حنين العائدين
قصة: صبحه بغوره | الجزائر
حالة من الفوضى تتولد في نفسه وتسكنه كلما أطل من على حافة الجنون في اتجاه عناوين الحنين والشوق حيث نسائم بلده وتلك النجوم التي تعده بلقاء قريب يجمعه مع أهله في وطنه، يستحضر تقاسيم وجه أمه وملامح قريته التي يحيطها بهاء حقول اللوز والكروم ،تستقبل زائرها أسراب العصافير الرقيقة التي تفيض حنانا وحبا، يشهر أحلامه ويرسم لغده لقاءا جميلا، ترك إسماعيل بلدته فور زواجه وهو في سن صغيرة، سافر الزوجان إلى فرنسا هربا من الفقر والجوع وبحثا عن الحياة الناعمة، وترك أمه تتكبد وحدها مشقة العيش وصعوبات الحياة. في مدينة “ليون” الفرنسية لم تكن الأمور سهلة كافح وزوجته من أجل لقمة العيش، وبعد سنين من العمل الدؤوب وبالكثير من الصبر تمكن من امتلاك محل جزارة يعيل به أسرته وأولاده، وفي عمق بهرجته الإنسانية المتطرفة مرة والمتداخلة مرة أخرى في امتداد الذات مع اتساع حدقة القلب تعددت زلاته وتنوعت صدماته وتفاوتت في شدة وقعها على بساط الإدراك، كل الحالات التي يعيشها انتشى ببداياتها المطرزة بخيوط التمني والحافلة بالتفاؤل عند كل منعطف يعبر فيه حواجز الغربة والتردد ليذوب في حضن الاحتياج فأنهكته تفاصيل الغياب ووحشة الأمكنة الفارغة من الحنين، ألم الغربة يقيده بسلاسل الماضي ويحجب عنه رؤية المستقبل بوضوح، ولكن أي مستقبل وقد مضى من العمر ثلاثون عاما قضاها في الغربة لم يزر خلالها والدته سوى مرات معدودات ثم انقطع بعدما فارقت الحياة، لمن يذهب، فالبيت الذي كان جدده أهمل كثيرا لسنين طويلة،ولكنه هذه المرة صمم أن يعود لزيارة قريته وليعرف حفيده وأصله وبلاده وجبالها وسهولها،إن مجرد الحلم بالعودة تنطلق سريعا أمام ناظريه عديد الرؤى إلى القريب المنتظر، أنه ما تبقى له من الحلم يمسح بومضه ظلام الآلام الواهنة في ذاتها ولكنها الكاسحة بإيحاءاتها لخطوط الحياة التبادلية رغم تمرد الحظ بجملة مفارقات التي تبتسم على شفاه النحس عندما تفرط الأيام في بؤسها على مرآة الروح، وبعد مرور العمر تتضح الرؤية للمشهد الذي استنفذ كل طاقته الذهنية لفهمه، سأل نفسه هل هو خارج منطقة الاستيعاب أم هي حالة تبلد أو أنه الهم يتنفس فيضا من المشاعر المبهمة على عتبات العجز، وذاكرة خائرة القوى ازدحمت من فراغ، وفي تعدد المشاهد المؤلمة يغوص في أعماق الصمت حين يضطره الموقف، يرفض أن يكون مجرد صوت نشاز لا يسمن ولا يغني من جوع في الضجيج السائد، الحياة جعلت منه حكيما يفكر بعقل وروية، انه مصمم هذه المرة على السفر وتجديد الهواء، في غربته طالما خذله صبره بالعودة على قارعة الانتظار ولم يفهم وجعه وقد شمل الأسى كل زواياه وفاضت دموعه، كثير ما أخذت الغربة عزيزا عليه فلم يبقى في عمره الربيع ربيعا ولا الصيف صيفا فيمر يومه وهو يعلم أن مثله سيكون غده عليه نارا تحرق جسده، لكن هذه المرة سيغلق باب الليل ويهزم الظلام ولن تتغير أشياءه، اقترب موعد السفر أحضرت زوجته سعدية متاعها رفقة ابنها مالك وحفيدها نسيم المتلهف ليرى جنة الأحلام التي وعده بها جده تاركا باقي أولاده و بناته الذين رفضوا الذهاب معه لأن أشغالهم كثيرة، وأخيرا عاد إسماعيلإلىأرضه ودخل بيته بعد جفاء وهجر طويل، كانت الثلوج تكسو جبال قريته ووجوه أجيال جديدة نشأت ووجوه أخرى بحثت عن الحياة في مكان أخر وبلد آخر، تنهد طويلا أمامأشجار الزيتون التي هرمت وأهملت، ترى هل سترحب به أرضه؟ وهل ستلين حقوله له؟ هل بإمكانه أن يزرع الحياة فيهاهذه المرة بعدما أخذت الغربة منه كل صحته؟ فكر مليا وعاد إلى البيت وقد كانت حبات الثلج تنذر بليلة باردة، زوجته سعدية رتبت البيت وأعدت الطعام ،ذهب ابنهما مالك إلى المدفأة وأشعلها ،قضوا الليل يحيون ذكريات الطفولة والمكان ويستحضرون الأحداث تتلوهاأحداث، يغالبونقسوة الطبيعة التي بالخارج ومن حلاوة الحديث أخذ كل واحد مكانه أمامالأخر وراحوا في نوم عميق ، مرت الأيام ولم يظهر إسماعيل ولا عائلته كعادتهم ، قلق أهل القرية عليهم وراحوا يسألون عنهم لكن لا مجيب لندائهم، كسروا باب البيت فوجدوهم كلهم أمواتا، فارقوا الحياة إلى الأبد نسوا أن فتحة مدفأة الغاز قد استعمرتها حمامة وبنت فيها أعشاشها وعمرتها طوال السنين الماضية حتى أقفلتها قفلا محكما، ماتوا مختنقين بالغاز، غرق إسماعيل في نوم أبدي لا رجوع منه وهو يحضن أحلامه التي طالما انتظرها، انه الوطن الذي سبق أن خذلته مثله نفوس المتعبين من أبنائه من قبل ولم يجد سوى هديل الحمائم الحالمة له .