العالم العربي والمشكلة العمرانية

بقلم: حواس محمود

تعيش المدينة العربية حالة الأزمة منذ أكثر من نصف قرن بسبب هجرة السكان من الريف إلى المدن، بحثا عن الراحة والصحة والأمان، ولكن هذا البحث قد يؤدي إلى نتائج معكوسة، إذ تتفاقم الأزمة في المدن وتقل الخدمات الضرورية وتعج الأسواق بالمارة والسيارات، وتتكاثف المساكن المتجاورة، وتختلط المياه العذبة مع مياه المجارير وغيرها من المياه الملوثة مما يؤدي إلى الأمراض والأوبئة والتلوث البيئي.
أزمة المدينة العربية :
بادئ ذي بدء لا بد من التطرق إلى تعريف أرسطو عن المدينة التي يقول بأنها: “المكان الذي يعيش فيه الناس حياة جماعية من اجل هدف نبيل” ويقول الدكتور غانم هنا: “خلافا لما قد يعتقد الكثيرون لم تنشأ المدن المتطورة عن تجمعات صغيرة في التاريخ، بل كان نشوؤها ملازما للتجمعات الأولى، أي منذ بدأ الإنسان يستتب على بقعة من الأرض، وذلك كشكل مستقل للتجمع الإنساني”، ويشير أيضا إلى أن: “المدن قد أنشئت ليس تجاوبا مع متطلبات التصنيع، ففي كولومبيا مثلا أقام الرعاة في المدن، وفي الحضارات المصرية القديمة أو البابلية أو اليونانية أو الإيرانية نشأت المدن حول مراكز السلطة أو العشائر الدينية ” (1).
لقد مثلت المدينة كموضوع دراسة في العلوم الاجتماعية شيئا أكبر من تخطيطها الفيزيقي وتنظيمها الخدماتي ( كالخدمات التعليمية والصحية والأسواق وأجهزة الأمن … الخ) أي أنها – أي المدينة – في واقع الأمر بناء أو تركيب معقد من الأنساق القيمية والثقافية، إنها وكما يقول روبرت بارك :” نسق من عادات وتقاليد واتجاهات ومواقف منظمة ومشاعر متلازمة مع هذه العادات تتناقل عبر هذه التقاليد ” ( 2).
والمدن كانت وستظل المراكز الرئيسية للعلم والإنتاج والفنون والثقافة، وباختصار للحضارة، وبالنسبة للعالم العربي فقد شهدت مدنه اتساعا كبيرا لم يسبق له مثيل، إذ أن نسبة سكان المدن ارتفعت من 27,7 في المائة عام 1960 إلى 46،8 في المائة عام 1980، وهي نسبة آخذة في الارتفاع، وبحلول عام 2000 فإن ستة أشخاص تقريبا من بين كل عشرة أشخاص من سكان المنطقة سيكونون من أهل المدن، ولقد تسببت هجرة السكان من الريف إلى المدن في ظاهرة ” ترييف المدن”، أي إضفاء طابع الريف على المدن، إذ تمركزت العوائل المهاجرة في ضواحي المدن الكبرى في العالم العربي، هذه الضواحي التي تنقصها الخدمات حتى أن بعض المهاجرين قد احتلوا مقابر الأموات في مدينة القاهرة، ويقدر عدد الذين يعيشون في مقابر تلك المدافن القديمة ب 250000 و 900000نسمة، وتشير منى سراج الدين (3) (التي تلقي محاضرات حول تخطيط المدن في جامعة هارفارد) إلى أن المدن العربية التي تضج بالنشاط تنتج في الوقت نفسه فرص الحصول على مغريات عديدة، فهذه المدن تمثل في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية البؤرة الديناميكية للحياة العربية وقطب المغناطيس القوي الذي يجتذب النازحين.
إن ازدحام السكان بات اليوم سمة عامة في الحياة اليومية للمدن في كافة أرجاء المنطقة، ويضطر أهل المدينة للتنافس سعيا وراء الحصول على موارد بعيدة المنال، وتختنق الشوارع بحركة المرور التي تلوث الهواء وتنفجر أنابيب المياه والمجاري، وتسد الطرقات، وتنتفخ الباصات بالركاب حيث توجد وسائل النقل العام، ولكي نكون على إطلاع واضح بأزمة المدينة يمكننا أن نذكر – هنا- بعض المشكلات الصحية في المدن العربية:
مياه الشرب: هناك سببان رئيسيان لأزمة المياه النقية يتعلقان بكمية المياه المتوفرة ونوعيتها ، الأول النمو الحضري المتزايد وما يتمخض عن ذلك من تزايد في طلب المياه واستهلاكها. أما السبب الثاني فهو التلوث الذي صار يصيب جزءا من هذه المياه من مخلفات السكان والصناعة.
النقل وآثاره : إن أكثر العناصر الضارة بالبيئة الحضرية وضوحا للعيان عنصرا الازدحام والنقل، فساكن الحضر أول ما يميزه عن أخيه الريفي هو التوتر الناجم – لدرجة عالية- عن تعرضه المتواصل لاختناقات المرور والضوضاء وضياع ساعات العمل وتدني إنتاجيته المطلوبة. وتجدر الإشارة إلى أن وسائل النقل تقوم ببث مجموعة من الملوثات في الجو، تقدر بآلاف الأطنان في العام أهمها أول أكسيد الكربون والذرات العالقة في الهواء وثاني أكسيد الكربون وغيرهما، ويمكن القول بأن الرصاص مادة سامة تبثها الناقلات في شكل ذرات دقيقة في الهواء يستنشقها الإنسان، وتمتصها الرئتان بكفاءة شبه تامة، وعند دخوله الجسم يبدأ بمهاجمة المخ والأعضاء الأخرى، وحتى في الأطوار البسيطة لهذا التسمم يصاب الصبي بتدهور في أدائه الفكري وتشتت في ذاكرته للمدى القريب وضعف قراءته وتهجيه …الخ.
الصرف الصحي : تتراوح نظم الصرف الصحي في المدن العربية من الشبكات العامة الحديثة للصرف إلى أحواض الترسيب والآبار في كل بيت إلى المراحيض البلدية( الحفر) إلى المراحيض المهوَاة المحسَنة، وهذه كلها تحتاج إلى معايير تحكم أداءها، فالمراحيض البلدية مثلا تلزمها مواصفات دقيقة في التربة الحجرية الصلبة والتربة الرملية القابلة للانهيار، وفي المناطق ذات المستوى العالي للمياه الأرضية والمناطق التي تزداد فيها أخطار تلوث المياه الجوفية المجاورة.
النفايات : ازدادت في عصرنا الحالي مخلفات المناطق المختلفة في المدينة (سكنية- تجارية- صناعية- خدمية) حتى أضحى تراكمها يهدد صحة البيئة والمواطنين، وأصبحت تلال القمامة منظرا مألوفا في كثير من المدن العربية، ومصدرا للأمراض، خصوصا للصبيان، ويكون أثرها أبلغ ضررا في المناطق الرطبة، وفي مواسم الأمطار التي تساعد على توالد الذباب والبعوض والبكتريا والفطريات والقوارض، كما تزيد مخلفات المناطق الصناعية باحتوائها على الأبخرة والمواد الكيميائية الضارة بالتربة والهواء ومصادر المياه.
تصريف المياه السطحية : يخلق تجمع المياه السطحية وركودها في كثير من المدن العربية مشكلة صحية وبيئية كبرى، خصوصا في الأحياء الفقيرة وفي مناطق السكن العشوائي التي لا تكون أرضها أصلا صالحة للبناء عليها والسكن، والمشكلة لا تكون فقط من مياه الأمطار والسيول، بل تنبع إلى جانب ذلك من مواسير التغذية الرئيسية المسربة للمياه أو المنفجرة، ومياه الغسيل والاستجمام، بل أسوأ من ذلك مجاري التصريف الصحي الطافحة بسبب الانسداد أو ضعف طاقة المحطات على السحب، فتظهر بذلك برك المياه الآسنة والجداول المليئة كخط رئيسي ولاسيما حين تختلط مياهها بالنفايات المنزلية والصناعية.
الصناعة وآثارها : شهدت المدن العربية بدايات التصنيع بشكل ملحوظ. ومع أهمية التصنيع وحتميته لنا فانه يجلب عللا لابد من مجابهتها، ومن أهمها التلوث بأنواعه – الهواء- الماء- التربة –، فإلى جانب تلوث البيئة بالضوضاء والحرارة، هناك تلوث للجو في دول النفط ينتج عن عمليات استخراج النفط وتكريره، وحين تكون مستودعات النفط تحت الماء يحدث بالإضافة إلى ذلك تلوث المياه، أما مخلفات عمليات التصنيع فكثيرا ما تجد طريقها إلى الأراضي المجاورة، عاملة بذلك على تدمير التربة، ولا يزال أغلب الأقطار العربية من دون قوانين ملزمة تحكم التصرف في مخلفات الصناعة.
السكن العشوائي: أضحت الكثير من المدن العربية مطوقة بأحزمة من السكن العشوائي ” أحزمة البؤس” كما يقولون لها وتفوق في بعض الحالات ما يزيد عن نصف سكان المدينة، ويوفر السكن العشوائي البيئة المهيأة للعديد من الأمراض البيئية منها والعضوية والنفسية والاجتماعية ( 4).
إن المناطق الحضرية تتمدد عشوائيا في الريف جارفة في طريقها أرضا زراعية قيمة وإن قرى بأكملها يتم ابتلاعها، ولقد تحولت حقول زراعية بالقرب من المدن الرئيسية مثل القاهرة، بغداد، دمشق بيروت، إلى مناطق سكن عشوائية أو مدن صفيح أو عمارات سكنية عادية، وبعد أن كانت تلك الحقول تمد المدن بالخضار والفواكه أضحت بيئات سكنية غير كاملة المواصفات من حيث النظافة والشروط الصحية المناسبة، ولم تعد مناسبة للغطاء الزراعي (5).
إن الأزمة التي تعيشها المدن العربية تتفاقم أكثر في ظل غياب المساكن السكانية لاحتضان هذا الكم الهائل من الناس، وترتفع قيمة الإيجارات إلى مستويات خيالية مخيفة في كثير من الأحيان، وتمتلئ مراكز المدينة وأسواقها بالسكان، واستدراكا وامتصاصا لهذه المشكلة أقيمت في مدينة حلب جدران في البيوت القديمة ذات الأفنية والتي كانت تضم من قبل أسرة واحدة بحيث قسمت إلى شقق تشغلها عدة أسر لكل منها قطعة صغيرة من الفناء (6)
ومن المفارقات العجيبة أنه بالرغم من ندرة المساكن إلا أنه هناك الكثير من البنايات والمساكن الخالية من السكان احتفظ بها أصحابها لأهداف تجارية صرفة، ويبرر أصحاب هذه المساكن في ( القاهرة- حلب – دمشق- بيروت ) خلاءها من السكان بأنهم مضطرون لذلك بسبب القانون الذي يجعل من المستحيل تقريبا إخلاءها إذا تم تأجيرها (7)
إن هذه الأزمات الحادة التي تعانيها المدينة العربية تتطلب حلا، وهذا الحل سيكون بإنشاء مساكن جديدة، وتوسع مديني، ولكن العديد من المشاريع فشلت، في هذا الصدد نذكر على سبيل المثال في مصر ( في عهد السادات ) تم وضع مخططات لإنشاء ثلاث مجمعات جديدة –العاشر من رمضان – مدينة السادات- مدينة الأميرية الجديدة (8).
