عبادة الزعيم.. هل الشعب هو الذي يقهر نفسه بنفسه؟
حواس محمود
رغم التغيّرات والتبدلات الكثيرة التي شهدتها المجتمعات العربية منذ تأسيس الدول العربية، إلا أنها لم تتخلص بعد من ثقافة الزعامة وعبادتها وتقديسها، وهذا ما يؤدي غالباً إلى تحول “الزعامات” إلى حالات دكتاتورية مقيتة تحكم بالحديد والنار.
تستفيد الشخصية الزعاماتية من عدة أمور لتستمر في الحكم وتتحول إلى دكتاتور. فهي تتأسس على موروث شعبي يستمد ديمومته من ماضٍ لم يشهد حالات ديمقراطية في الحكم، إلا كاستثناءات نادرة ولأوقات قصيرة جداً، أما السائد العام فكان الدكتاتورية، بحيث توكَل شؤون إدارة الحياة العامة إلى الزعيم لا إلى الشعوب أو ممثليها في مؤسسات منتخبة.
كثيراً ما نسمع عبارة أن الشعوب العربية لم تصل إلى سن الرشد الفكري وبالتالي هي غير قادرة على إدارة نفسها بنفسها. هذه المقولات يروّجها الإعلام السلطوي، ويزيد تردادها في فترات الحراكات الثورية أو الانتفاضات الساعية إلى تغيير الأحوال القائمة.
وتعود ثقافة التبعية للزعامة إلى جذر نفسي أساسه شعور بالنقص والضعف والقصور تجاه الزعيم، لذلك تستسهل الشعوب ترداد عبارات الزعيم والتصفيق والتهليل له، وكأنه ليس مجرد إنسان عادي بل شخص خارق ومنقذ ومخلّص، من تحديات داخلية أو عدوان خارجي.
وتلعب الأزمات دوراً في صناعة الزعيم، إذ كثيراً ما يلجأ الحكام إلى استغلال الظروف الصعبة لتثبيت هيبتهم وهيمنتهم على مقاليد الحكم.
موضوع قديم متجدّد
عبادة الزعيم موضوع قديم ومتجدد. تستمر شعوب كثيرة في الانقياد للزعماء، رغم الخسارات الكبرى الناجمة عن سياسات وتصرفات هؤلاء، بدون أخذ العبر والدروس من التاريخ.
يشير الدكتور إمام عبد الفتاح إمام في كتابه “الطاغية” إلى أن التفكير اتجه قديماً إلى تأسيس السلطة على أساس إلهي، فقيل إن السلطة مصدرها الله الذي يختار مَن يشاء لممارستها، وما دام الحاكم يستمد سلطته من مصدر علوي فهو يسمو على الطبيعة البشرية وبالتالي تسمو إرادته على إرادة المحكومين كونه منفّذاً للمشيئة الإلهية.
ويشير إلى أن هذه الفكرة لعبت دوراً كبيراً في التاريخ، وقامت عليها السلطة في معظم الحضارات القديمة، وأقرتها المسيحية في أول عهدها، وإنْ حاربتها في ما بعد، ثم استند إليها الملوك في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر لتبرير سلطاتهم المطلقة واختصاصاتهم غير المقيّدة.
ويفصّل إمام أن هذه الفكرة تطورت واتخذت ثلاث صور متتابعة هي:
الديمقراطية صُنعت في الشرق… تفنيد أسطورة المركزية الأوروبية
ديكتاتورية الشعوب المقهورة.. لماذا نطالب بحرياتنا ونقمعها عند الآخرين؟
الدولة والخطاب السلفي: عداء مشترك لحريّات الشعوب
1ـ في الأصل، كان الحاكم يُعَدّ من طبيعة إلهية فهو لم يكن مختاراً من الإله، بل كان الله نفسه وقد قامت الحضارات القديمة عموماً في مصر وفي فارس وفي الهند وفي الصين على أساس هذه النظرية وكان الملوك والأباطرة يُنظر إليهم باعتبارهم آلهة، وقد وُجدت الفكرة كذلك عند الرومان الذين كانوا يقدسون الأمبراطور، ويعدّونه إلهاً وإنْ كان الشرق هو أصلها ومنبعها.
2ـ تطورت النظرية مع ظهور المسيحية، فلم يعد الحاكم إلهاً أو من طبيعة إلهية لكنّه صار يستمد صلته من الله، فالحاكم إنسان يصطفيه الله ويودعه السلطة، وفي هذه المرحلة ظهرت “نظرية الحق الإلهي المباشر” لأن الحاكم يستمد سلطته من الله مباشرة دون تدخل إرادة أخرى في اختياره، ومن ثم فهو يحكم بمقتضى الحق الإلهي المباشر.
3ـ منذ العصور الوسطى، وأثناء الصراع بين الكنيسة والأمبراطور، قامت فكرة جديدة مقتضاها أن الله لا يختار الحاكم بطريقة مباشرة وأن السلطة، وإنْ كان مصدرها الله، فإن اختيار الشخص الذي يمارسها يكون للشعب، أي أن السلطة في ذاتها من عند الله، ولكن الله لا يتدخل مباشرة في اختيار الحاكم.
تجليات حديثة
في القرن العشرين، ورغم التقدّم الهائل الذي أنجزته البشرية قياساً بالقرون السابقة، ظهرت تجسيدات كثيرة للحاكم المطلق، وبشكل خاص في الاتحاد السوفياتي وفي التجربتين النازية والفاشية.
ويعتبر آرشي براون، في كتابه “خرافة الزعيم القوي”، أن “اختلاق الأساطير عن عظمة الزعيم” في الفضاء الشيوعي شكّل “انحرافاً جذرياً عن الماركسية اللينينية ونتوءً زائداً داخل الأنظمة الشيوعية، مهما كانت قيمة دوره في تأمين الدعم للنظام داخل مجتمعات يغلب عليها الطابع الريفي”.
ولكن، “على النقيض من ذلك، كان تقديس الزعيم قلب الفكر الفاشي وله أهمية قصوى في النظامين الفاشيين الكبيرين في القرن العشرين: نظام بينيتو موسوليني وأدولف هتلر”.
ويشير براون إلى أن “المشترك في جميع أشكال تقديس الزعيم في إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية وفي الدول الشيوعية التي سمحت بهذا هو فائدتها في خلق تأييد للنظام من جانب أقل الناس اهتماماً بالصيغ الأيديولوجية”.
ويلفت إلى أنه “على الرغم من قمعية حكم موسوليني الشديدة، فقد كانت أدنى بكثير من النمط الشمولي المثالي في ألمانيا في عهد هتلر أو الاتحاد السوفياتي السابق تحت حكم ستالين”.
الاستسلام للزعيم
كثيرة هي الأسباب والعوامل المؤدية إلى عبادة الزعيم، وجزء كبير منها يرتبط بثقافة الشعب الخاضع للدكتاتورية.
يؤكد إتيان دي لابويسيه في كتابه المشهور “العبودية المختارة” أن الشعوب هي مَن تغذي أو بالأحرى تستسلم لعبادة الزعيم دون مقاومته. يقول: “الشعوب هي التي تترك القيود وتكبلها، أو قل أنها تكبل أنفسها بأنفسها ما دام خلاصها مرهوناً بالكف عن خدمته (الزعيم–الطاغية). الشعب هو الذي يقهر نفسه بنفسه، ويشق حلقه بيده، هو الذي يملك الخيار بين الرق والعتق، فترك الخلاص وأخذ الغل، هو المنصاع لمصابه (أو بالأصدق) يسعى إليه”.
وفي منحى قريب من ذلك، يعتبر غوستاف لوبون، في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، أن “الجماهير لا تشغّل عقولها، فهي ترفض الأفكار أو تقبلها كلاً واحداً، ولا تخضعها للفحص والشك والمعاينة المنطقية، ومقولات الزعماء تغزو عقولها سريعاً، فتحول هذه المقولات حركةً وعملاً وعنفاً وتضحية، والذين لا يشاطرونها إعجابها بالزعيم يُعتبرون كأعداء لها”.
ولكن تحميل المحكومين المسؤولية عن نمط الحكم الذي يمارَس عليهم فيه بعض التعسّف، إذ كثيراً ما يجد هؤلاء أنفسهم في ظروف تصعب فيها مقاومة السائد وتغييره. وفي تجربة ثورات الربيع العربي ما يساعدنا في فهم الديناميكية بين الحاكم والمحكوم، فحيث فشل النظام العميق في الاستفادة من الغضب الشعبي لتجديد جلده، حوّل الثورات إلى حرب أهلية أوصلت فظاعتها الناس إلى تمنّي عودة الحال إلى ما كان عليه قبل خروجها على الحاكم.
ففي دول الشرق الأوسط، يلعب القمع والخوف دوراً أساسياً في تبعية الشعوب للزعماء. كتب محرر “بي بي سي” جيرمي براون في كتابه “ثورات العرب”: “عندما قمت بأول زيارة لي إلى الشرق الأوسط بعد أن غزا العراق الكويت عام 1990 سمعت بعض المراسلين الأكثر خبرة مني يقولون إن العرب يحبون الزعيم القوي، وتلك السمة تقدم تفسيراً واضحاً لسبب استمرار وجود محبين لصدام حسين، مع أنه سجن وكثيراً ما قتل ذويهم فأدركت على الفور أن الطغاة حكموا بالحديد والنار، وأن فكرة أن العرب يحبونهم مجرد هراء”.