قطار أبراهام يتوقّف في محطّته الأولى
بقلم: نبيل عمرو – فلسطين
ظنّ أو قدّر مؤسِّسا مسار “أبراهام”، وهما بنيامين نتانياهو ودونالد ترامب، أنّهما حقّقا اختراقاً نوعيّاً يفضي إلى إنهاء الاستعصاء الدائم بشأن حلّ القضية الفلسطينية، من خلال تحقيق جملة اتفاقيّات سلام مع الدول العربية تضع الفلسطينيين في حالة تحتِّم عليهم قبول ما يُعرض عليهم وقد أصبحوا جزيرة صغيرة في بحر تطبيع عربي وإقليمي، وإن لم يكن شاملاً فقد يضمّ غالبية الدول الوازنة ذات التأثير المباشر في القضية الفلسطينية ومساراتها.
الحلّ المتدرّج
ليست المرّة الأولى التي يخطئ فيها الأميركيون والإسرائيليون معاً تقدير نتائج مبادراتهما الأحاديّة أو المشتركة بشأن القضية الفلسطينية وامتداداتها الشرق أوسطية. فقبل عقود حاول الإسرائيليون تنفيذ حلّ متدرّج من جانب واحد لإنهاء القضيّة على أرضها، وذلك بتأسيس روابط القرى لقسمة الشعب الفلسطيني وإضعاف مكانة منظمة التحرير التي تحظى بإجماع شعبي على قيادتها المطلقة للحالة الفلسطينية، وتمثّل عامل التوحيد الأساسي لكلّ الشعب الفلسطيني أينما وُجد. وقد فشلت هذه المحاولة في مهدها بفعل الإدانة الشعبية الشاملة للقائمين عليها، وكان الإفشال النهائي بفعل شعبي في الأساس.
في وقت آخر سمحت إسرائيل بإجراء الانتخابات المحلّية لعلّها تنتج قيادات منافسة لمنظّمة التحرير، إلّا أنّ ما حدث بالضبط هو فوز جميع القوائم التي حملت اسم المنظّمة وأعلنت التزامها وولاءها الكامل لها ولبرنامجها الوطني التحرّري. وفي وقت ثالث طرحت إسرائيل ما اعتبرته مبادرة حلّ، أساسها التقاسم الإداري بينها وبين الأردن، وقبل أن تصبح هذه المبادرة قيد البحث الجدّي أُفشلت تماماً، حتى إنّها لم تعد قابلة للنظر إليها.
على مدى هذه المبادرات جميعاً لم يكن الأميركيون ليظهروا في الصورة طرفاً مباشراً في الصيغ المطروحة، إلّا أنّ تحالفهم مع إسرائيل وعداءهم لمنظّمة التحرير، الموصوفة أميركيّاً “بالإرهاب”، كانا يسمحان بتصنيفهم داعمين موضوعيّين للخطط الإسرائيلية، فإن نجحت كان بها، وإن أخفقت فإسرائيل كفيلة بإنتاج البدائل، وسيكونون هم الداعمين في كلّ الحالات.
الفشل الأميركي
التدخّل الأميركي المباشر في الحلّ، منذ بداياته في مدريد، ثمّ الاستيلاء على نتائج أوسلو ورعاية “المصالحة التاريخية” بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومن دون التذكير بالمحطّات الكثيرة التي مرّ بها قطار الرعاية الأميركية، فإنّ الخلاصة كانت فشلاً مدوّياً أبعد فرص السلام عن التحقّق وفتح أبواب جهنّم على المسار الفلسطيني الإسرائيلي الذي يقف الأميركيون حياله “الآن” عاجزين تماماً عن فعل ما هو أكثر من الانتقاد اللفظي لإسرائيل والمواساة للفلسطينيين ودعوتهم إلى التعقّل في ردود الفعل حتى حين تُباد قراهم وتُستوطن أرضهم ويُقتل أبناؤهم.
إنّها مسيرة فشل في الماضي والحاضر، وهنا يجدر تقويم المحاولة الاستراتيجيّة الكبرى، وهي تغيير الأولويّات المنطقية بأولويّات مختلفة، فبدل أن تكون الأولويّة المنطقيّة للحلّ هي أصل المشكلة يجري استبدالها الآن بأولويّة اتفاقات أبراهام مع العرب، بما يظهر أنّ العلاقة السلميّة الرسمية مع السودان مثلاً أهمّ من العلاقة الإسرائيلية مع بؤرة التفجير المركزية “القضية الفلسطينية”.
بعد مضيّ فترة ليست بالقصيرة على انطلاق قطار أبراهام من محطّاته الأولى فإنّ كلّ ما يجري على أرض الصراع، وخصوصاً في الأمكنة المستهدفة من أجل إزالة صواعق التفجير منها، يتمّ عكسه تماماً، وحتى الدول التي بادرت إلى التعاون مع مشروع أبراهام الأميركي ربّما بفعل ما تراه حقّاً سياديّاً لها في إقامة علاقات ثنائية مع من تشاء، بما في ذلك إسرائيل، لم تنأَ بنفسها عن التأثّر المباشر بغياب الحلّ السياسي للقضيّة الفلسطينية. ومهما قطع المطبّعون العرب من خطوات على مستوى علاقاتهم الثنائية المستجدّة مع إسرائيل، فإنّهم لا يستطيعون تفادي ردود أفعال شعوبهم على ما تفعله إسرائيل بأشقّائهم الفلسطينيين، إذ مهما تباعدت المسافات يظلّ الحرق والاستيطان واقتحامات الأقصى هي أكثر وأعمق ما يؤثّر في مواقف الشعوب، ومهما بلغت مزايا العلاقات الثنائية مع إسرائيل، وهي شديدة التواضع على أيّ حال، فإنّ ما يظلّ الأعمق في مشاعر الشعوب هي ثقافة الالتزام بالحقوق الفلسطينية التي هي أولويّة لن تعلوها أولويّة أخرى.
قطار أبراهام متوقّف، سواء على المحطّات التي وصلها أو تلك التي يتطلّع إلى بلوغها، والأميركيون والإسرائيليون يبسطون الأمور على ركّاب القاطرات المتوقّفة بالقول إنّ القطار ينتظر إشارة من المحطّة الكبرى المنشودة “السعودية” وإنّ “الدولة الفلسطينية التي يلتزم بها العرب والعالم أساساً لإنهاء الصراع الشرق أوسطيّ ينبغي أن تُجتثّ من حياة وأحلام الفلسطينيين، وعليهم أن يقبلوا الفتات الفائض عن مائدتنا، وإلّا فليس لهم عندنا إلّا ما يرون الآن”.
هكذا قال نتانياهو، ولا أعرف هل يدري أو لا يدري أنّه بذلك يقيم جداراً إضافياً يستحيل اختراقه أمام قطار أبراهام؟.