان الجمهور هو العنصر الأساسي الذي لا يتم مسرح بدونه بغدو من الطبيعي إذن أن ننطلق في كل بحث لمشكلة المسرح وربما الثقافة بشكل عام من الجمهور نفسه(6)، والبدء، من الجمهور في بحث الظاهرة المسرحية يعني بالنسبة لسعد الله ونوس طرح مجموعة من الأسئلة، الإجابة عنها ستبلور كل القضايا الأساسية للمسرح وتقدم لها حلولا إيجابية وهذه الأسئلة تتمثل في:
1- تحديد هوية الجمهور الذي يتوجه إليه العرض المسرحي أي من هو هذا الجمهور الذي نريد توعيته وتطويره؟ إن تحديد هوية الجمهور يعني أن العرض المسرحي لا يتوجه إلى أشخاص مجردين بدون هموم أو قضايا، بل يؤكد أن هذا العرض يتوجه إلى شرائح مجددة لها ظروفها الاقتصادية والثقافية المتميزة وتعيش أوضاعا اجتماعية ومشا كل وقضايا خاصة.
ولتحديد هوية الجمهور، لابد من دراسته دراسة علمية أساسها المعايشة الفعلية والتحليل الدقيق لمستواه الثقافي وظروفه الاقتصادية وأحواله الاجتماعية وهمومه الحياتية ومشاكل وقضايا حياته.
وبتحدي هوية الجمهور تعطي لجل المسرح صورة واضحة عن هذا الجمهور الذي يريد مخاطبته من أجل توعيته وتطويره ويتحدد بالتالي الإطار الذي سيتحرك فيه والأرضية التي سيعمل عليها.
ويحدد ونوس الإجابة عن السؤال الأول بتعامله مع الطبقات الكادحة. فهو يتوجه إلى هذه الشريحة من المجتمع باعتبارها أوسع القطاعات الاجتماعية ولأن ظروفها وصورتها هزت سعد الله ونوس أكثر من سواها حيث وجدها ذات صلة وثيقة بمسرح يتوخى التغيير، هذه الصورة التي هزته وانعكست بالتالي في أعماله هي “صورة الإنسان العربي المهزوم والمقهور والذي يلتمس مع هذا إمكانية أن يتفتح وأن يحمل قدره بنفسه لكنه لا يجد حوله إلا الصعوبات والعراقيل عراقيل سببها الوضع السياسي الذي يعيشه والقمع المنظم الطويل الذي خضع له وشراسة القوى الخارجية التي تحاول هزيمته ومنعه من أن يتفتح وتحمل قدره بنفسه(7).
وهكذا يكون سعد الله ونوس قد وضع نفسه في المسار الكفاحي لعملية التغيير، لأنه يتوجه على الأخص إلى الطبقات الكادحة للإسهام في عملية تعميق الوعي الجماعي بالمصير التاريخي المشترك.
2- تحديد المضمون والمواضيع التي ينبغي طرحها والمراد توصيلها لهذا الجمهور “ومما لاشك فيه فإن الإجابة على هذا السؤال مرتبطة بالدرجة الأولى بإجابتنا على السؤال الأول”(8).
فعندما يختار رجل المسرح متفرجيه ويحدد تركيبة الطبقي ومستواه الثقافي والاجتماعي، يختار معهم مشاكلهم وطموحاتهم، ويجعله هذا الاختيار يحدد رأيا وموقفا من هذه المشاكل والمطامح. هذا الموقف سينعكس بدوره على الأفكار والمضامين التي ستعالجها هذه الأعمال التي يود تقديمها لهذا الجمهور، ذلك أن المضمون الفكري سوف يتحدد بتقديم ظروف هذه الطبقات وما تعانيه من مشاكل في حياتها. وما تخضع له من سيطرة وقمع منظم وذلك لتعميق الوعي لديهما بواقعها ومصيرها ومشاكلها من أجل التمرد والثورة عليها لتغييرها بواقع أحسن وأفضل.
3- من أجل التواصل بين الطرفين: أي الممثل والمنفرج لابد من الشكل والأسلوب والصحيفة الملائمين مع هذا الجمهور نفسه وهذا يطرح السؤال “أية وسائل ينبغي أن نستخدم حتى نحقق تفاعلا أكيدا مع المتفرجين؟ أو ما هو الشكل الذي يتوافق مع معطيات السؤالين السابقين، ويوثقها في علاقة غنية لا اقتسام فيها ولا تفكك؟(9)، ولتحقيق الاتصال والتواصل مع هذا الجمهور وضمان حدا من الفعالية والتأثير لابد من البحث الجاد عن وسيلة خاصة للتعبير”. وفيما يرى سعد الله، فإن وجود حركة تضع المتفرج الكادح نصب عينيها، سيقودها إلى تحقيق لها ذلك إلا بعد بذل جهد شاق في تجربتها الفنية في الخلق والتجريب وابتداع الأشكال الملائمة، وكلما زاد تفاعل هذه الحركة الفنية مع الجمهور أصبحت أقرب منه، وأعلم بما يدور في واقعها وآنذاك ينهار الحاجز المائل بين الواقع والفنان، ويضحي كل عرض مسرحي إضافة جديدة تثري لا المشاهد فحسب بل الفنان المبدع كذلك لأن مثل هذه العلاقة لن تكون علاقة أحادية الجانب بل تضحي اتصالا بين طرفين يؤثر كل مهما في الآخر ويتأثر به”(10).
وبذلك، يرتبط تحديد هوية الجمهور بتحديد هوية العرض المسرحي كما أن الإحاطة الشاملة والمعروفة الدقيقة لهذا الجمهور وقضاياه ومتطلباته هي نقطة العبور نحو البحث عن الصيغة البديلة لمسرح عربي جديد ومسرح تقدمي ثوري يضع نصب عينيه هموم هذه الجماهير وقضاياها وذلك بتوظيف وسائل وصيغ جديدة تساهم في تحقيق أعلى درجة من الاتصال بالجمهور والتأثير فيه والتأثر بحواره لتنمية وعيه، وتعميق إدراكه بمشاكله وبمصيره وقدره.
ومن هنا، يبدو الترابط العضوي الذي يقيمه سعد الله ونوس بين هذه المكونات الأساسية الثلاث للمسرح الذي يدعو إليه: الجمهور – المضمون – وسائل التعبير، باعتبارها العناصر الفاعلة في تحديد مضمون المسرح وشكله وهويته والهدف المتوخى منه.
فالمضمون والشكل لا يمكن الفصل بينهما عند ونوس. لأن الشكل ليس مجرد صيغة فنية جاهزة وصالحة لكل موضوع أو عرض، فالشكل والاتجاهات المسرحية بصفة عامة هي مدارس فكرية تعبر عن مواقف سياسية واجتماعية محددة ولذلك يجب في البداية أن تنحى هذه الصيغ الجاهزة ثم العودة إليها من خلال “اتخاد موقف نقدي متماسك إزاءها بحيث لا تبقى كل اتجاهات المسرح العالمي… توضع على مستوى واحد وتعامل بنفس طقوس التبجيل المدرسي والانحناء الثقافي”(11). إن المسرح لكي يظل حدثا اجتماعيا عليه أن ينطلق من الجمهور وواقعه ويحقق أعلى درجة من الاتصال به والتأثير فيه وهذا يتطلب البحث الجاد والمستمر، لأن كل “حركة مسرحية تمتاز بهذه الخصائص، هي وحدها القادرة على أن تخرج المسرح العربي من تيهه وهي وحدها التي تستطيع أن تحل ما هو حقيقي من المشاكل وتتجاوز ما هو زائف منها تنبع من جمهورها، تنهل منه وتعطيه تحاوره، تغتني به وتغنيه، وعندئذ يولد مسرح حقيقي أينما يحل يفجر حدثا اجتماعيا، وحوارا خصبا، ووعيا جماهيريا بالواقع والمصير(12).
يرى ونوس أن المتفرج مثله مثل الممثل كلاهما يتحمل المسؤولية في نجاح وتطوير المسرحية ومن هذا المنطلق فلابد أن تمة دورا ينبغي على المتفرج القيام به، وقد كان بريخت يعي أن المسرح الملحمي سيواجه صعوبات جمة في البيئات المتخلفة التي لا تسمح بجدل فكري وسياسي فما الذي يجب على المشاهد عمله لكي يتحقق مثل هذا الحوار بين المساحتين، لقد شكا ونوس من سلبية الجمهور في تقديمه لمسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر”، برغم أن ونوس يلجأ إلى كسر الصمت بين المتفرج والخشبة”(13).
بالنسبة لسعد الله ونوس فإن المتفرج لكي يقوم بدور فعال وإيجابي في توجيه المسرح وتطويره ينبغي عليه الالتزام والوعي بهذا الدور المهم الذي يحدده ونوس في ثلاث نقاط هي كالتالي:
“أولا: ينبغي أن يعي المتفرج أهميته في أي عرض مسرحي فكل ما يدور على الخشبة يستهدفه ويتوجه إليه بمعني أن قيمة هذا العرض مرهونة بالموقف الذي يتخذه المتفرج منه.
“ثانيا: ينبغي أن تنتهي سلبية المتفرج ووضعيته الساكنة جيال الخشبة وما يدور عليها ينبغي أن يدرك جيدا أن كل ما يدور أمامه يعنيه، ويهمه، وعليه أن يتخذ موفقا منه.
ثالثا: على أن يحس بالمسؤولية، وبأن لموقفه من أي عمل ثقافي بشكل عام، ومن أية مسرحية بشكل خاص، نتائج هامة وخطيرة أيضا عليه وعلى أوضاع بلاده”(14).
إن سعد الله ونوس يطلب من المتفرج أن يكون واعيا وينتبه جيدا لما يجري على خشبة المسرح، وأن لا يكون سلبيا ويقبل كل ما يعرض عليه، ولهذا فعليه أن يتحمل مسؤوليته كاملة ويمارس حقوقه كاملة، بأن يدخل ليوقف العرض المسرحي إذا كان تافها وسطحيا، ويقاطع الممثل ويلقنه درسا ببعض الملاحظات والدعایات الساخرة عن الواقع المر الذي يعيشه إذا كان يستهدف صرفه عن همومه ومشاكله وقضاياه العصرية.
يخاطب سعد الله ونوس المتفرج، طالبا منه أن يتمرد ويثور، ويجادل ويحاور وليضغط ويقاطع يصحح ويعترض إذا كشف زيفا، أو خطأ، أو غشا أو كذبا، ويطلب منه أن يكون وقحا إذا كان العرض المسرحي يستهدف استغلاله أو خديعته أو تحذيره. ولهذا فونوس يريد خلق علاقة جدلية بين الممثل والمتفرج من أجل التواصل بين الطرفين. ومحاورة المتلقي عن طريق الأخذ والرد، الجدال والحوار.
فسعد الله ونوس يهدف إذن إلى تسييس الجمهور، وتحتل مسألة التسييس النقطة الأساسية التي يرتكز عليها المسرح الذي يدعو إليه سعد الله ونوس، ويميزه عن المسرح السياسي لأنه يعتبر السياسة موجودة في المسرح بوعي أو بدون وعي، فهناك مسارح تبتعد عن طرح قضايا سياسية وتتجنب الخوض فيها وهي بعملها هذا تعبر عن موقف سياسي يتمثل في صرف الناس عن الاهتمام بقضاياهم وأحوالهم. وهناك مسارح تهتم بطرح القضايا السياسية. لأن المسرح لا يمكن أن يكون محايدا عن الحياة المعيشية التي لا تخلو من قضايا سياسية. “فكل مسرح هو بالنهاية سياسي” المهم أية سياسة يخدم هذا النص المسرحي أو ذاك؟ سياسة تخدم الرجعية وتكرس الوضع القائم أم سياسة تدفع باتجاه تقدمي يهيئ للتغيير؟(15).
والمسألة عند ونوس هي في توعية الجمهور وزعزعة ثقته في كل ما هو ساند بدأ بالنظام الاستعماري الحاكم، وإمكان تغييره فهو إذن يهدف إلى توعية الجمهور وغرس السياسة فيه. إذن فهو مسرح يضم السياسة ويسعى إلى توعية الجمهور على مستوى الشكل والمضمون وتسييسه باتجاه التقدم والتغيير نحو الأفضل.
ويحدد سعد الله ونوس مفهوم مسرح التسييس على أنه “حوار بين مساحتين” الأولى هي العرض المسرحي الذي تقدمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره. والثانية هي جمهور الصالة الذي تنعكس فيه كل ظواهر الواقع ومشكلاته(16).
ويرتكز مسرح التسييس على دعامتين أساسيتين:
الأولى فكرية: وتعني تحديد الاتجاه السياسي للجمهور وذلك بطرح المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ومحاولة إیجاد حل تقدمي لها عن طريق تسييس الطبقات الشعبية المسحوقة من أجل التورة والتغيير، وتوعيتها بمدى السيطرة سواء على السلطة أو على وسائل الإنتاج الاقتصادي في البلد۔
أما الثانية: فهي دعامة جمالية وهي تلك التي تهتم بالجانب الفني وتضمن حدا من الفعالية والتأثير في الجمهور ولهذا لابد بالنسبة لسعد الله ونوس من البحث عن وسائل تعبيرية وأشكال اتصال جديدة ومبتكرة للاتصال مع هذا الجمهور “الذي نعلم سلفا أن وعيه مستلب وأن ذائقته مخربة وأن وسائله التعبيرية تزيف وأن ثقافته الشعبية تسلب ويعاد توظيفها في أعمال سلطوية تعيد إنتاج الاستلاب والتخلف”(17).
فمن بين أهداف مسرح التسييس البحث عن أشكال جديدة للاتصال مع الجمهور وخلق حوار جاد وبناء معه ولن يتم ذلك في رأي سعد الله ونوس سوى الفضح والكشف أولا عن الهيمنة والسيطرة التي تمارسها وسائل الإعلام من صحافة وتلفزیون وفيديو ومسرح فاسد على ذوقه ووعيه، فحتى الفولكلور وهو شكل تعبيري كان قادرا على خلق تجاوب وتواصل مع الجمهور سيطرت عليه وسائل الإعلام ليخدم أغراضها الايديولوجية، وأصبح شكلا تافها وسطحيا يساهم في التخدير وتعميم التخلف. ويقول ونوس “أنا الآن مثلا لا أعتقد أن بوسعي أن أسيس الناس باستخدام بعض أشكال التعبير الفولكلورية، لأن الفولكلور قد أصبح حاليا وسيلة من وسائل التخدير سيطر عليها التلفزيون، وبدأ يوظفها لتعميم التفاهة والسطحية وفي النهاية لاستلاب الناس ومنعهم من وعي واقعهم. إذن لم يعد الفلكلور أداة بريئة ونقية. بل أصبح مرتبطا سلسلة من الاستخدامات التي تمت داخل هذه المجتمعات وما عاد بالإمكان آن العنصر الشعبي الأولي عن استخداماته اللاحقة(18).
لهذا، فلابد من مواجهة هذا الغزو الإعلامي الذي يهدف إلى مسح الهوية وتكريس ما هو سائد من تخلف ورجعية ومحاربته بابتكار جماليات وأشكال تعبيرية جديدة أو تجريب أشكال معرفة لكن وفق، التجربة العملية الحية، وكذلك حصيلة التفاعل اليومي مع الجمهور، بمستواه الثقافي، ونمط تفكيره، وأنواع استجاباته”(19)
الهوامش:
(1)- عبد الله أبو هيف – التأسيس – مقالات في المسرح السوري، ص: 174.
(2)- سعد الله ونوس – بیانات لمسرح عربي جديد – ص: 17.
(3)- نفس المرجع، ص: 19.
(4)- نفس المرجع، ص: 20.
(5)- تجليات التغريب في المسرح العربي: قراءة في سعد الله ونوس محمد بدوي، مجلة فصول، المجلد 2، العدد 3، 1982.
(6)- بيانات، لمسرح عربي جديد – سعد الله ونوس – ص: 20.
(7)- سعد الله ونوس – بيانات لمسرح عربي جديد – ص: 113.
(8)- سعد الله ونوس – بيانات لمسرح عربي جديد – ص: 28.
(9)- سعد الله ونوس – بيانات لمسرح عربي جديد – ص: 113.
(10)- محمد بدوي – تجليات التغريب في المسرح العربي – قراءة في سعد الله ونوس – مجلة فصول – المجلد 2 – العدد 3 – 1982.
(11)- سعد الله ونوس – بيانات لمسرح عربي جديد – ص: 26.
(12)- سعد الله ونوس – بيانات لمسرح عربي جديد – ص: 29.
(13)- محمد بدوي – تجليات التغريب في المسرح العربي – قراءة في سعد الله ونوس – مجلة فصول – المجلد 2 – العدد 3 – 1982.
(14)- سعد الله ونوس – بيانات لمسرح عربي جديد – ص: 42.
(15)- محمددكروب – بيانات لمسرح عربي جديد – ص: 8.
(16)- سعد الله ونوس – بيانات لمسرح عربي جديد – ص: 109.
(17)- سعد الله ونوس – بيانات لمسرح عربي جديد – ص: 109.
(18)- سعد الله ونوس – بيانات لمسرح عربي جديد – ص: 113.
(19)- سعد الله ونوس – بيانات لمسرح عربي جديد – ص: 28.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى