في ذكرى وفاته الـ 19 .. الأديب عزت الغزاوي، ورسائله التي لم تصل بعد

عبد السلام العابد‏ | فلسطين

صدرت الطبعة الثانية ُ لكتاب (رسائل لم تصل بعد) عام أربعة ٍ وتسعين وتسعمئة وألف، عن منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين في القدس. ويقع في مئةٍ وثلاثين صفحة ً من القطع المتوسط.ويجدرُ بنا أن ننوه إلى أنّ هذه الرسائل ترجمت إلى أكثر من لغةٍ. كما أنها فازت بالجائزة الدولية في تشرين أول عام أربعة وتسعين ،عن مؤتمر ستا فنجر للدول الاسكندنافية والذي عقد حول حرية التعبير.
يجمعُ الكتاب ُ أكثر من لون ٍ من ألوان الإبداع الأدبي ..فقد اختار الكاتب ُ أسلوب الرسائل؛ لما في الرسالة من صدق ٍ في التعبير، ورغبة ٍ في البوح عن أدق العواطف الإنسانية، كما أنه مزج بين الرواية والقصة القصيرة والشعر والمقالة الأدبية.
تحكي (رسائل لم تصل بعد) عن تجربة ٍ إنسانية ٍ عميقة ٍمرّ بها الكاتب نفسه ،أثناء اعتقاله في سجون الاحتلال. فهو يكتب ُ عن أشياء عايشها وعانى منها طويلاً، وصاغها بحس ٍ مرهف ، ومشاعر رقيقة.فجاءت رسائلُهُ محملة بمعاناة المعتقلين، وأحزانهم وأشجانهم، وأحلامهم الإنسانية ،رغمّ الزنازين والجدران الإسمنتية العالية .
وعزَّت الغزاوي يوجّه هذه الرسائل للقارئ، في كل مكان وزمان؛ كي يطّلع على مظاهر الظلم والقهر والتعسف التي تمارس بحق إنساننا الفلسطيني ، في وطنه المحتل؛ لينبهه ويحضه على تغيير هذا الواقع الذي لن يكون مقبولا ً إلا إذا خرج المعتقلون الفلسطينيون من السجون، وانتهى الاحتلال ، ونال شعبنا الفلسطيني حقوقه الوطنية كاملة غير منقوصة ٍ.
ها هو الكاتب يجسد مشاعره وعذاباته، جرّاء فقدانه لحريته التي اعتاد عليها، وحرمانه من الممارسات اليومية الصغيرة التي يقوم بها، يقول الكاتب: (كانت هذه أول مرة ٍأخرج فيها من الزنزانة إلى فضاء ساحة فسيحة، كيف استطعت أن امكث شهرا ً كاملا ً. بين جدران زنزانة،وأنا الذي كنت كالفراشة، لا أستطيع أن أبيت ليلة دون أن أصحو مرة ً على الأقل،لأفتح باب النافذة؛ لأطل على المدى وألمس الليل بيدي ّ، ولأشم أنفاسه الهاربة من وجع العتمة؟ )
ويقول:(عندما دخلت ُ زنازين الجلمة، وجدت نفسي وحيدا ًبين جدرانها ..لم أستطع أن احدد بالضبط كم من الأيام قضيت بين مكتب التحقيق وساحة الشبح…قضيت أكثر من ساعة، وأنا أقرأ ما كتبه الوافدون قبلي على الجدران..على الباب وقفت طويلا ً أمام كتابة ٍ بالرصاص:( يا صاحب الهم إن َّ الهم منفرجٌ..) كم أشعرتني هذه العبارة براحة ٍ غامرة ٍ ، تسللت رضية إلى مكامن الألم ..كنت أشعر بعطش ٍ شديدٍ يكوي أمعائي …إحساسي بالماء يتضاعف مع تخيلاتي اللاهبة.) .
وتبرز في كتاب( رسائل لم تصل بعد)، صورة البيئة القروية الفلسطينية، من خلال حديث المعتقلين الذين سجل القاص تجاربهم… ولنتأمل عزيزي القارئ، الفرق الواسع بين القرية والمستوطنة …
يقول الكاتب على لسان أحد الشباب: حين تركت المدرسة لم يبق سوى الرعي ، وحين ضاق المرعى، توجهت ُ للعمل في المستوطنات القريبة. بالنسبة لي كانت المستوطنات مصدر مقارنة مع قريتنا، بشوارعها الضيقة وطوابينها وأغنامها وفقر أهلها..أما هذه المستوطنة، فإنها كالمدينة الصغيرة تذكرني بالغنى السريع والجديد في آن ٍ واحد ، من أين يأتون بهذه القوة ؟ يبدؤون في التخطيط لعمارة ..ويأتي المهندسون إلى الموقع بسياراتهم الفارهة.. يضعون علامات حمراء حول بقعة الأرض، وخلال أسابيع تقف العمارة ، تطل على القرية من بعيد ٍ كأنما تسخر من بيوتها القديمة..
كيف يقضي الكاتب المبدع ساعات عذابه الطويلة في السجن…؟ سؤال وجّهه المحقق للكاتب. فيكون جوابه : أحلم طيلة الوقت، وأكتب قصائدي …إنني اختزنت هذه اللحظات في الذاكرة.
ويستذكر الكاتبُ الشاعرَ التركي ّ ناظم حكمت الذي عاش التجربة ذاتها، فكتب شعرا ً صادقا ً معبرا ..مليئا ً بالعواطف الإنسانية الصادقة. يقول الغزاوي: ( أيها الشاعر ناظم حكمت، ربما أعيش مأساتك ذاتها في هذه الزنزانة الهادئة إلا من صراخ الروح ، حيث أتساءل طيلة الوقت: كيف يمكن لأية قوة ٍ أن تطأ بأقدامها رغبة شعب ٍ في العدل؟. وفي حالتك كانت الرغبة قويةً في التخلص من سيطرة الدكتاتور الداخلي الذي سكن شعبك فترة طويلة من الزمن .أما في حالتي فالرغبة قوية في رؤية أطفالنا يخرجون إلى الحياة دون خوف ) .
ويعّرف الكاتب الوطن تعريفا ً جميلا ً، ويؤكد أن فقدان الراحة والسعادة والأمن فيه معادل طبيعي للموت ..ويقول: ( انك في النهاية قد ترحل عن الوطن ، لكن ّ الوطن لا يرحل عنك..إنه ذلك الأوار من نور ٍ يتفتق بين عيني زوجتك، هو لمسة الصغار.. هو جلسة هادئة على الشرفة ، هو هرولة هاربة في الشارع ، وهو حق السيادة على الوطن، إذن هو لغز الراحة فيه.).
وفي السجن يتذكر الكاتب أيام صباه الأولى.. يتذكر الخامس من حزيران عام سبعة ٍ وستين، ويسترجع ذكريات التشرد والنزوح عن الوطن ثم العودة ثانية ً .. يقول: في ذلك العام كنت في الخامسة عشرة من عمري، تحدث الناس كثيرا عن الحرب، رأيتهم يتحلقون حول البسطات وعتبة المسجد الكبير في قريتنا. كانوا يشتعلون.لم أكن أقدّرُ بالضبط ماذا تعني الحرب، لكنني مساء التاسع من حزيران شعرت بأن الأمر كان جديا ً مؤلما ً وحزينا ً . كان أبي جالسا ً على فرشته وسط البيت، يضرب قدمه بباطن يده ، وقد غامت عيناه، لم أشعر أنّ الحرب تعنيه كثيرا ً. هب واقفا ً ..تركناه وحيدا ً…ونحن نعرف أنه لن يخرج ..واتّجهنا إلى الشرق.. لم يطل بنا الخروج. رجعنا مساء اليوم الرابع.. وجدناه على حاله يشرب الشاي ..أبي ، أفهم الآن كم كانت علامات الرحيل مرعبة ً بالنسبة لك.
وخلال عملية التحقيق يستفزه المحقق. بحديثه عن الإبعاد كعقوبة توجّه له، في محاولة ٍ منه لقياس تأثير ذلك على نفسيته، وفي وحدته في الزنزانة يستذكر الكاتب الرحلة القاسية التي قام بها إلى الأردن بُعيْد حزيران عام سبعة ٍ وستين… فها هو يرسم بصورةٍ معبرة ٍ آلام الرحيل وعذاباته الكثيرة…
يقول ? حين تحركت بنا الشاحنة، وجلس كل ُّ واحد ٍ منا، على أغراضه، لم يطل الصياح والّلغط فقد اطمأن كل ٌ إلى أغراضه… النساء يشحبن مع السفر ..والأطفال يذبلون … يتقيئون ثم يستسلمون لأحضان أمهاتهم .كنت قرب الباب، أطل على الشارع الراكض مع الشاحنة ..كانت سهول طوباس تنتحب .. هكذا تخيلتها .. لم يغرق فيها على اتساعها محراث واحد ٌ يزيل التجاعيد المنقوشة رغم أنها لم تخل من بقاع ٍ خضراء ..توقفت الشاحنة أمام النهر.. جفت مياه النهر.. وماتت الحياة حوله إلا من أعواد القصب .. الشمس ُ حارة ٌ لافحة ٌ والمسافرون يقطعون النهر، وقد كتموا أنفاسهم خشية افتضاح سرهم، لم أتخيل أن في الأمر جريمة .!!
ويضيف الكاتب الغزاوي : (على مدى ثلاثة ِ شهور قضيتها على الضفة الأخرى للنهر، لم أذق طعم الراحة.. كان كل شيء غريبا ً بالنسبة لي . فأين هدوء الروح الذي بدأ يخزُّ كالشوكة ويطفح بالحنين؟ . لكنني عدت أخيرا ً ماشيا ً على أقدامي كل المسافة حتى مشارف نابلس.. كانت تلك هي المرة ُ الأولى التي أتعلم فيها ماذا تعني العودة . ويومها أدركت لماذا حرق والدي ملابسه أمام تهديد الرحيل ..!!
ويتذكر السجين المبدع طفلته الصغيرة مروة، ويرسم هذه الصورة الرائعة التي يمتزج فيها أسلوب القصة بأسلوب الشعر: حين تركت مروة ابنتي كانت في شهرها السادس، وغبت ُ عنها على صورة لا تفارقني حتى الموت … هي بالذات سر ُّ من أسراري . هي التي أخرجتني من مأزق تفضيل الولد على البنت، منذ لحظة ميلادها. وفي الصباح الأخير، أفقت على حلم بأعلى قلق مفاجئ .. تركت فراشي دون صوت.. شيء ما جعلني أكشف الغطاء عن وجهها المحمر بدفء ٍ ينز ُّ طفولة ً بسلال المجهول.. بابتسامة غافية تمنيت لو تتسرب إلى داخلي. وكان آخر ما توقعته أن تفتح عينيها، لكنها فعلت… وأكملت ابتسامتها.. وكأنما وجدت ضالتها، وهي ترى وجهي يقترب ويغرق فوق وجهها، في تأمل ٍ، شعرت ُ أنني أرتوي بعد ظمأ . لا أدري كيف تركتها، لكن َّّ يدها الصغيرة خرجت من متاهة ِ الغطاء ِ، ولاطفت وجهي ).
كتاب ( رسائل لم تصل بعد)، للأديب الفلسطيني المرحوم عزت الغزاوي، جدير بالقراءة والدراسة والتحليل والتأمل والاستفادة من كنوزه، فلماذا لا نبحث عنه في مكتباتنا ونقرؤه؟! .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى