عملية التسوية وخطأ كبير في فهم العقل الصهيوني

سري سمّور | فلسطين

من الأمور التي أخطأت فيها الوحدات السياسية العربية، ومثلها الثقافية والإعلامية، هي قصورهم عن فهم طبيعة المشروع الصهيوني والعقلية التي تتحكم به، أو توهم إمكانية تغير جوهر المشروع بناء على حسابات خاطئة، وبناء تصورات وانتهاج سياسات والتوجه نحو خيارات نابعة من قصور الفهم، والعيش في الوهم!

“إسرائيل” ليست شركة أو جمعية خيرية

كان العرب يطالبون بتحرير فلسطين، التي احتلت العصابات الصهيونية 78% منها في أحداث نكبة 1948، وحركة فتح التي تأسست أواخر خمسينيات القرن العشرين وأشهرت نفسها في 1965 إضافة إلى م.ت.ف التي ستسيطر عليها فتح لاحقًا، كان في صلب العقيدة العسكرية والسياسية لها (تصفية الكيان الصهيوني تمامًا) واسترداد كل فلسطين وعودة اللاجئين وأمور أخرى. المهم هنا أن السائد في الخطاب العربي والفلسطيني كان تصفية “إسرائيل” لا مساومتها.

في نكبة حزيران/ يونيو 1967 كانت الصفعة الكبرى، فقد انتصرت “إسرائيل” في أيام معدودة على جيوش العرب، الذين كان إعلامهم يملأ الدنيا صراخًا، ويعد بأنه سيلقي بالمحتلين الصهاينة في البحر!

فقد تمكنت “إسرائيل” من تدمير القدرات العسكرية المصرية وغيرها، واحتلت (الوسط الشرقي) الذي سيشتهر بالضفة الغربية بما في ذلك شرقي مدينة القدس والمسجد الأقصى، وقطاع غزة (أي صارت كل فلسطين الانتدابية تحت الاحتلال) إضافة إلى مرتفعات الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية. إنها هزيمة نكراء ونكبة جديدة -وليست نكسة بسيطة- سيكون لها ما بعدها.

مع كل الضجيج والصخب والضوضاء العربية التي رفعت بعد الهزيمة في قمة الخرطوم شعارات (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف) سلّم العرب عمليًا، وجزء من الفلسطينيين، بأن وجود “إسرائيل” فوق أرض فلسطين صار واقعًا، وأن المرحلة القادمة هي المساومة على حجمها وحدودها وليس على وجودها.

وقد كان المناخ الدولي يسمح بأن يطالب العرب باسترداد ما تم احتلاله في 1967، وصار هذا -وما زال عمومًا- عنوان النضال العسكري، الذي سيتحوّل إلى سياسي تفاوضي، أو استجدائي مع مرور الوقت.

كان العرب يطالبون باسترداد تلك الأراضي ويسند مطلبهم قرارا مجلس الأمن ذائعي الصيت (242 و338) مع الجدل حول الصيغة التي تطالب “إسرائيل” بالانسحاب من (أراض) أو من (الأراضي) وضياع عربي وجدل في صياغات القرار الفرنسية والإنجليزية، مع التأكيد بأن هذه الصياغات المختلفة ماكرة وعن قصد.

في المقابل كانت “إسرائيل” تعيش زهو نصرها الساحق على العرب، والذين روّج قطاع منهم أن (العدوان) لم يحقق هدفه ومبتغاه بإزالة الأنظمة الثورية، وكأن احتلال تلك المساحات الشاسعة ذات الأهمية الكبيرة من شتى النواحي، هو أمر هيّن، ولا يعدّ من الهزائم والنكبات!

“إسرائيل” وهي في تلك الحالة من النشوة لم تكن في وارد إعادة شبر واحد إلى العرب، بل زادت مطامعها وغطرستها، والأهم أنها في موضوع الضفة الغربية قررت إبقاءها تحت سيطرتها المطلقة، ولكنها قد تسمح في مرحلة ما، بأن يدير السكان فيها شؤونهم ذاتيًا، ولكن مع بقاء الإشراف والتحكم الإسرائيلي.

“إسرائيل” انسحبت من شبه جزيرة سيناء بعد كامب ديفيد التي جاءت بعد حرب رمضان (أكتوبر 1973) ولكنه انسحاب قيّد بل حدّد السيادة المصرية على سيناء، وأحيانًا يظهر لنا ما لم يعلن عنه رسميًا من آثار اتفاقيات بين الكيان الصهيوني والنظام المصري، بحيث يتجلى أمر واقع مرّ: عودة سيناء إلى مصر رمزية فقط!

لنترك مصر وسيناء ولنعد إلى فلسطين؛ فالتوجه الفلسطيني الذي سببه- وهذا ما أشدد عليه دومًا- الموقف العربي الرسمي جعل م.ت.ف تسعى إلى ما سيعرف بحل الدولتين، أي تقسيم فلسطين الانتدابية الواقعة تحت الاحتلال الصهيوني إلى دولتين اثنتين: دولة فلسطينية على مساحة 22% تضم الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس وقطاع غزة، ويشغل القطاع 1% من مساحة فلسطين، ودولة “إسرائيل” التي يفترض أن تقبل بالانسحاب من تلك الأراضي وتستحوذ على بقية فلسطين برضى عربي وفلسطيني.

وكما قلت فإن هذا المطلب أو التوجه والسعي له غطاء دولي سواء عبر قراري مجلس الأمن، أو ما كانت معظم دول العالم تتبناه من سياسة ترى أن الأراضي المحتلة في نكبة 1967 ليست إسرائيلية ولن يتم التعامل مع ما يتعلق بها مثل الأراضي المحتلة في 1948 ولكنها وفق المنطق والسياسة الصهيونية النشطة الماكرة هي جزء من “أرض إسرائيل”.

ومما شجع على تلك المطالبات موقف الولايات المتحدة الأمريكية التي امتنعت عن نقل سفارتها في تل أبيب إلى القدس، ومعها كثير من الدول الصديقة والحليفة للكيان الصهيوني. ونعلم ماذا حدث وكيف آلت الأمور في زمن ترمب في هذا الملف.

والولايات المتحدة التي صارت المتحكمة في إدارة الصراع ابتزت م.ت.ف كثيرًا دون أن تقدم شيئًا ملموسًا لها يمكن اعتباره خطوة حقيقية على طريق تحقيق (الهدف الجديد) الناجم عن نكبة 1967.

أما الدعاية أو الخطاب الداخلي الموجه إلى الجمهور الفلسطيني، فكان: “علينا أن نوجد لنا موطئ قدم في وطننا ولو عبر تقديم تنازل سنتراجع عنه عندما تتغير الظروف، ونبني لنا دولة مستقلة ستنجح وتتطور وتسترد كل ما سلبه منا الأعداء”.

غني عن القول بأن هذه الفكرة (الخطة) لم تكن لتغيب عن الكيان وأجهزته، بل لطالما استخدمها في دعايته الداخلية والخارجية، وفي نفس الوقت عمد الاحتلال إلى إحكام سيطرته على الضفة الغربية وليس إلى الاستعداد للرحيل عنها. أما غزة فقصة مختلفة.

كان هناك ولفترة طويلة خطاب سائد تقتنع به وتتبناه كثير من المجاميع الفلسطينية وله رواج كبير بين هؤلاء الأهالي الذين امتازوا بالتمسك بأمل الخلاص والتحرر مع مزج هذا الأمل ببساطة وعيش في وهم، وكان يعلو صوت ذلك الخطاب كلما صدر تصريح من هنا أو هناك أو نشر مقال في صحيفة أو خبر في إذاعة عن التحركات (السلمية): “هناك طبخة سياسية جاهزة تنتظر الإعلان”. (طبعًا فنيت أجيال ولم تتذوق بل لم تر تلك الطبخة الموهومة) “وأن مصير الضفة الغربية المحتوم هو العودة إلى السيادة الأردنية، وعودة غزة إلى مصر”. لم ولن يحدث هذا “فإسرائيل” قررت منذ أول يوم ألا تعيد اللحمة بين الضفتين الشرقية والغربية بغض النظر عن أية اتفاقيات أو علاقات مع الأردن.

إن المنطق الذي يتجلّى لنا بناء على ما تقدم أن العرب يتعاملون مع “إسرائيل” وكأنها (شركة) تبرم معها صفقات بل حتى جمعية خيرية توزع أراض بناء على ضمانات. هو منطق تبين تهافته، ودفعنا ثمنه كثيرًا من أعمارنا ومقدراتنا وعلاقاتنا فيما بيننا وبالتأكيد من لحمنا الحيّ وأرضنا ومقدساتنا.

“فإسرائيل” مشروع عسكري احتلالي اقتلاعي استيطاني توسعي عنصري، وهي لم تترك فرصة أو مناسبة إلا وأثبتت ذلك، ولا تخجل من هذه الحقائق .

أما اضطرارها إلى الحديث عن (السلام) فكان تكتيكًا بهدف كسب الوقت وتحقيق اختراقات، والأهم بيع الوهم وإيجاد راكضين وراء سراب إلى حين استكمال مخططاتها وقد ظهر لنا ذلك في محطات كثيرة. وحتى حينما تحدث بعض قادتها عن السلام لم يعلنوا أنه مقابل الأرض بل مقابل السلام أو الأمن!

خيار (الأرض مقابل السلام) الذي تبناه النظام العربي الرسمي، مع تحفظي ورفضي له وفق كل المنطلقات العقدية والسياسية والنفسية، ولكنه وإن كان خيارًا معقولاً لم يكن له أوراق قوة تدعمه وتجبر “إسرائيل” على مجرد التفكير فيه، بل بدا وكأنه تسوّل وتقديم عروض وحلول إلى المجرم لعله يقبلها أو حتى يفكر فيها!

وهذا ليس كلامًا طوباويًا مؤدلجًا -مع أنه لا عيب في ذلك- بقدر ما هو حقيقة قائمة مرئية، حيث إن العروض والأفكار المطروحة لما يسمى الحلّ السلمي، أشبه بحالة لص أو قاطع طريق اقتحم منزلاً وادعى أنه له وقتل بعض أهله وطرد البقية؛ فجاءه بعض المالكين والوجهاء وقالوا له: نعطيك معظم الغرف، ونشهد أنها لك ونبارك لك فيها، ولكن أعد لأهل المنزل ولو رواقًا صغيرًا منه!

أو كحالة لص سطا على أحدهم وسلبه ألف دينار، فأخذ يوسط ويطرح فكرة استعادة 300 دينار منها ولو بالتقسيط وسيعتبر الباقي (حلال زلال) على اللص، بل إنه يدعو له سلفًا بأن يبارك له في المال المنهوب!

حالة غريبة عجيبة كان يمكن تجاوزها لو تم التخلص من فكرة محاولة تغيير جوهر المشروع الصهيوني، بالتعامل معه كشركة أو جمعية خيرية أو ما شابه. وللحديث عن التسوية والسلام بقية إن شاء الله تعالى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى