الصلاةُ خيرٌ من الفِسيخة الميتة!
يوميات يكتبها صبري الموجي
في حارة ضيقة لم يزد طولُها علي 5 أمتار بها داران إحداهما لخالي غير الشقيق(محمود) ابن عم أمي، والثانية لخالي الشقيق (فوزي)، الذي لم يكن له نصيبٌ في (الخِلفة)، فأقامتْ معه جدتي لأمي، لتملأ عليه فراغ داره، التي كان يسكنها هو وزوجته.
كان وجودُ جدتي ببيت خالي ضَمانةَ أن يستمر الصخبُ واللعب و(التنطيط) بتلك الدار، وهو ما قصدَته جدتي، عندما قررت أن تترك بيت ابنها الأكبر لتسكن مع (فوزي).
كنتُ وأبناء خالي (درويش)، نُبكر للذهاب إليها؛ لتُخرجَ من (سَيالة) جلبابها للواحد منا قرش صاغ، فننطلق كعصافير خرجت من أعشاشها، نشتري الحلوي والعَسَليَّة والنداغة، التي كنا نتسابق في التهامها، ونتبادلها ليأخذ كلُ واحدٍ (مَصة) من نداغة أخيه لنكتشفَ أيها أجملُ طعما، وأحلي مذاقا.
رغم حُب جَدتي لجميع أحفادها، إلا أنني كنتُ الأثيرَ إليها، أو قُل كنتُ عندها (كحكة بسُكر)، ولم لا وأنا وحيدُ ابنتها الوحيدة (فاطمة)، تلك المسكينة، التي تمنت أن يرزقها الله بولد، يكون أخا لبناتها، وعونا لزوجها.
استُجيبت دعوةُ أمي، وجئتها بعد شوق، إذ كانت كلُ خِلفتها من الذكور يموتون إما (سَقطا)، أو في شهورهم الأولي، دون أن تعرفَ السبب هل هو حسدٌ، أو مرض، أو أي شيء آخر، لا تعرف، ولكنها كانت تُسلمُ بقضاء الله بلا ضجر .
بمجرد وضعي، وتيقُنِ أمي من ذكورتي، أسرَعتْ بلفي في خِرقة بالية، مخافة الحسد.
ذاع الخبرُ في العائلة، بأن (فاطمة) ولدت، فزارها الأهلُ والأقارب، ومن بينهم خالي (فوزي)، الذي لم يرزقه الله بولد من صُلبه، فرضي بما قسم الله، واعتبر أبناء أخويه وأخته أبناءه .
تحسستْ يدُ خالي (أشيائي) تحت الخِرقة التي تلفُني، فتهلل فرحا بعدما تيقن من ذكورتي، واختار أن يكون اسمي (صبري)، عسي أن أكون آخر صبرِ والديَّ، خاصة أمي، التي لم يعش لها ذكر .
مضت الأيامُ، وتعاقبت السنون، وصرتُ فتي يافعا، أجري وأمرح، أذرع في أرجاء الدار طولا وعرضا، فتفرح أمي لفرحي، (وتُقبل يدها وجها وظهرا) شكرا لله علي تلك الهبة الغالية .
أعودُ سريعا إلي حارة خالي، التي ملأها صياحُنا ضجيجا، إذ كنا نلعب (الاستغماية)، والتي يتولي فيها أحدُ الأطفال مُهمة البحث عن الآخرين، فيعطي ظهره للحائط، ويُغمضُ عينيه حتي يهرب الباقون، ثم ينطلق يبحث عنهم، ومن يلمحُه أولا، يتولي مهمة البحث عن رفاقه بعدما يتخفون منه إما في حجرة التبن، الذي كان يُقدم عَلفا للمواشي، أو في كَومة من (القش)، وهو عبارة عن حزم من عيدان الذرة الجافة المرصوصة فوق الأسطح كوقود لأفران (الخبيز)، أو في (مِزود) الماشية، بعدما يتغطي بجوال من الخيش، أو (حُضن) من البرسيم .
تنوعت وسائلُ ترفيهنا رغم بساطتها، ومن بينها لعبة (الفسيخة الميتة)، حيث يُلقَي الواحدُ فيها علي ظهره أرضا باسطا ذراعيه ورجليه، فيحملُه الآخرون، من أطرافه وسط دائرة من الأطفال، ويموجونه يمينا وشمالا وهم يرددون : (الفسيخة الميتة .. أعطوها للسيدة )، ويظل كذلك حتي يتعب، فيحل محله آخر .
الغريب في اللعبة، لماذا اختاروا اسم (السيدة) بالذات، ولِمَ لم يسموا اسما آخر .. لا أعرف، ولماذا اختاروا الفسيخ بالذات، فربما لو اختاروا طعاما آخر غير ميت لما غضبت جدتي !
نعم .. غضبت جدتي، وهذا ما ستعرفه توا .
لم نفطن ونحن نصرخ أن جدتي لأمي – رحمهما الله – كانت تُسمي (السيدة)، وكانت امرأة (ضَريرة)، وَهنَ بصرُها علي كِبر، وبإهمال العلاج فقدته نهائيا، ورغما عن هذا كانت ربة بيت من طراز فريد، ترتق ثيابها، ولا يرهقها إلا (لضمُ) الخيط بفتحة الإبرة الصغيرة، فكانت تستعينُ علي ذلك بأحد أحفادها نظيرَ قطعة من الحلوي أو قرش تعريفة، وتحلب الماشية، وتُنظف غرف الدار، وتُشعل البخور لتعم رائحته الطيبة أرجاءها، وتطرد الشياطين .
غضبتْ جدتي من كثرة الصياح، وأعتقد أن ما أغضبها أكثر ربط اسمها بتلك (الفسيخة) اللعينة .
صاحت جدتي تناديني، وتأمُرني بأن أكف عن اللعب، وإلا شكتني لأمي، ثم ربتت علي كتفي، وقالت : لا تُضيع كل وقتك في اللعب، وشرعت تُعلمُني كيف أصلي، وتُحفظني بعضا من قصار السور، التي حَفظتْها خلفَ شيوخ الإذاعة بمذياعها (الخشبي)، الجاثم فوق رفٍ من الطين بأحد جدران (القاعة) غُرفة نومها وإعاشتها .
سنواتٌ طويلة مضت علي رحيل تلك الجدة إلي وجه الكريم، وظلت الصلاةُ أول الدروس التي تعلمتها منها بعدما ضاقت ذرعا بلعبة (الفسيخة الميتة).