وكانت الخطة استيعاب كل منها نصف مليون إنسان بحلول عام 2000 ولكنها فشلت في ذلك لأسباب متقاربة ، ويعود ذلك إلى عدم تلاؤم الإنسان في العالم العربي المتميز بخصوصية ونفسية وروحية وتقاليد خاصة تتناقض مع واقع وبيئة وسكن له طابع غربي، محول على عقل ويد وممارسة مقاولي وتجار العقارات والبناء إلى “علب كبريت” جامدة، وجرت محاولات مماثلة في مدن الخليج وفشلت هي الأخرى – في معظمها- لأسباب مماثلة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن العيب ليس في البناء الغربي بحد ذاته وإنما في تنفيذ النموذج الغربي الحرفي والكامل – إن جاز التعبير – في المنطقة العربية التي تختلف ببيئتها ونمطها البيئي والاجتماعي عن البيئات الغربية.
لقد قفز الاستهلاك المنزلي في مدن الخليج عاليا دونما ضابط من أجهزة القياس في معظم الأحيان، وتوضح حالة الكويت الحاجة الماسة والمتزايدة للماء(9).
وقد كان بوسع الطبقات الصخرية المائية المحلية الوفاء باحتياجات السكان من الماء، إلى أن ازداد الطلب في بواكير هذا القرن وأرسلت المراكب الشراعية التقليدية المعروفة باسم ” البوم” لجلب المزيد من المياه العذبة من شط العرب.
إن الاستهلاك المنزلي في الكويت تضاعف خلال الفترة من الخمسينات إلى السبعينات أربع مرات تقريبا، ومن اجل مواجهة الطلب بنيت محطات لتحلية المياه، وبالنسبة لدول المغرب العربي وطبقا لمعطيات البنك الدولي فان حوالي 45% من المغاربة يقطنون المدن حاليا بالمقارنة بنسبة تقل في عام 1960 عن ثلاثين في المائة، وبالمثل يعيش نصف الجزائريين وأكثر من نصف التونسيين في المدن، إن هذه المظاهر من الأزمة المتفاقمة في المدينة العربية تتطلب – بطبيعة الحال – حلا لها، وهذا الحل لن يكون سوى التخطيط العمراني، الذي يمكنه وحده ضبط الأزمات وحركة السكان والعمران بشكل يحافظ على صحة الإنسان وسلامته، وفي الآن نفسه على جمال وحيوية ونشاط المدينة، والتخطيط العمراني مهم جدا لأي مدينة، وفيما يلي سنتناوله بشيء من التفصيل:
التخطيط العمراني :
لنبحث في البداية عن ماهية التخطيط العمراني، وللوصول إلى فهم لهذه الماهية يمكننا إيراد بعض التعاريف لتقريب مفهوم ” التخطيط العمراني” من ذهن القارئ:
تعريف أول: ” التخطيط العمراني هو علم وفن وتقنية وسياسة ومهمته وضع نظام وظيفي واقتصادي وفراغي في المكان المأهول ” (10).
تعريف ثان: ” التخطيط العمراني يهدف إلى الاهتمام بالتنظيم الشامل للمدن والحواضر بغية توفير ظروف حقيقية وكاملة للإنسان ليعيش وينتج ويستجم ” (11).
تعريف ثالث: ” التخطيط العمراني هو نظرية وممارسة لتخطيط المدن وبنائها، ويشمل ذلك مجموعة من التدابير الاجتماعية والاقتصادية والصحية العامة والبنائية التقنية والمعمارية ” ( 12 ).
وتعرف ” الموسوعة البريطانية المختصرة ” التخطيط العمراني بقولها : ” التخطيط العمراني برنامج وأساس تخطيطي إلزامي لبناء المكان المأهول ومحيطه وإعادة بنائهما وتجميلهما وتطويرهما الشامل، وذلك لفترة تتراوح بين 15-20 سنة في إطار خطط الاقتصاد الوطني ” (13).
ويربط الدكتور احمد الغفري بين المدينة واحتياجاتها من جهة والتخطيط العمراني من جهة أخرى، فيقول ” إن المدينة تجسد على أرض الواقع الحياة الإنسانية العصرية اليوم، والعصرية بالأمس، والعصرية في المستقبل، وتحتاج إلى متطلبات، وعلى التخطيط العمراني تلبيتها جميعا، لكي يتمكن الإنسان من ممارسة حياته الإنسانية دون أزمات “.
وظيفة التخطيط العمراني:
قد يقع مخطط أو منظم المدينة في أخطاء تؤثر سلبا على السكان، وهذا التأثير أكبر بكثير مما قد يقاس بخطأ مهندس إنشائي يسبب أضرارا لبعض سكان إحدى البنايات، يقول في هذا الصدد الدكتور احمد الغفري ” إن خطأ المهندس الإنشائي في تصميم جسر قد يؤدي إلى كارثة مرة واحدة، ولكن خطأ منظم المدينة يؤدي إلى كوارث مباشرة متتالية ( حوادث الطرق )، كما يؤدي إلى ما يشبه الموت البطيء (الضجيج ، سوء توجيه الأبنية – قلة المساحات الخضراء – توسيع الشوارع والأماكن المرصوفة كمصادر للوهج ) ( 14) .
وهناك أخطاء كثيرة يقع فيها منظم المدن منها : منظم المدن الذي يضع المصانع على طريق الرياح السائدة، أو يضع المسكن على شارع كثيف الحركة الآلية أو يبعده عن سوق تأمين الحاجيات اليومية، أو يضع المنطقة الصناعية بجانب منطقة سكنية، أو يضع مدرسة في الطرف الآخر من شارع مزدحم بالسيارات، أو يتغافل عن تأمين ملاعب ورياض الأطفال ، أو يقلل من الحدائق إلى درجة أدنى …الخ.
وبالرغم من أن التخطيط العمراني اختصاص علمي، إلا أن مهندس التخطيط العمراني يلجأ ويزداد لجوؤه كلما ازداد تمكنه من اختصاصه إلى حد كبير من الاختصاصات الأخرى، بهدف تحقيق الشروط المثلى لمعيشة الإنسان وعمله واستجمامه، من هذه الاختصاصات : الجغرافيا، علم الاجتماع، البيئة، االعمارة، الهندسة الإنشائية، علم المياه، الطبوغرافيا، الصحة العامة، المناخ، الصرف الصحي، ميكانيك التربة، الزراعة ، الفنون التشكيلية، ولكن مهندس التخطيط العمراني يبقى قائد الأوركسترا( المايسترو) لتحقيق التناغم المطلوب من جميع الاختصاصات الأخرى، ويمكن القول بأن ” التخطيط العمراني ليس تقسيما لشوارع يصطف على جانبها صفان من الأبنية، ومن المؤكد أن المدينة هي المكان الذي يعيش فيه الإنسان، وهذا يتطلب من مهندس التخطيط العمراني أن يوسع مداركه ومعارفه قدر ما هي واسعة حياة الإنسان وعمله، وأن يؤمن لهذا الإنسان المأوى والراحة فيه وخارجه، وأن يقيه من المنغصات التي تؤدي إلى أمراض عصبية وجسدية، وتؤثر على إنتاجية عمله وعلى علاقاته بالآخرين ” (15).
إذن بالاستناد إلى ما سبق نجد أن التخطيط العمراني مسألة دقيقة وحساسة، وعليه أن يأخذ بالاعتبار عملية التوفيق بين الجانب الوظيفي والجانب الجمالي والجانب الاقتصادي، فعلى مدى نجاح التوفيق بين العناصر السابقة المتناقضة يمكن تقويم المخطط العمراني إيجابا أو سلبا، وبالاستناد إلى تعريف المدينة ” المكان الذي يعيش فيه الإنسان ويعمل”، نرى أن مهمة منظم المدينة تعتمد بشكل رئيسي في تأمين مسكن للسكان وتلبية احتياجاتهم، وبالنسبة لتأمين المسكن ومستلزماته يتوجب على منظم المدينة أن يؤمن للسكان جميع الخدمات الضرورية في إطار مرحلة التطور التي يعيشها هؤلاء السكان مع الأخذ بالاعتبار التطور المستقل، ويمكن تحديد هذه الخدمات ب :
الأملاك العامة: وتشمل الشوارع بأنواعها، الحدائق، الساحات.
المشيدات العامة: وتشمل المدارس، المراكز الطبية، المراكز الثقافية، أماكن العبادة، المراكز الإدارية ، مخافر الشرطة.
الأسواق التجارية.
التأثير على الحالة الصحية والنفسية للسكان :
يلعب منظم المدن دورا رئيسيا في التأثير على سلامة الحالة الصحية والنفسية للسكان سلبا أو إيجابا، ويمكننا في هذا السياق أن نورد أمورا كثيرة تؤثر على هذه الحالة بصورة عامة ( 16).
وضع الأبنية السكنية: يتطلب من منظم المدينة أن يوفر لسكانها القدر الكافي من الضياء والهواء والخصوصية والمنظر الجميل، وذلك بالتوافق والانسجام مع الظروف المناخية والاجتماعية والموقع، وتقع أخطاء كثيرة في هذا المجال، كمثال : قرب الأبنية بعضها من بعض لدرجة تفقد المسكن خصوصيته، وتجعله تحت أنظار سكان المبنى المجاور، مما يضطر العديد من السكان إلى إغلاق نوافذهم إغلاقا دائما، وبذلك هم يحرمون أنفسهم من الشمس والهواء.
تأمين مساحات محددة أو أنصاف أقطار تخديم لا يجوز تجاوزها بالنسبة لكل نوع من أنواع الخدمات، والغاية من ذلك هي تأمين حصول السكان على هذه الخدمات دون عناء كبير، وتحصل أخطاء في هذا المجال كمثال: بعد المدرسة وبخاصة ” الابتدائية”- حيث الأطفال الصغار-، عن كثير من الأبنية السكنية بعدا يخلق قلقا لدى الأم والأب، ويستمر هذا القلق إلى حين عودة الطفل من المدرسة.
توازن استعمالات الأراضي يتوجب أثناء دراسة المخطط التنظيمي العام لمدينة من المدن أو المخطط التفصيلي لقطاع معين من المدينة، أن ينصب الاهتمام الأول على التوازن في استعمالات الأراضي، وتأمين تناسب سليم للمسافات بين مختلف الاستعمالات لتلبية احتياجات السكان الأساسية، وتقسم هذه الاستعمالات إلى أبنية وفراغات.
الأبنية: وتشمل السكنية والعامة، الإدارة ، الثقافية، الدينية، الصحية، التعليمية، التجارية والخدمية، أما الفراغات فتشمل حدائق خاصة، حدائق عامة، ساحات عامة، شوارع، مواقف سيارات، ممرات، وأرصفة للمشاة، والغاية من التوازن بين مختلف استعمالات الأراضي هي أن لا يطغى استعمال على آخر، ويمكننا أن نضرب مثلا على سوء التوازن بين استعمالات الأراضي ما يتعلق بالشارع والرصيف، إذ أن الدراسات أثبتت أن 70%من حوادث السير في الاتحاد السوفياتي السابق يعود سببها إلى سوء تخطيط الطرق، والشوارع، وأشار باحث فرنسي إلى أن هذه النسبة هي 80%.
تنظيم المدينة والاستجمام: يقسم علماء تنظيم مدن الاستجمام إلى ثلاثة أنواع : يومي، أسبوعي، موسمي، وتقع على عاتق منظم المدينة مسؤولية اختيار مواقع الاستجمام الملائمة في المدينة، ويمكن تأمين الاستجمام اليومي بتخصيص مساحات كافية للحدائق العامة وللمساحات الخضراء، وتوصلت الدراسات إلى نتيجة مفادها أن درجة حرارة المناطق الخضراء تنقص عما هي عليه في مناطق المدينة الأخرى ويصل الفارق إلى (15) درجة مئوية، كما أن المناطق الخضراء تقوم بتخفيف الضجيج في المدن نتيجة لتلاشي أو تخامد الموجات الصوتية المتساقطة على أوراقها المخملية المهتزة باستمرار ( 17).
جمال المدينة : تشكل المدينة ككل وبأجزائها المختلفة مجموعات غنية معمارية وعمرانية معقدة ذات أحجام كبيرة، ويجب أن تتوفر فيها التكوينات المتناسقة تخطيطيا وفراغيا ومعماريا، أي أنه يجب أن تتوفر فيها العناصر الجمالية، وفي حال عدم توفرها فإنها لا تعدو أن تكون مجموعات أو تماثيل نحتية بشعة.
العمل العمراني العربي المشترك : – توصيات ندوة دبي –
إن الواقع التنظيمي والعمراني للمدن العربية وما يتخلله من أخطاء وما يترافق مع أزمات ومشاكل يدعونا إلى القول بضرورة تضافر الجهود في الدول العربية، وإلى العمل العربي المشترك، والتعاون لتبادل الخبرات ومناقشة الدراسات والبحوث في هذا المجال ، ويمكن أن ينظم هذا التعاون ضمن لجان مشتركة منبثقة عن الجامعة العربية أو مجلس التعاون الخليجي، أي على المستوى القومي العربي، أو على المستوى الجهوي، ويمكننا أن نذكر – في هذا السياق- بعض التوصيات ( في مجال التخطيط العمراني ) التي تم إقرارها في ندوة ” دبي” بدولة الإمارات العربية أثناء عقد المؤتمر العاشر لمنظمة المدن العربية من 3إلى 7 نيسان 1994 والتي كانت بعنوان ” المدينة العربية وتحديات المستقبل ” (18).
ضرورة إعداد استراتيجيات بعيدة المدى للتنمية الحضرية مع الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال.
نظرا لتعاظم أهمية المدن المتوسطة والصغيرة في تحقيق التنظيم الحضري والتوزيع الأمثل للسكان وكذلك في مجالات التنمية، يجب أن تولي الدول والمدن العربية اهتماما كبيرا لتدعيم دور المدن في خطط التنمية الشاملة.
الاهتمام بدور البلديات في إعداد استراتيجيات التنمية الحضرية ودورها أيضا في إعداد الخطط وتحديثها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
النهوض بالمجتمعات الريفية والبدوية في البلاد العربية والتنمية الشاملة لهذه المجتمعات أسوة بالمجتمعات المتحضرة.
مراعاة الاختيار الجيد والدقيق للموقع الجغرافي والموقع الطبيعي للمدن الجديدة، في ظل الظروف المكانية والأحوال البيئية من اجل الحفاظ على توازن البنية الاقتصادية.
من الضروري أن تقوم المدينة الجديدة على عنصر التخطيط الكامل، الذي يضمن بناء مستوطنة مستوفية لجميع الشروط التي يجب توفرها لقيام المدينة واستمرارها.
ضرورة حفظ وإحياء المواقع التاريخية، وكذلك الارتقاء بالأحياء القديمة والمتخلفة، مع تأكيد التوازن في التنمية والتخطيط الحضري، وتكوين لجان متخصصة من ذوي الخبرة والاهتمام بالتراث والتخطيط العمراني لتقييم التراث العمراني فنيا في المدن، وتقرير ما يجب هدمه وما يجب الحفاظ عليه، وتطبيق الأساليب العلمية في ترميم المباني التاريخية.
وفي الختام يمكن القول بأن العديد من الأزمات التي حدثت وتحدث في المدن، وان حالة الاغتراب المديني التي تصيب العديد من سكان المدن، سببه سوء التخطيط العمراني، ذلك أن التخطيط العمراني يتغلب عليه في كثير من الأحيان أهداف تجارية صرفة، من قبل تجار ومقاولي العقارات الذين يهمهم فقط الربح السريع ولا يهمهم صحة وسلامة المواطن، ولذلك فالتخطيط العمراني يتوجب عليه وضع المخططات العمرانية استنادا إلى دراسة ميدانية موسعة بالأخذ بعين الاعتبار جميع حيثيات وظروف التواجد السكاني وعلاقته بمستويات المدينة الاقتصادية والثقافية والعلمية والسياحية، وبما يؤدي في المحصلة إلى الحد أو إزالة الأضرار الناجمة عن سوء التوضعات العمرانية، وكما رأينا لا يمكن أن يكون التخطيط العمراني ترفا حضاريا، وإنما هو حاجة موضوعية لبناء وسكن ومدينة منتظمة متناسبة الأبعاد والتوضعات السكنية والخدمية والاستجمامية، بحيث تشكل في مجموعها لوحة جمالية حضارية متناسبة الألوان والمسافات غنية بالوظائف، زاخرة بالحيوية والنظام.
الهوامش :
د. أحمد الغفري ” تخطيط المدن ” مطبعة الجمهورية – دمشق 1993 – ص 5، ص 7
د. باقر النجار مجلة ” عالم الفكر” مقال ” البتية الثقافية والاجتماعية للمدينة الخليجية في الحقبة النفطية ، المجلد 24 عدد 4 ابريل / يونيو 1996 – الكويت – ص 77
لين سيمارسكي ، ترجمة عبد الفتاح الصبحي ، مجلة ” الثقافة العالمية ” الكويتية ، مقال ” أزمة المدن في العالم العربي ” العدد 41 يوليو / تموز 1988 – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت – ص 7
عادل مصطفى أحمد مجلة ” المستقبل العربي” مقال ” المدينة المعافاة في الوطن العربي دعوة إلى التعاون بين المدن العربية ” العدد 211 ايلول / سبتمبر 1996 بيروت مركز دراسات الوحدة العربية ص 85، ص 91
عامر ذياب التميمي ، مجلة ” العربي” مقال النمو السكاني والتحديات أمام العرب عدد 434 يناير / كانون الثاني 1995 ت الكويت وزارة الاعلام ص 108
لين سيمارسكي – الثقافة العالمية- مصدر سابق ص 9
8- 9 مجلة الثقافة العالمية ص10، ص9
تعريف اورده ليوبين توفيق في بحثه ” المدينة والتخطيط العمراني ” في كتاب ” التخطيط العمراني ” لمجموعة من المؤلفين ص 9 ولم يشر إلى مصدره ، نقلا عن د. احمد الغفري كتاب ” تخطيط المدن ” مصدر سابق ص18
المصدر السابق ص 9 نقلا عن د. الغفري مصدر سابق ص 18
” الموسوعة السوفيتية الكبرى ” ص 396 نقلا عن ” تخطيط المدن ” د. الغفري ص 19
د. احمد الغفري ” التخطيط العمراني اختصاص علمي أم هواية ” مجلة المهندس العربي عدد 112 – سورية – دمشق نقابة المهندسين ص 4
15-16 د. احمد الغفري ” تخطيط المدن ” مصدر سابق ص 160 ، ص 22 ، ص 152-157
17 – د. عمر وصفي مارتيني ” تخطيط المدن ” حلب – جامعة حلب – كلية الهندسة – قسم العمارة 1981 ص 475
18- مجلة ” المهندس العربي ” – توصيات ندوة المدينة العربية والمستقبل ” عدد 115 / 1994 ص 58

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى