إشكالية العلمانية والسياسة أية علاقة؟
د. الغزيوي بو علي | فاس – المغرب
ينطوي هذا المفهوم العلماني عند أغلب المتعصبين على عدة طروحات وإشكالات منهجية -تهم مفهوم الدين، والدولة والجماعة والديمقراطية، والسلطة، والسياسة، فهذا المفهومتطور مع بروز العديد من العوامـل منها على الخصوص، الاتجاه الوضعي، والعلميوالتقريبي، والاتجاه العقلاني، من هذه العتبة نادت أغلب النظريات بالعملية الانفصالية بينماهو ديني، وما هو وضعي، وأخذت العملية تنمو بنمو الدولة، والجماعة، حسب تعبيركانطوهیکل.
لكن العرب لا يرون في هذاالمفهوم “العلماني”إلا تردید، للخطاب الغربي ومستلزماته، هوالذي يقتل فينا تراثنا، ويعلمنا كل أنواع الانكسارات، والغربة، ولكنالسؤال المطروح على أغلب الباحثين، لماذا هذا الاقصاء للغرب هل نتعامل معه تعاملا تركيبيا، أمندا للند، أم أن نحيي قبل أن نستقبل، أم أننا نتخلص من كل الطروحات الغيبية والتلفيقية كما يرى الجابري، وأن نجعل التراث يعيش بين ظهراننا، وأن نملكه لا أن يملكنا. وأن نعمل على القطيعةالابستمية مع الماضي والاستعانة بالاتجاه العقلاني، وهناك من يرى بأن التعامل مع الغرب لا يمكن أنيكون بريئا بل يحمل في طياته بذور القهر، والقسر، والتسلط وكلأشكال الاستغلال، وهذا الاتجاه هو الأصولي، فهو لا يحتسب للعلمانية إلا الشكل الحضاريالمتقدم لتكريس الحداثة، والعلمانية وتحريم الإنسان منإنسانيته، وهذه الغربة حسب هذاالاتجاه الأصولي هو البعد عنالأصل، الدين السمح، وبطلان كلالسنن، مع العلم أن الدين هورسالة تعمل على تقديس الإنسان، وجعله ينعم بمكارم الأخلاق لا أن يصبح شيئا، أو بضاعة تباع وتشترى.
أما الاتجاه التوفيقي الذي يعمل على التعامل مع العلمانيةوالفكر السياسي فهو يحاول قدرالمستطاع أن لاینسلخ عن الماضيبل يجعله يعيش الحاضر، وهذاالحضور هو بمثابة اتخادالقرارات من الحاضر وليس منالماضي مع إعادة تمثل المفهوم العلماني داخل المناخ السياسيمن حيث هو إشكالية لازالت تثير النقاش في خريطتنا الثقافية، والواقع أن التفكير حسب هذا الاتجاه يساعد على التحرر من الإسقاطات ومن العنف اللفظي الذي تمارسه الفئة المتعلمة، وكذا التحرر من الطابع المازوشيالصادر عن أصحاب الأصولية، كما يرى عبد الإله بلقزيز، ففي هذا التوفيق نلغي الأنا ونجعلها تستقطب الذوات من أجل حوار كلياني يمسح كل خط أفقي وكلقراءة سانكرونیة، بل يجعل الفكر ينم عن قوة شمولية. وبارزا أهم المبادئ التأسيسية للجذر “العربي، والغربي” مع إلغاء كل ثنائية متقاسمة، المحيط المركز، والشرق، والغرب أما الاتجاه الرابع فهو يرى في الغرب العلماني وفي قاموسه السياسوي عتبة سفلى ينبغي أن نركبها ونعرف مكوناتهاوخصوصیتها، لكن السؤالالمطروح كيف نعرب هذا الغرب هلبالترجمة؟ أو بالهجرة إليه؟ أم بالمثاقفة أم أن نقرأه في ذاته ولذاته؟ ويرى بعض الباحثين أن القراءة بلغته هي السبيل الوحيد لإعادة بناء المجتمع صفدي “مطاع صفدي في كتابه نقد العقلالغربي.
فحين نفكر في مفهوم العلمانية لاشك أننا نقف على جسر زمني الذي ينطوي على البعد التمفصلي بين ماهو وضعيوماهو ديني، وهذا التمفصل رغم بعده البرغماتي، يعمل على إعطاء الوجود عبثا وبدون مشاورة كما يرى جورج لوكاتش “عالم الفكر”، ع 10، 1988، ص 24 أما الآن أمسى ذئبا لأخيه الإنسان “هوبز” فلم يعد حملا يصنع القراراتوالاختيارات ويسهر على تحقيقها إلا مع بداية القرن العشرين، وهذهالمشاركة عبر أجهزة الدولة: البرلمان – المجلس الإدارة – البلديةتجعله يتخذ القرارات، ويعمل على إصدار الأوامر والنواهي لاأن ينتظر “الخالق” أو السلطان كما حددها انجلز في “أصلالعائلة والملكية، أن الهدفالجوهري الذي يقودنا إلىمباشرة التجربة العلمانيةوالتعبير السياسي لا يؤدي إلىنجاح التراكم السياسي نظرا للتركيبة الاجتماعية العربية، من هنا أمسى من المستحيل أن نكتسب الممارسة العلمانية فيهذه المجتمعات العربية معناها الجوهري بصفتها اللباس الأساسي للديمقراطية، والتنظيم السياسي والأدوات المنهاجوية. وفي هذا المناح لم يعد الفعلالعلماني مفهوما ساكنا في المجتمعات العربية. بل أضحى المنافس للاتجاه الأصولي الذي يعمل على احتكار الحقيقة باسمالسلف الصالح، وكذا باسم التفويض للحكم بالله “للمقدس” مع إضفاء میتافيزيقية جديدةباسم الديمقراطية والسياسة، لأن أغلب الأصوليين يرون أن السياسة كما عولجت في القواميس المعاصرة بوشرت منطرف الرسول (ص) سواء فيحياته أو بعده في عهد الصحابة.أو في عهد الخلفاء الراشدينوهذه التحليلات، وهذه الحجج المقدمة لا تناقش ولا تعمل على النقض ولا التعديل، ويرى د. (محمود إسماعيل) في كتابه “الاتجاه الأصولي المعاصر” إن هذه القراءة السانكرونية تعملعلى تجسيد القدسية على هذا الماضي، من حيث هي ممارسةلاواعية حيث تفرض ممارسة قطعية مع التاريخ بالمفهومالماركسي أو الخلدوني..
العقلانية والاتجاه السياسي
انطلاقا من هذا العنوان الفرعي نرى محطتين، المحطة الأولى العقلانية والثانيةالسياسية، وبين المحطتين نرى استقلال عقلنيات مع بروز الصراع بين الكنيسة أو الدولةوالمجتمع.
وهذا الاختلاف من حيث البناء والوظيفة، لأن الاتجاه العقلاني قد ألغى كل تصور لاهوتي مع إعلان عن ولادة (الإنسان)، أما الاتجاه السياسي المبني على العلمانيةفهي تربي العقل لا الروح وهذا يناقض ما قاله أفلاطون فيمحاولته “فيدر” كل من يملكالصورة يملك الروح، ذ برقاوي “العلمانية – الدولة – البرهان ص 24 وهذا الامتلاك للاتجاه العقلاني هو تربية للعقل وإبداع لمبدأ المواطنية كما يقول برهان غليون ص 140، فجوهر العقلهو إحساس بالفردية والتناقض لاالتصالح والسلطة.
إن مايميز المجتمع العربي هو أن الدولة الروح المواطنة، السياسة العرق – اللغة) هي المركز والأداة، والقوانين التي أمستمرجع العلاقات بين الدولة، والجماعة، فالدولة لا تتعامل مع الظاهر والباطن، بل تأخذ الباطن “الروح” بالمفهوم الصوفاني وتلغي كل ماهو فاني ويقول د. برهان غليون في هذا المقام إن إجهاض الدولة نابع هو نفسه منالمراهنة الروحية عليها تماما كما كان إجهاض الدين الأوروبي ناجما عن المراهنة المادية عليه” ص 157 “نفس المرجع،”.
وانطلاقا من هذه المنظومة الفكرية أمسى البناء للدولة بناء لا يعطي للبعد الاجتماعي أحقيته نظرا لطغيان البعد المثالي بالمفهوم الفرويدي المهيمن على كل استراتيجية عقلانية متحررة.
لقد عمل العرب على بناء الدولة الإيمان – الإخاء وأمست كلمة “النحن” بالمفهوم العرفي الجماعي هي الأساس فهي تأسيسا للأمة كما يقول برهان غليون ص 166، لكن مع التطورات وعجز النظام على التغيير والملاحقة العلمية والحضارية إلا تعبيرا على بروز حركات دينية “كالوهابية والسنوسية، والمهدية والناصرية والدلائية” التي تعمل على إبراز الأبعاد السياسية المطلية بالبعد الديني، لكنها لم تستطع أن توافق بين ما هو ديني وما هو سياسي، وما هو تاريخي مما جعلها تقزم التاريخ وتضعه في فلك الدين مما أسقطها في الشوفينية “الانغلاق” وعدم تأسيس ما يمكن تسميته بالهوية، والوطن، والأمة، والقومية، الشيء الذي فتح للآخر “الغرب” أن يبسط خلاله نظرا كما قلت للفقر الدفاعي والسياسي والنظري والعلماوي “أي العامي، فلم يتبلور أي مشروع إلا مع بروز الثورة الناصرية وتحول المشروع العربي إلى القومي مع اندماج للاتجاه الأصولي قصد محو كل إرث ماضوي والمتمحور حول العقيدة والتحرر الفكري وهذه الأزمة التي عرفتها الذات العربية لا تعني أزمة فكر، أو هوية، بل أزمة قواعد المنظمة لآليات الخطاب السياسي، فالسلطة حسب برهان غليون هي السيطرة على الدولة أي الجماعة أي في النهاية تصبح هدفا لذاتها سياسة للسياسة، ص 185.
إشكالية العلمانية والاتجاه الأصولي
كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول المد الأصولي، وامتداداته في العالم، وتعددت الكتابات سواء عربية أو غربية، أو أسيوية ولعل هذا العنوان يحمل طرفي نقيض لأن الاتجاه الأصولي يؤمن بالمرجعية النبوية ويحمل الوضوح، والاستقامة والمستقبلية، والماضوية والثورية هي بمثابة بيانات أو ميثاقا وطنيا ينبغي السير وفقه، من أجل تحقيق الشرط الاستقلالي، والثقافي كما تقول جماعة العدل والإحسان انظر “الاتحاد الوطني لطلبة المغرب” د. محمد الضريف، وجماعة العدل والإحسان لنفس المؤلف، ونقد السياسة، لبرهان غليون، ومحمود إسماعيل، وعلي حرب “نقد النص” وطه عبد الرحمن وبرهان غليون “الدين والدولة” وسمير أمين “الدين والدولة” وهلم جرا، فالاتجاه الأصولي بدأ يتقوى مع انهيار المد الشيوعي، وانهيار القومية، وبعض الحركات التحررية منذ بداية الستينيات، ونمت الثورة الإيرانية، والاتجاه الناصري التي تهتم بالروح العربية بقياس لاعقلاني، لأنها ظاهرة ولدت من داخل المجتمع لا من خارجه، ص 201، فهي جزء لا يتجزأ من أرضنا العربية فعليه ولدنا وبه نعيش، ونسعى، ونشقى فلا حاجة لنا للمساعدة الغربية. فالغرب هو الذي جعلنا نعيش خارج ذواتنا، ونبتلع ريق المرارة وآثار النكسة فتأسيس الدولة الوطنية ينبغي أن تندمج في مشروع العالم الجديد، لكن السؤال المطروح. هل نتوفر على مؤهلات للاندماج؟ وكيف يتم الاندماج وما هي شروط الاندماجما علاقة هذه الحركة باتفاقية “الكاط” فهذا الانتماء كملاحظ قد أسقط الدولة الوطنية حسب حسن الترابي، مما سيخلق صراعا بين الاتجاه الإسلامي، والاتجاه الحداثي العلماني للدولة، كما كان في عهد شاه. أم عند مصطفى كمال، أو في الأردن، أو في مصر في عهد السادات وهلم جرا، ومهما بكن من أمر فإن الاتجاهات السياسية المعاصرة والعلمانية ستعرف احتجاجات ضد الأسلبة، والتغريب بالمفهوم الفوكاوي لأن المجتمعات العربية الإسلامية حاليا عرفت ولازالت تعرف صراعات سواء كان فكريا، أو اجتماعيا، ويقول برهان غليون في هذا المقام “هو الذي يجعل الصراع شموليا وشاملا من جهة ويغلق فرص التسوية السريعة والبسيطة من جهة أخرى، ص 235. فالاتجاه الأصولوي يعمل جاهدا على إلغاء هذا المفهوم العلماني بكل خطاباته، ولكن دون أن يفسر هذا الإلغاء، أو المحو، وهذا البروز كما يشير برهان غليون هو محو للقومية وديكتاتورية الدولة. والرد المباشر على القطيعة بين الدين والدولة ويقول برهان غليون “إن مفتاح فهم طبيعة ومنطق نمو الشركة الإسلامية كحركة معارضة دينية جماهيرية موجود في طبيعة الدولة والنظام القائمين أنفسهما وكرد عليهما” ص 267 – 268 وهذا الحضور للحركات السياسية الإسلامية هو حضور ينبغي أن يعاد فيه النظر في كل تركيباته وتصديقاته ما دمنا نؤمن بالاختلاف، والحوار الذي هو أساس الاختلاف والاستمرار لا أن نلغي أي خطاب، لأن الإلغاء هو بمثابة عودة إلى السلطات والهيمنة بالمفهوم الماکيافيلي، لأن العقلانية هي فلسفة مفتوحة تقوم على يقين مزدوج، يوجه النشاط الإبداعي والنقدي لكي يكون نظرية صحيحة تعبر عن قوانين الاختلاف وليس الانغلاق لذا لابد من الحوار بين المختلف معي ومعنا، دون محو أو إقصاء كما يفعل اليمين المتطرف الغربي (الفرنسي والأمريكي فبواسطة الحوار نبني الإنسان والوجود، ونبدع صيغ مفاهيمية فلسفية، وأدبية وأخلاقية وعلمية، يكون فيها الإنسان هو الفاعل والمنفعل ولا يبقى متبوعا ولا مقصيا كما يرى فوكو في كتابه المراقبة والعقاب، ص: 27.