فكر

المواجهة

أ.د. محمد سعيد حسب النبي

      في رسالة مؤثرة من الطبيب الفنان “أنطون تشيكوف” إلى أخيه الذي كان يشكو من الحياة والناس جاء فيها “انس كل شيء في حياتك الحاضرة وعد إلينا، فإننا ننتظرك”. أرسل تشيكوف هذه الرسالة إلى أخيه الذي كان يشعر بأن الحياة تضع له العقبات في طريقه، والناس يسيئون إليه، فامتلأت نفسه مرارة وتعاسة واضطراباً ويأساً، ورغم دعوات تشيكوف لأخيه ليعود مؤكداً أن كل لحظة في حياته له قدرها وأهميتها؛ إلا أن أخاه لم يستمع إليه، وتملك منه اليأس ليفقد حياته دون أن يقدم لها شيئاً يذكر.

      إن نماذج هؤلاء الذين يفقدون الأمل شائعة في الحياة، إنهم يبددون أوقاتهم وما يملكون من قوى معنوية فيفْلسون روحياً حتى وإن كانوا أغنياء مادياً. والعجيب في الأمر أن تشيكوف كان فقيراً ومريضاً ووحيداً، إلا أنه عرف قدر لحظات حياته، وتمكن في عمر قصير أن يبث الحكمة العميقة في نفوس قرائه بما انساب على لسانه من كلمات إيجابية وسلوك قويم، فاستطاع بذلك أن يصنع من الفقر غنى، ومن التعاسة فرحاً، ومن الفراغ ثراء وجدانياً رائعاً.

      إن المشكلة الكبرى التي يعاني منها بعض الناس هي الشعور بالفراغ وعدم القدرة على تقديم ما يفيد في هذه الحياة، وساعتها يبدأ الإنسان بالشكوى من الناس والظروف والأحوال، فيستحيل كل شيء مُراً في الحياة، ويشرع الإنسان في عملية تبديد واسع لإمكاناته من وقت ومشاعر وأحاسيس، وتصير لذته الوحيدة في السخرية من الناس والحياة.

      إن النتيجة الحتمية لهذا النوع من الناس هي انعدام الشعور بجدوى الحياة ليغادروها دون أن يتركوا فيها ما يفيد. ولعل  ذلك يذكرنا برسالة تشيكوف إلى أخيه الذي أكد فيها أن كل لحظة في حياتنا لها قدرها، وتتجاوب مع الطريق الذي اختاره عظماء البشرية، والذين شقّوا الطريق أمام الناس، وساروا فيه حتى بلغوا أطرافه. وكفاح هؤلاء دعوة لنا جميعاً لنسير في الطريق نفسه، أو نتلمس فيه بعض الخطوات. 

       وإن تجارب الناجحين في الحياة تثبت أن النجاح يكمن في النظام والرقابة الدقيقة للإنسان على نفسه، وليس في العشوائية التي يعيشها المخفقون، ولا يتوقع أن ينتصر إنسان على عقبات الحياة بعيداً عن التخطيط والعمل الدائب لتنفيذ هذا التخطيط الذي يقود إلى النجاح.

     إن الثمرة النهائية والمُرضية لحياة الإنسان تستحق المحاولة والكفاح والعمل المستمر، والمواجهة لكل مشكلات الحياة بقوة ودون فزع أو ارتباك. وفي هذه الرحلة يحتاج الإنسان إلى المواجهة المستمرة للذات حتى يغرس فيها الأفكار العميقة النبيلة والسلوك النقي الرفيع، وينزع منها عوامل اليأس ونزعات التعاسة والاكتئاب. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى