ماذا نعني بنقد النص التاريخي؟
د. أحمد رفيق عوض | فلسطين
نقد النص التاريخي عملية معقدة، ولا تقتصر على تبيان الأخطاء التقنية أو ترتيب الرواية من تحقيب وتزمين، ولكنها تشمل الأطر والمرجعيات وعمليات التوظيف والتفسير والاستخدام. هناك فرق بين التاريخ كما حصل وبين ما نعتقد أنه تاريخ. فالسرد التاريخي في نهاية الأمر وأوله، مجرد حكاية نسردها لأنفسنا ولغيرنا لترسم صورتنا التي نريد، ولتؤكد ما نعتقد أنه نحن، بمعنى أكثر دقة، السرد التاريخي مصلحة ورافعة ضرورية لتحديد الحدود الثقافية والنفسية واكتشاف المسار الذي يجعلنا على مسافة ما من الآخرين، والحقيقة التاريخية إن وجدت تساعد كثيرا في ذلك ولكنها ليست كل شيء، فهناك الهوى والمصلحة والرغبة في الانتصار والتميز والانفراد، الحقيقة التاريخية تخضع هي الأخرى للتفسير والتأويل والتوظيف. لهذا، فإن نقد النص التاريخي انما يشمل ما يلي:
1. المنهج المستخدم في المعرفة وانتاجها وتوظيفها ومن ثم قدرتها على الاستحواذ او الاقناع، فالمنهج هنا يخدم الهدف، أو أن الهدف هو الذي يخلق المنهج من أجل أن يؤكده أو يرسخه. المنهج العلمي ليس بريئاً هو الآخر، ولهذا فإن هناك توالد بوتيرة عالية لمناهج علمية جديدة.
2. أدوات السرد التاريخي ذاتها، وأعني بذلك لغة الخطاب ودلالاته، التي تتضمن فيما تتضمن عمليات الحذف والاضافة، والتعتيم والاضاءة، وكذلك استخدامات المفردات والمصطلحات المضللة او التي تختصر أو تتجاوز الحقائق. وهذا من أخطر ما يمكن مواجهته في عمليات السرد التاريخي، فاللحظة ذاتها تلعب دوراً تاريخيا في اختلاف الرواية او تشكيلها او اعادة انتاجها بما يخدم الأهداف المختلفة.
3. المرجعيات والأطر التي يجري من خلالها أو على ضوئها عمليات السرد والتفسير والتأويل للمعطيات التاريخية. ذلك أن هذه المرجعيات الفكرية والعقائدية والسياسية تلعب الدور الأكبر في مركزة التاريخ وتهميش الآخرين. ان مشاعر الاستعلاء والاستحواذ والعنصرية الثقافية والعرقية تلعب دوراً في إغماط الآخرين حقهم في الوجود أو حتى حقهم في الكلام.
4. عمليات التفسير والتأويل ذاتها يجب ان توضع موضع النقد العميق والمتأني ايضا، اذ ان النص التاريخي – بغض النظر عن مصادره- يكتب من خلال تفسيره او تأويله، اي ان هذا النص يحتوي على ايدولوجيا وعلى اهداف مبيتة اصلا، بمعنى ان النص التاريخي ليس محايدا ولا بريئا، بل هو نص فيه مآرب ومقاصد يمكن تبيانها والاشتباك معها.
5. النظريات المستخدمة في عمليات التفسير والتأويل، وهي من الكثرة والمقامرة والمغامرة بحيث لا يمكن احصاؤها. فهناك نظريات تكاد تشبه الخيال او هي الخيال بعينه، ونظريات التفسير والتأويل التاريخي تلعب دور المنفذ للأجندات والمقاصد والاهداف، مثلها في ذلك مثل المناهج المستخدمة في معالجة المعطى التاريخي.
6. الأهداف السياسية والثقافية التي تقف وراء النص التاريخي هي الاخرى موضع النقد والمساءلة، ذلك ان هذه الاهداف هي التي تختطف النص وتفسره وتوظفه من اجل تحقيق تلك الأهداف. ان تقسيم البشرية الى اعراق محددة وثقافات دنيا واخرى عليا انما تخدم سياسة الهيمنة والاخضاع والاستثمار.
7. عمليات الترويج وتكريس الرواية التاريخية القوية والسيطرة من خلال الاعلام والادب والفن انما هي الاخرى عمليات يمكن نقدها وفضحها ايضا، اذ ان ترويج الرواية المسيطرة بقوة السلاح او المال او كليهما انما تقدم التاريخ كما تريد لإدامة تلك السيطرة. ومن العجيب ان كثيرا من مخازي التاريخ لا تنشر ولا تضاء ولا يمكن الحديث عنها.
8. أخيرا، فان من أحد اهم مجالات نقد النص التاريخي ما يتعلق برواية القوي ورواية الضعيف، فهناك رواية المهزوم ورواية الاقليات ورواية المشافهة والروايات الموازية، كل ذلك يشكل مجالا للأخذ والرد في تعزيز او نقض الرواية التاريخية المسيطرة.
9. هذا ملتقى للحديث في كل ذلك، وهنا مجال لنا نحن الفلسطينيين ان نتحدث عن تاريخنا الذي نريد والذي نأمل ان ننقله الى الاجيال القادمة. تاريخ القوة والبقاء والصمود والاستمرار في مواجهة رواية ظالمة تهدف ضمن امور اخرى الى شطبنا والغائنا في مقدمة لاغتصاب حقوقنا وملكيتنا ومساهماتنا.